شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صديق !؟
بقلم: محسن أحمد باروم
أرأيت من حملوا على الأعواد
أرأيت كيف خبا ضياء النادي
نعم لقد خبا ضياء وهاج، كانت تنتشر أشعته الساطعة في مختلف مجالات التربية والتعليم، وأفل نجم لامع كان يتألق في سماوات الفكر والمعرفة، وأندية الأدب والصحافة ومحافل الاجتماع والخطابة، حين نعى الناعي إلى جمهرة الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين مشاعرهم وفاة المربي اللامع والأديب الجهير، والخطيب المفوه الأستاذ محمد فدا.. فبكت القلوب وسالت الدموع من مآقي العين، وانفعلت الوجدانات وتأثرت العواطف الإنسانية، فيهم أعمق التأثر، لأنها فقدت في شخصه الحبيب ألواناً من المواهب الفكرية والتربوية المستنيرة وضروباً من المزايا الإنسانية الخيرة، وصنوفاً من الخصائص النفسية والخلقية الباهرة التي قل أن تتكامل لإنسان.
كان أخي محمد فدا مربياً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني الخير والوعي والإدراك والبناء، فقد جادت عليه العناية الإلهية بمواهب فطرية ممتازة جعلته معلماً ومربياً من الطراز الأول.
لم يكتسب هذه الأصالة في فن التربية والألمعية في دنيا التعليم عن طريق دراسته لأصول التربية وطرق التدريس في كليات إعداد المعلمين شأن غيره من كفاة المربين، ونوابغ رجال التعليم ولكنها لقانة الذهن وأصالة الطبع، وقوة الاستعداد العقلي، والميل الفطري الذي يتجلى قوياً باهراً في هذه الناحية من نواحي الحياة المهنية الإنسانية.
وآية ذلك أن أخي محمد فدا لم يمارس فنه الذي تخصص فيه فترة طويلة من الزمن في مرحلة الدراسة الجامعية والعليا، إذ قد أكمل دراسته الجامعية في كلية الشريعة بجامعة الأزهر، ثم أمضى عامين فيها يتخصص في فن القضاء الشرعي، وعندما عاد إلى بلاده لم يجد في نفسه ميلاً كافياً إلى الانخراط في مهنة القضاء وإنما وجد نداء خفياً، وخاطراً ملحاً ملأ عليه أرجاء نفسه وسيطر على قوى تفكيره يدعوه إلى العمل في مجال التدريس، والانصراف عن المهنة التي أعدّ نفسه لها، واستجاب فقيدنا لذلك النداء الهامس الصادر من أعماق نفسه استجابة طبعية قوية، ومارس الفن العظيم الذي عشقه أعظم العشق: إخلاصاً في العمل، وعمقاً في الإدراك وروعة في الأداء المهني، ونزاهة في النهج السلوكي، ما رفعه في أعين المدرسين والطلاب على السواء، ووثق أواصر الحب والمودة، والانعطاف بينه وبين جمهرة الآباء وأولياء أمور هؤلاء الطلاب.
لقد كان فقيدنا مؤمناً كل الإيمان بأهمية التربية في بناء الشخصية الإنسانية، وصقل المواهب وإثارة قوى الخلق والإبداع في المادة البشرية التي تعمل على تشكيلها وتوجيهها بما يتفق مع مطالب نموها النفسي والعقلي والجسماني والخلقي والوجداني ويحقق لها الاتزان والانسجام والإنتاج في المجتمع الإنساني التي قدر لها أن تعيش فيه.
ومن أجل ذلك كله كرّس الفقيد كل مواهبه الفطرية العظيمة في تنشئة جيل من الشباب الصاعد، مؤمناً في مبادئ التربية الإسلامية الفاضلة القائمة على البدل والتضحية والحب والتسامح والبناء والإنتاج عاملاً على الاستفادة من إمكانات العلم الحديث ومناهج التربية التقدمية الخصبة إلى أقصى حد مستطاع.
