شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ندوة الأساتذة والطلاب (4)
عن مشوار محمد فدا وإنجازاته
ـ الدكتور عبدالله مناع: لم يكن من حظي أن أكون تلميذاً من تلامذة الأستاذ (محمد فدا) فلم أكن من أبناء مكة حتى يكون لي هذا الشرف ولكن كان من حسن حظي أن التقيته بعد عودتي من البعثة في أواخر عام 62 ميلادية أوائل عام 63 ميلادية، كان ساعتها الأستاذ (محمد فدا) نجم التعليم في مدينة جدة وكانت مدارس الثغر تعتبر هي (الفيكتوريا كولج) السعودية وكان طلبتها من علية القوم وليس من أوسطهم وليس من طبقاتهم الدنيا كان ملمحاً يعطي بأن هناك شيئاً من الطبقية وكانت المدرسة تتبع مباشرة رئيس مجلس الوزراء وهو في ذلك الوقت الملك فيصل، المدرسة من خلال هذا المنظور كانت تبدو لي كما أنها هي مدرسة الطبقة الراقية وأظن أن هذه النقطة هي نقطة البداية في علاقتي مع الأستاذ (محمد فدا) فكأني احتججت على أن تكون هناك طبقية في التعليم وذلك بعد قدومي من مصر بعد ست سنوات من الدراسة ومن شرب الحياة المصرية بكاملها وهي حياة حافلة تقوم على تيار قومي شديد القوة واسع القبول، وهناك أفكار يسارية أنا كنت أحملها وما زلت أحملها ولست مستعداً للتنازل عنها وأظن كان هناك طالب أو طالبان يريد آباؤهما إدخالهما إلى المدرسة فذهبت إلى الأستاذ (محمد فدا) وكنت في ذلك الوقت طبيباً في مستشفى ونائباً لمديره وكاتباً صحفياً له إسهامات وله بعض السمعة وله بعض المكانة، فوجدت أنه يعرفني تمام المعرفة.. وبدأت الحديث معه بأنه لا يصحّ أن تكون هناك طبقية في التعليم وأن هذه المدارس لا بد من أن تفتح أبوابها لأبناء الوطن جميعهم، فقال لي: ما الموضوع، فذكرت له الطالبين فقال: أهما جديران بالدخول إلى المدرسة، فقلت: نعم، فقال: أرسلهما إلي. فأرسلتهما إليه وتم إدخالهما إلى المدرسة وتلك كانت البداية ولكن كان حظي حسناً إلى أبعد الحدود رغم قصر عمر الأستاذ وقصر عمر العلاقة التي امتدت منذ عام 63 حتى توفي. دارت الأيام وذهبت إلى الطائف منتدباً كمدير للشؤون الصحية في أواخر عام 63 وأوائل عام 64 ميلادية حتى إنني لم يكن لي حظ في المشاركة في المراحل الأولى لجامعة الملك عبد العزيز لكنني كنت أشارك عندما أحضر إلى جدة وأحضر بعض الحفلات التي تقوم حول المشروع، وصدر قرار بتحويل الصحافة الفردية إلى صحافة مؤسسات وكان مقدراً أن أكون عضواً في مؤسسة المدينة للصحافة نظراً إلى صلتي بالمدينة وللصداقة التي بيني وبين الأستاذ/محمد علي حافظ رئيس تحريرها والتي كنت أحد كتّابها وفعلاً تقدمت ووضع اسمي بين الأسماء المرشحة لجريدة المدينة وعضويتها ولكن حصل شيء غريب حيث صدرت المراسيم والقرارات الملكية بتعيين أعضاء المؤسسات ووجدت اسمي من بين أعضاء مؤسسة البلاد في وسط لا أعرفه ولا يعرفني بل أنكره وأحاربه وسط البورجوازية وطبقة رؤوس الأموال والوزراء ومن حكمهم أقلّهم (محمد سرور الصبان) وبقيتهم (علي الجفالي، محمد علي مغربي، عبد الله السعد) ولكن كان من بينهم الأستاذ (محمد فدا) والأستاذ (عبد الرحمن منصوري) أما البقية فمن الأغنياء الأثرياء وكبار القوم و (عابد شيخ محمد إبراهيم مسعود، محمد رضا، عبدالله دباغ) فكنت أودّ الاعتذار عن الدخول إلى هذه المؤسسة التي لا علاقة لي بأصحابها أو بأعضائها فأنا غريب عنهم، كما أنه لم تكن بيني وبين البلاد كصحيفة التي كان يرأس تحريرها الأستاذ (حسن قزاز) علاقة حسنة بل على العكس كانت العلاقة متوترة، فقد كنت أكتب في (الرائد) ثم في (المدينة) وفي كلتا الصحيفتين كنت أقف موقفاً مضاداً لصحيفة البلاد لكن بعض الأخوة أقترحوا عليّ بأنه لا يصح أن أرفض ولا بد من أن أوافق فقبلت والتحقت بالمؤسسة وكانت الاجتماعات غريبة جداً ولاحظت منذ البداية أن ذلك المجتمع ـ مجتمع رؤوس الأموال الكبيرة والوزراء السابقين والحاليين ـ انقسم على نفسه إلى مجتمعين ليبراليين ومحافظين، الليبراليون كان من بينهم وربما كان أولهم الأستاذ (محمد فدا) ومن بينهم وربما ثانيهم الأستاذ/محمد إبراهيم مسعود وثالثهم الشيخ/عبدالله السعد والأستاذ/عبدالله الدباغ، وكان أيضاً من بينهم الدكتور/عبد اللطيف جمجوم الذي كان طارئاً غريباً على الأمر كله فوجدت نفسي في وسط لست غريباً عنه ويمكن أن أعيش مع هؤلاء الناس، فوجدت ذلك المجتمع قد انقسم إلى قسمين عند ترشيح رئيس التحرير لجريدة البلاد وكنت حينها شاباً في الخامسة والعشرين من العمر ورُشحت أيضاً أن أكون رئيساً للتحرير لكن المسالة انتهت باختيار الأستاذ/عبد المجيد شبكشي لأن يكون رئيساً للتحرير وذلك يعد انتصاراً للمحافظين، واجتمعنا لنضع التشكيلات الخاصة بهذه المؤسسة فكانت هناك لجنتان ـ لجنة إدارية ولجنة الإشراف على التحرير أو لجنة شؤون التحرير ـ وقد كنت من بين أعضاء لجنة الإشراف على التحرير وكان من حسن حظي أن الأستاذ (محمد فدا) في هذه اللجنة والأستاذ/عبد الرحمن منصوري أيضاً في هذه اللجنة وكذلك الشيخ/عبدالله السعد الذي كان بالنسبة إلي مفاجأة أن يكون لديه هذا القدر من الليبرالية، وفي اجتماعاتنا وجدت كأننا نشترك بأننا نريد صحيفة للناس تعبر عنهم في حين كان المحافظون يريدون صحيفة تعبر عن الحكومة، ومن هنا كان الخلاف والاختلاف، الأستاذ/عبد المجيد شبكشي كان من بين المجموعة التي تريد أن تكون الصحيفة أقرب ما تكون إلى الصحيفة الرسمية في حين أن الأستاذ (محمد فدا) وعبدالله سعد يريدان صحيفة تعبر عن الناس وعن أحلامهم وعن همومهم وقضاياهم وتطلعاتهم، فحاولنا من خلال اللجنة التي كانت جلساتها من أجمل الجلسات وكانت تعقد مساءً في مقر الصحيفة في حارة الشام في عمارة باخشب باشا وكنا نطرح فيها أفكاراً جميلة وكنا على خلاف دائم مع رئيس التحرير، وتلك الأيام قربتني من الأستاذ (محمد فدا) واحتكيت به عن قرب واستمعت إليه بشكل أفضل وأصبحنا كما لو أننا في خندق واحد رغم الفارق في السن والفارق في المقام وكانت تلك محطة من محطات علاقتي بالأستاذ (محمد فدا)، ولكن كانت هناك محطات أخرى ليست بالحضور وإنما بالاستماع، فقبل هذه المرحلة استمعت إلى قصتين عن المدارس ومن المدارس القصة الأولى تتعلق بفصل أبناء الأمير/مشعل بن عبد العزيز وقد دوّت هذه القصة في جدة وكنت من ضمن الناس الذين علموا بها فأكبرت في الأستاذ هذا الموقف واعتبرته موقفاً سياسياً أيضاً وليس تربوياً فقط الذي كان ربما ينظر إليه هو من ذلك الجانب. والموقف الآخر: أنه في زيارة من زيارات الملك فيصل دخل على أحد الفصول واستمع إلى الدرس الذي كان يلقى في ذلك الفصل وكان في اللغة العربية وطلب من أحد الطلبة أن يقول له ما يحضره من الشعر فأجابه الطالب بالبيت العظيم والشهير والمرعب: (وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدَقُ) فالتفت