ولقد وفق الراحل العظيم كل التوفيق، في فهم رسالة المدرسة الحديثة المتطورة كأدقّ ما يكون الفهم، واستخدم كل طاقاته الفكرية المعطاء، ووعيه التربوي المستنير في الأخذ بمعطيات هذه المدرسة التي آمنت بوجوب جعل المدرسة قطعة من الحياة، تؤثر فيها تأثيراً إيجابياً خيراً وتنفعل بأحداثها ومؤسساتها الاجتماعية إلى حد كبير.
وفي سبيل بلورة هذا الوعي التربوي العميق، دعا الفقيد إلى إسهام مدارسه في بناء المجتمع المحلي وتحسين مرافقه الحيوية العامة، فقاد طلابه في مواكب منتظمة حاشدة، ملؤها الحماس والإخلاص لفكرة العمل وفلسفة البناء في مناحي الطائف الجميل، وأثبت للملأ أجمعين قدرة المدرسة المتطورة على الإسهام الخير في النهوض بالبيئات المحلية، وفي إحداث ألوان من التغيير في طرائق تفكيرها وأساليب حياتها.
لقد آمن الراحل الكريم إيماناً صادقاً بالبناء في سبيل الصالح العام، وجعله محور فلسفته في الحياة ومنهاج تفكيره في السلوك، فهو ما انفك يبني عقولاً ناضجة ونماذج بشرية متماسكة وعلاقات إنسانية وطيدة، عمادها الحب المحض والولاء العميق، والمشاركة الوجدانية المخلصة.
ولا غرابة حين رأيته طوال حياته يسعى في قوة وجدٍّ وحماس ظاهر إلى الاشتراك في جماعات النشاط المدرسي والاجتماعي حين كنا زملاء متعاصرين في مدرسة الفلاح بمكة، وفي دار البعثات العلمية، بالقاهرة، ينفق جانباً كبيراً من وقته لتنظيم هذه المناشط الاجتماعية على اختلاف أشكالها وتنوّع مظاهرها.
ولم يفارقه هذا الحماس العقلي حين فارق مقاعد الدرس وانتقل إلى مجال الحياة العامة يشارك في ألوان مؤسساتها الثقافية والصحفية كالعهد به، دائب النشاط جمّ الحركة ذا شخصية إنسانية آسرة..
ولست أشك بعد ذلك كله في أن من أبرز خصائص هذه الشخصية المحبوبة هي ما امتازت به من خفة الروح، وحلاوة الدعابة وسجاحة الخلق، وبلاغة القول وذلاقة اللسان.
ولعلّ الكثيرين من زملائه وأصدقائه وطلابه يذكرون له العديد من المواقف الخطابية المؤثرة في داخل المدرسة وخارجها، وفيها تتجلى مقدرته على ارتجال الكلام البليغ، والتعبيرات المنمقة في نسق بياني يشف عن قوة محصوله في فنون اللغة والأدب والبيان.
ومجمل القول فإن الصديق الراحل قد أفنى حياته في طلب العلم ونهل المعرفة من منابعها الصافية على أيدي الأساتذة الأعلام في مدرسة الفلاح بمكة، وحلقات الدرس في المسجد الحرام، وقاعات العلم بجامعة الأزهر، وأندية الفكر في دنيا الثقافة العامة الرحبة حتى اكتملت له شخصية المعلم الفذ وحنكة القائد الموهوب، وكياسة الأديب الأريب، وأبت له فلسفته في الحياة إلاّ أن ينهج نهج المعلمين الأوائل البناة، الذين أضاؤوا مسالك الطريق للمواكب البشرية، السائرة فيه منذ الأزل، وقدموا أرواحهم الغالية وعصارة حياتهم رخيصة في سبيل تحقيق هذا الهدف الإنساني السامي.
رحمك الله أيها الأخ العزيز، والصديق الوفي، والزميل الحبيب أوفى الرحمات، وأعلى مقامك في جنان الخلد كفاء ما قدمته لمواطنيك من عمل صالح سيذكرونك به إلى أبد الآبدين، وأمطر شآبيب مغفرته ورضوانه على روحك الطاهرة في مستقرها العلوي المطمئن ما هل قمر، وطلعت شمس على دنيا البشرية في هذا الكوكب الأرضي الفاني.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إلى أن يحين لقاؤك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :892  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.