الملك فيصل إلى الأستاذ (محمد فدا) قائلاً له: أأنت تعلمهم هذا؟! فقال: نعم هذا جزء من الأدب، فأعجبني أن ذلك الأستاذ يلقن الطلبة هذه المعاني الكبيرة وهذه الأفكار الكبيرة وهم في مقتبل الطريق. فكنت عند لقائي بالأستاذ (محمد فدا) في مؤسسة البلاد شديد الإعجاب بتلك المواقف التي سمعت عنها من قبل، وسرعان ما كبرت العلاقة بيني وبين الأستاذ لكني كنت أتمهل فيها لأنه لم يكن في بالي أن الأستاذ سيغادرنا سريعاً فاعتقدت أن العلاقة ستمتد عشرين أو ثلاثين سنة وليست سنة فقط. وأذكر ذات يوم قررت اللجنة أن يستكتبوني الافتتاحية الخاصة بالصحيفة على الصفحة الأولى وكان ذلك تشريفاً كبيراً لشاب صغير في صحيفة شبه رسمية وكان الأغرب لكي نعطي معنى الليبرالية الحقيقة أن العنوان الذي اختاروه لتلك الافتتاحية هو (صوت البلاد) ولم يكن الفضل لأحد في اختيار ذلك العنوان إلاّ للشيخ/عبدالله دباغ والأستاذ (محمد فدا)، ولم يكن سهلاً أن يوافق رئيس التحرير على عنوان كهذا، لكنه اضطر مستسلماً وفعلاً كتبت صوت البلاد لمدة عام ونصف عام بانتظام ولكن مع مرارات صعبة تتمثّل في وضع عنوان المقال وسطرين منه والباقي داخل الصحيفة ويذكر رقم الصفحة أحياناً وأحياناً لا يذكر وعلى القارئ أن يفتش عليه وكان ذلك نوعاً من (التطفيش) لكنني استمريت بدعم الأستاذ (محمد فدا) والشيخ/عبدالله دباغ على وجه الخصوص. والأستاذ (محمد فدا) أيضاً إلى جانب تلك المواقف كان عاشقاً للكلمة يكتبها ويسمعها ويفتش عنها ويعجب بها عندما تأتيه من أي شخص آخر، أذكر ذات يوم أنه قام بالاتصال بي هاتفياً ليخبرني عن إعجابه بكلمة كنت قد نشرتها في باب صحيفة المدينة اسمه (شيء ما) وكنت أكتب فيه خواطر في الأسبوع وكان عنوان الموضوع (كان الليل صديقي) فأعجبته تلك المقالة بل استعادها معي على الهاتف فأحسست أنني أمام فنان يحس بالكلمة ويشعر بها، وليس فقط مربياً أو ليبرالياً أو أستاذاً في التربية. الأستاذ (محمد فدا) في البدء وفي النهاية هو أكبر من معلم وأكبر من مربٍ.. إنه هو رائد من روّاد التعليم إن أردنا أن ننصف الأمر، واقترح أن يكون (رائد التعليم) أو شيئاً من هذا القبيل في عنوان الكتاب وأتمنى أن نساعد الأستاذ/عبد الله الجفري في هذه المهمة العظيمة والجليلة بأفكارنا كلها في خدمة هذا الهدف النبيل، وأختم كلامي عن الأستاذ (محمد فدا) بأنني لم أشعر طوال حياتي معه أنه كان مريضاً وأنه كان يعاني، بل كان شخصاً عظيماً يتكتم الهم حتى إنني عندما سافر للعلاج ظننت أنه كأي شخص مسافر لعمل فحوصات أو استكمال علاج أو حتى ربما عملية صغيرة، ولم يخطر في بالي أنه مودعنا في تلك السفرة لعدم علمي بخطورة حالته الصحية، وكان أيضاً مظهره لا يكشف مرضه فقد كان لآخر لحظة أنيقاً مرتب الهندام، ولذلك فقد كان خبر وفاته بالنسبة إلي كالصاعقة وكان عمره ـ آنذاك ـ أربعين سنة، وأنا أعتقد أننا لم نعوّض شخصاً بديلاً عن الأستاذ (محمد فدا) رحمه الله. وبقيت لي ذكرى معه يوم دعاني للغداء في بيته الذي كان في المدرسة وأتيت على موعد الغداء ولم يكن هناك غيري وهو ومعنا إحدى بناته الصغار ولم أكن أعلم أن ذريته كلها بنات فقط فكان رحمه الله بسيطاً وأنيقاً وأعتقد أن ذلك الغداء واحدة من أجمل ساعات حياتي على الإطلاق. رحم الله الأستاذ وأسكنه فسيح جناته.
ـ محمد سعيد طيب: لقد سقط من السماء كنسر جريح، فلقد كان جارها علواً وارتفاعاً، لقد هزمت الأحزان في نفسي كل شيء فلا شيء يعوضنا عنه لا شيء.. الحقيقة أن الدكتور عبد الله مناع كأنه كان يعبر عما في نفسي، والله ما تمنيت شيئاً إلاّ أن أقول هذا الكلام.. فأستطيع أن أزعم أنني كنت شديد القرب منه وأنه ـ رحمه الله ـ قربني منه كثيراً وفتح قلبه لي.. وأستطيع أن أزعم كذلك أنني عرفت عنه الكثير لكنني أريد أن أتكلم على عجالة (قبل العشاء) في ما يمكن تسجيله وبعد العشاء أتكلم عما لا يمكن تسجيله وعلى سبيل المثال: أناقته التي لم تكن شيئاً عابراً فأنا شخصياً لم أعرف أحداً غير الشيخ/محمد سرور الصبان في مثل أناقته ثم يضاف إلى ذلك العطر الذي كان أساسياً ومختاراً بدقة سواء كانت الأوروبية الباريسية أو الشرقية الهندية بالغالي والنفيس، فأذكر أنه اشترى ذات مرة تولة عطر بخمسة آلاف ريال وتلك الخمسة آلاف حينها تمثل راتب وكيل وزارة وراتبه ثلاثة آلاف ريال ـ راتب مدير عام وزارة ـ لأنه لم يصبح وكيل وزارة إلاّ بعد أن توفي، وعند وفاته لم يجد أهله لديه إلاّ مجموعة من البدل المتميزة والكرافتات الراقية والأحذية الجميلة والعطور الغالية فكان ذلك هو ميراثه فقط فالحقيقة كان ملبسه وعطره ومأكله ومشربه وتذوّقه للأكل والشرب شيئاً استثنائياً ولا يعلى عليه. ويحضرني موقف إنساني يتذكره الأخ سليمان تماماً فقد استدعاني الأستاذ (محمد فدا) ذات يوم وقالي لي: يا أخ سعيد، هذا من الأستاذ الكبير/حمزة شحاتة. وكان مضمون تلك الرسالة أن الأستاذ/حمزة شحاتة يريد (جراك) حيث إنه قد انتهى من عنده في القاهرة، وبالطبع اهتم الأستاذ (محمد فدا) بهذا الموضوع اهتماماً بالغاً فقال لي: شوف يا محمد سعيد أولاً أنا هادا الأستاذ الكبير على صلتي به وإعجابي به ومحبتي له عمره ما طلب مني شيئاً، ولذلك يعني هذا الموضوع نبغى اليوم نأخذه بأعلى درجات الجدية، استدعى سليمان فدا، فجاء سليمان وقال له: أبغى تنكة جراك. فقال له: تنكة صغيرة. فقال له: لا.. لا.. لا.. تنكة الغاز ومن أرقى أنواع الجراك مهما كلّف الأمر ولو بألف ريال التنكة. فذهب سليمان وأحضر التنكة وأخبرناه بذلك فقال: أحضروها إلى هنا، وجاء السفرجية بسفرة كبيرة ثم أحضروا التنكة وذلك ليتأكد من جودة الجراك فأمر بفتح التنكة واختبرها مرة وأخرى.. ثم نظر إلى سليمان وقال: هل هذا أحسن شيء؟! فقال له سليمان: أيوه هادا أحسن شيء فقال له: طيب، هيا شوف الآن هادي التنكة تجهّز للخطوط السعودية ـ ولو كلّف نقلها خمسة آلاف ريال ـ لازم تنقل بالطائرة إلى القاهرة للأستاذ الكبير حمزة شحاتة. فبالطبع عندما يأمرنا يجب علينا التنفيذ فقال سليمان: حاضر. وتم الشحن بعد ذلك وانتهى الموضوع ثم سافر بعد ذلك الأستاذ (محمد فدا) خلال الصيف، وفي يوم من الأيام وأنا في صحيفة البلاد وإذا بالأستاذ/عزيز ضياء يدخل قائداً الأستاذ/حمزة شحاتة على رئيس التحرير الأستاذ/عبد المجيد شبكشي وكان هناك الكثير من الأساتذة جلوساً في المكتب، فقلت للأستاذ/حمزة: إن شاء الله وصلتك تنكة الجراك؟ فقال لي: جراك إيه؟!. عندها صُعقت فقلت له: تنكة قد إيش كبرها. قال لي إيه؟: قلت له: والله العظيم يا أستاذ، يعني إحنا بنفسنا تولينا الأمر والأستاذ (محمد فدا) الله يرده إن شاء الله بالسلامة دا طبق الدنيا علينا يومها. فنظر إلي قائلاً: يا سيد يعني هوّا لو جات التنكة إللي بتقول عليها كنت أنا جيت البلد؟! أنا جي عشان أشرب جراك، كان ما جيت أصلاً إيش أجي أسوي، فقررت بيني وبين نفسي أنني لم أسمع شيئاً لأن ذلك سيثير غضب الأستاذ (محمد فدا) الذي عاد إلى الوطن.. ولكن محمولاً على الأعناق!!
ـ (تابع) محمد سعيد طيب: مما يقال ويسجل أنه كان الرجل القوي في شخصيته شديد الاعتزاز بنفسه لدرجة أنه كان يعامل كبار الشخصيات وأصحاب المعالي تعامل الشخص العادي. وأذكر ذات يوم أنني رأيت الأستاذ (محمد فدا) وهو يفتح باب السيارة للشيخ/محمد سرور الصبان فاستغربت ذلك فلم أره يفعل ذلك مع فيصل بن عبد العزيز حين كان يزور المدرسة (وأكلت معاه) فقلت له: يا أستاذ محمد بالله أنت تفتح باب السيارة للشيخ محمد سرور؟! فنظر إلي وقال: وهل شاهدتني أفتح باب السيارة لكائن من كان؟ إذا شاهدتني فتحت باب السيارة لكائن من كان فلك أن تقول ما شئت ولكن لدينا محمد سرور الصبان واحد فقط، (وترى ما تعرفو).. وطبعاً لم نكن ـ في تلك المرحلة من العمر ـ نعرف الخفايا العظيمة في شخصية محمد سرور الصبان!!
ـ سليمان فدا: (هيا اسمعوا لا تلخبطوا لنا الشغل)، نقول الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، أما (محمد فدا) فلقد بدأ دراسته التعليمية في الفلاح في (القشاشية) لمدة تسع سنوات من أولى تحضيري إلى تاسعة ثانوي بعدين أخذ سنتين تخصص في العلوم الشرعية والفقه على آية من يرد الله به خيراً يفقه في الدين فتخصص في العلوم الشرعية وابتعث منها إلى القاهرة/كلية الشريعة وعاش في كلية الشريعة خمس سنوات وواحدة سنة إضافية تركيز يعني، وبعدين عاد من هناك من كلية الشريعة وجد أن الشيخ/عبد الرحمن مرزوقي ـ رحمه الله ـ عيّن الأستاذ محمد قاضياً في رابغ وهو (عبد الرحمن مرزوقي في جدة وحسن بنجر ـ رحمه الله ـ في مكة فأخذ الأمر وطلع لسمو الأمير فيصل في قصر السقاف في مكة وأراه الأمر فقال له: (إيش بك) فقال له: (هادول عينوني قاضياً وأنا ما أبغى أقاضي) فقال الأمير: (أشوا إنت كرشك الآن كذا لمن تسير قاضياً فين تروح؟ إيش تبغى) فقال له الأستاذ (محمد فدا): أبغى سلك التعليم. فكتب له على نفس الأمر يحول إلى سلك التعليم بمديرية التعليم، فذهب وعمل مساعداً للشيخ/محمد حلمي الخطاط مدير المعهد العربي السعودي ومنها أنشأوا له المدرسة الرحمانية ـ السيد إبراهيم النوري ـ وكان من ضمن الذين درسوا في تلك المدرسة: محمد سعيد طيب وجماعته وكانوا يجدون فيه الشدة ولكن بعد أن تخرجوا قالوا له: يا أستاذ كنا زعلانين منك لكنك الآن أوجدتنا وسويتنا رجالاً الحمد لله. بعد ذلك انتقل إلى العزيزية الثانوية وكان مثل ما قال الأخ يطارد الطلبة، ثم واجهته مشكلة في المدرسة نفسها حيث كان هناك ادعاء على مدرس بأنه يتكلّم في الوهابية وتكوّنت لجنة وكان وزير المعارف في حينها الأمير فهد بن عبد العزيز وتم التحقيق ومن ضمن اللجنة الشيخ/عبد الله خياط، وبعد التحقيق وجدت اللجنة أن الطلبة مخطئون فصدر أمر بفصلهم من التعليم وهم أولاد السديري. ثم انتقل الأستاذ (محمد فدا) بأمر من الملك فيصل إلى مدرسة الطائف النموذجية وذلك بعد أن حدثت مشاكل في المدرسة بين المدير والإدارة المصرية فأصبحت إدارتين إدارة تعليمية وإدارة فنية (فطار فيها) الأستاذ/عبد القادر كعكي من المدرسة واستدعى الملك فيصل وزير المعارف ـ الشيخ/عبد العزيز آل الشيخ في حينها ـ وطلب منه ترشيح ثلاثة أشخاص لإدارة المدرسة فتم ترشيح الأستاذ (محمد فدا) والأستاذ/عبدالله عريف ـ رحمه الله ـ والأستاذ/عبدالله بوقس، وعندما رأى الملك ورقة الترشيحات قال له: هادا محمد فدا رجالنا، نبغى محمد فدا) فتم استدعاء الأستاذ (محمد فدا) لمقابلة الملك فيصل الذي قال له: ترى أبغاك تدرس في هادي المدرسة وتمسك هادي المدرسة، فقال له: مرحباً، بس أعطني صلاحيات كاملة. فقال له الملك: خد الصلاحيات إللي تبغاها. فقام بعد ذلك الأستاذ (محمد فدا) بانتقاء مدرسيه من مدرسة العزيزية وموظفيه. ومن ضمن الصلاحيات أيضاً أنه أخذني من مدرسة المعارف (أم 280 و 380 ريالاً) إلى المرتبة الخامسة (فخفخينا سرنا). وبعد مرور سنتين علينا في المدرسة النموذجية بالطائف نما إلى علم الملك فيصل انتهاء بناء المدرسة في جدة فأمرنا بالانتقال إلى جدة. في خلال السنة الدراسية جاءني فرّاش المدرسة وكنت في حينها رئيساً للمعامل الفنية وقال لي إن أستاذ الكيمياء قد كسر جهازين من أجهزة (كيب) التي يتم تحضير الهيدروجين فيها فذهبت وسألت عن مكان الحادثة فأراني الزجاج المكسور والمادة المسكوبة فكان الوعاء مكتوباً عليه: حامض كبريتيك مركز وخارصين فطلبت أستاذ الكيمياء ـ في تلك الأيام كانت هناك مشكلة مع مصر ولم يكن هناك أساتذة ـ فجاء الأستاذ فسألته إذا كان قد عمل التجربة بتلك الأوعية فقال: نعم، إيه ده القزاز حقكم خربان من فين مشترينو؟ فقلت له: يا أستاذ أنت في الليل حضّرت في الدفتر حقك، فقال لي: لأ ما حضّرت، فقلت له: كيف أنت عندك دفتر تحضير والمفروض تشوف المادة كيف تسير. ثم ذهبت إلى الأستاذ (محمد فدا) وأخبرته بكل ما حصل فقال: سيبو أخصرو بس. في العزيزية في مكة برضو قام بالتجربة أستاذ آخر ما هو فاهم، فانفجر الجهاز في الطلبة، فهذا تأشير إلى عمنا إللي قال عن الأساتذة واختيارهم لمن سار الاختيار بالشكل هادا صارو عصبة أمم أتلخبط الشغل علينا كله. كان الأستاذ محمد الله يرحمه ممن تعاطفوا مع الموظفين، أنا مدير المعامل وفي الإدارة المالية يشتغل محاسباً ومشرفاً على الإذاعة ومشرفاً على تسلُّم طلبات التغذية إللي تجي من الموردين، وأقيم حفل للرئيس السوداني/إسماعيل الأزهري حين جاء المدرسة، فخرجنا كلنا بما فيهم أولاد الأمير مشعل نضرب بويه وراح هو للسيد علي فدعق، أيامها كان رئيس البلدية، وقال: أيها السيد الحسيب النسيب مدرسة الفيصل تناديكم، ولدينا ضيف كبير، والشوارع غير مسفلتة وكلها تراب، وما صبحت المدرسة إلاّ وشوارعها مسفلتة. وهو في فراش الموت كان يقول: يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر: 27 – 30).
ـ محمد سعيد طيب: ونذكر قصة الدكتور طه حسين على عجالة بغرض التسجيل: فعندما قررت جامعة الدول العربية أن تعقد اللجنة الثقافية في الجامعة برئاسة الدكتور طه حسين اجتماعها في جدة فالحقيقة أن حكومتنا واجهها هم كبير جداً، ولكن وفقوا في موضوع الوفد، فقد تم اختيار الأستاذ/محمد حسن عواد والأستاذ/العطار والأستاذ/طاهر زمخشري والأستاذ/محمد سعيد العامودي والأستاذ/أحمد السباعي والسيد/أحمد العربي والأستاذ (محمد فدا) معهم أيضاً، فالمهم من يرافق الدكتور طه حسين فأرادوا شخصاً متمكناً من اللغة وأدائها راقياً ولباقته عالية فلم يجدوا إلاّ الأستاذ (محمد فدا) لأنه سيذهب معه إلى مكة والمدينة والمنطقة الشرقية لزيارة أرامكو هناك، وعمل لنا مفاجأة جميلة.. قال: إيش رأيكم عملنا لكم ميعاد مع الأستاذ العميد، وانتقى منا حوالى ثمانية طلبة أو عشرة، وكان ذلك عام 54 وأذكر أن السيد/عبدالله الجفري أحد الطلبة الذين اختيروا والدكتور/سعود سجيني والدكتور/فيصل منصوري وحسن موسى والدكتور صالح الخويطر وباخطمة فأتذكر يوم أن دخل الدكتور بكل جلاله وهيبته أن أصبنا برعب شديد ويقشعريرة وما لفت نظرنا أنه كان شديد الأناقة وعطره النفاذ ويقوده شحاتة (سكرتيره) الذي كان ما إن يخرج الدكتور سيجارة من العلبة إلاّ ويأتي شحاتة مسرعاً لإشعالها، ومضت دقيقة أو اثنتان ثقالاً ونحن صامتون فقال الدكتور: أتهابونني؟ وكان الأستاذ/العطار واقفاً فقال له: نعم هيبة العلم يا دكتور، فقال بما معناه: إن هذه البلد هي موطن اللغة وموئل الفصاحة وأصل الأدب ومنبع البلاغة، فقد كنت أتوقع أن أسمع من الشباب. في تلك اللحظة قال له الأستاذ (محمد فدا): يا سيدي العميد، أما قال قائلهم: من هنا شع للحقيقة فجر من قديم ومن هنا يتجدد. وكان ذلك بيت شعر للأستاذ/العوّاد الذي كان حاضراً للمقابلة والذي بعد أن سمع بيته الشعري انتشى انتشاءً كبيراً.. عندما طلب العميد من الأستاذ (محمد فدا) أن يعيد عليه بيت الشعر، فقال العميد: هذا شعر.. فقال الأستاذ (محمد فدا) والشاعر واقف أمامكم.. مشيراً إلى الأستاذ/العواد.

إحياء ذكراه

 
طباعة

تعليق

 القراءات :714  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج