ندوة الأساتذة والطلاب (3) |
عن مشوار محمد فدا وإنجازاته |
ـ الدكتور سليمان توفيق: كانت معاصرتي للأستاذ (محمد فدا) ليس فقط كطالب، لكنني قد عملت أيضاً في المدرسة النموذجية بالطائف، فمعرفتي به كانت كطالب وكموظف في مدرسته، وإنني أرى أن من سبقني في الحديث قد أفاضوا، لكنني أحب أن أؤكد نقطة متابعة الأستاذ (محمد فدا) لطلبته كانت سمة من سماته سواء داخل المدرسة أو خارجها فكان يهتم فعلاً بالطالب فقد كان رجلاً عاشقاً للتعليم ومن العبارات التي سمعتها منه وكان دائماً ما يكررها هي: (إذا أردت أن تنجح في عمل فعليك أن تحب عملك)، وقد كان المثل الأكبر في تطبيق تلك العبارة فبالتالي لم يكن من الصعب عليه استغلال الإمكانيات المتاحة لإنجاح العملية التعليمية وتلك كانت ميزة أخرى من مميزاته ـ رحمه الله ـ فقد كانت مدرسة الثغر النموذجية في جدة ومن قبلها المدرسة النموذجية في الطائف: لهما إمكانيات تفوق المدارس الأخرى جميعها فقد كانت لها ميزانية خاصة بها من ضمن الميزانية بالطريقة التي تسهم في رفع مستوى المدرسة إلى جانب أنه كان يقدم مساعدات من ميزانية المدرسة للمدارس الأخرى كالمطبوعات أو المراسم والأقلام، وهو ما يظهر اهتمامه بالتعليم والنهوض به بوجه عام وعدم اقتصار ذلك الاهتمام على مدرسته فقط. ومما أذكره أيضاً: أنه حين كان يجتمع مع الممثل المالي (على ما أذكر هو الأستاذ/صالح العجروش) لشراء سلعة معينة وتكون هناك مناقصات قد قدمت للاختيار منها الأنسب لم يكن يطبق قاعدة أخذ المناقصة التي تقدم أقل عطاء، بل كانت له فلسفة خاصة به وهي أن السلعة المراد شراؤها يجب أن تكون ذات جودة عالية لكي تخدم الحركة العلمية وليس بالضرورة أن أختار السعر الأقل، فقد كان يوقع على مسؤوليته على العطاء المختار. وأذكر أن الأستاذ (محمد فدا) حين كان في الطائف أصبح شخصية معروفة من شخصيات الطائف واكتسب مكانة اجتماعية كبيرة بين الناس، ولا أعتقد أنه مر على مدينة الطائف رجل مثله وقصته مع أسبوع الشجرة وما فعله في مدينة الطائف خلال ذلك الأسبوع من ردم للحفريات وتمهيد الأراضي للزراعة وتجميل شوارع الطائف ما يثبت أنه كان يقدم كل ما هو جديد ومفيد.. وبالنسبة إلى الجامعة الأهلية في جدة فقد كنت في حينها أعمل في جدة ورأيته أثناء اجتماعات اللجنة التأسيسية التي كانت تنعقد على مسرح مدارس الثغر النموذجية وهو يوظف الإمكانيات المادية والبشرية كافة لخدمة هذا الموضوع، فهذا يظهر مدى حماسته للموضوع، وأذكر فيما أذكر جرأته في الموضوعات التي كان يقدمها في المسامرات والحفلات التي تقام في المدرسة ومنها مسرحية (الشاعر والسلطان الجائر) وقد حضرها الملك/فيصل، وأذكر موقفاً حدث أثناء ذلك الحفل يتلخص في: أنه كان من ضمن الحضور شخص يدعى (الصوّاف) وكان كما يبدو أنه من أولئك الذين نطلق عليهم أعداء النجاح فبعد انتهاء الحفل قام بالنظر إلى الملك/فيصل ثم قال له: لاحظت أن بعض الطلاب يلبسون ((البنطلونات)) وهذا لا يجوز، وكان الملك/فيصل ذكياً جداً ويبدو أنه أحب أن يعاقب (الصواف) على تلك المكيدة فعندما قام الملك/فيصل لإلقاء كلمة ذكر أن ذلك الشيخ قال كذا وكذا فكانت المناظرة بين (محمد فدا) و (الصواف) الذي أصبح فيما بعد كمن أسقط في يده ولم تقف تلك المناظرة إلاّ بعد أن أنهاها الملك/فيصل، وبعد الحفل أعطى جلالته للأستاذ (محمد فدا) صلاحية أن من يرسب في مدرسة الثغر النموذجية يفصل ولا يستمر لأن تلك المدرسة تقدم إمكانيات كبيرة يجب على الطالب استغلالها ويجب أن يكون الملتحق بها من الطلبة المميزين فقط، رحم الله الأستاذ (محمد فدا) فقد كان شجاعاً في مواقفه الكثيرة. وكان هناك ما يميز الأستاذ (محمد فدا) ضمن الأشياء الأخرى الكثيرة التي تميزه عشقه للكلمة فقد كنا نتشوّق لسماعه وهو يلقي كلمة في أي مناسبة كانت بصوته الهادئ وأسلوبه الراقي وبلاغته العالية. والحقيقة لا أذكر أن الأستاذ (محمد فدا) كان يعاقب بالضرب حتى وإن تطلب الأمر فقد كان يطلب من المشرف أن يقوم بذلك. |
ـ الدكتورسليمان توفيق: تأكيداً على دعم الملك فيصل للأستاذ (محمد فدا) أذكر أن أبناء أمير المنطقة كانوا في المدرسة حينذاك وحدث أن رسبوا في الاختبارات فما كان من الأستاذ (محمد فدا) إلاّ أن قال لهم إنهم لن يلتحقوا السنة القادمة بالمدرسة فكان مثل ذلك الحوار (كلام كبير أوي) وعندما وصل الموضوع إلى مسامع الملك/فيصل أحب أن يكون دعمه في ذلك الحفل هو الدعم المباشر لسياسة الأستاذ (محمد فدا) في المدرسة. |
ـ السيد الحسيني: أحب أن أضيف هنا أن سبب وجود ميزانية مخصصة لمدارس الثغر النموذجية في ذلك الوقت إنما كان يرجع إلى ثقة الملك/فيصل في الأستاذ (محمد فدا) وسياسته المدرسية وحسن تصرفه في الأمور. |
ـ طلال ضليمي: أذكر عند التحاقي بالمدرسة أنا والأخ/حسن أنه لم تكن هناك أماكن شاغرة في المدرسة فأصبنا بإحباط وبعد أن تدخل الأهل بالاتصال على الأستاذ (محمد فدا) قال لهم أن نذهب إليه ونظراً إلى طبيعة دراستي التي كانت في دولة مصر باللغة الإنجليزية فلم أستطع الجواب عن الأسئلة لمحدودية معرفتي بالقواعد العربية حينها، فأمر بأن يلتحق الأخ/حسن بالصف الخامس وأن ألتحق أنا بالصف الرابع، لكنه عاد فقال بأني سألتحق بالصف الخامس أيضاً لمدة شهر كفترة تجربة لي وبعدها يقرر ماذا يفعل وكان ذلك الحافز لي لأقدم أفضل ما عندي وبالفعل عند نجاحنا أنا والأخ/حسن أكملنا المشوار سوياً. والجدير بالذكر أن متابعة الأستاذ (محمد فدا) لمستوى التدريس ومستوى الطلبة في مدرسة الثغر النموذجية أنتج طلاباً متفوقين على مستوى المملكة، فأذكر مثلاً أنه كان عند دخوله الفصل يكون تركيزه وسؤاله للطلبة الضعاف في التحصيل العلمي وذلك لشحذ هممهم حتى يجدوا أكثر في التحصيل العلمي كي لا يتعرضوا للتوبيخ والتأنيب مرة أخرى أمام زملائهم. ومن الناحية التربوية أذكر أنه رحمه الله لم يكن يفرق في المعاملة بين الطلبة سواء في العقاب أو الثواب بالرغم من وجود طبقات مختلفة في المدرسة فكان الكل عنده سواسية بل على العكس فربما من تربطه به صلة أو معرفة يكون معرضاً لعقاب أكبر من البقية. وقد كان رحمه الله مهتماً بثقافة الطالب والشأن العام فأوجد نظام الجمعيات والأسر ـ كما ذكر ـ لتكون مجالاً للمنافسة بين الطلبة بالإضافة إلى مجالات الموسيقى أو أي مجال خارج حدود المدرسة أيضاً، كما كان مهتماً بثقافة الطالب من خلال المكتبة. وأذكر ذات مرة أنني كنت أسير مع الأخ/حسن والأستاذ/محمد سعيد طيب حين كان مشرفاً علينا في جمعية الصحافة فرآنا الأستاذ (محمد فدا) فوجَّه كلامه للأستاذ/محمد سعيد طيب قائلاً: (هادول ما يقرو كفاية) ما أثار فينا روح الحماسة وأصبحنا من أنشط الجمعيات في حينها، فقد كان مهتماً لأبعد الحدود بكل ما ينفع الطالب. والحقيقة أنني وزملائي نعتبر أننا كنا من المحظوظين لمرورنا بتجربة التعليم مع الأستاذ (محمد فدا) لما وفره لنا ولما مكننا من معاصرته ورؤيته ولا أعتقد أن غير طلبته قد استفادوا مثل ما استفدنا نحن معه. فرحمة الله على الأستاذ (محمد فدا) الذي كان شخصية مميزة جداً في الجوانب كافة وقد تعلمنا منه الكثير. |
ـ الكشميري: الحقيقة أنني لم أعاصر مدارس الثغر النموذجية والإمكانيات التي كانت متاحة فيها في حينها وإنما عاصرت الأستاذ (محمد فدا) في الشبيكة، وفي المسعى حين كان هناك الفقر وكانت المدارس متواضعة جداً ويبدو لي أنه رحمه الله كان ظاهراً وبارزاً أكثر في مدرسة الرحمانية وقربه من طلبته وعلاقته بهم كمدرس أو كمدير مدرسة، فالسؤال الذي يطرح نفسه: أين أبدع الأستاذ (محمد فدا) أفي مدرسة الرحمانية حيث الفقر والإمكانات البسيطة أم في مدارس الثغر النموذجية حيث الرفاهية والميزانية المخصصة؟! رأيي أنا أنه كان مبدعاً وبارزاً أكثر في الرحمانية بدليل أنني سمعت الأخوة قد تكلموا عن مسألة العقاب وكيف أنه رحمه الله كان عنيفاً في عقابه أو شديداً مع الطلبة والحقيقة أن هذا هو عكس الانطباع الذي كنت وزملائي طلاب (الرحمانية) نجده تجاه ذلك الرجل الأستاذ والمربي والمقوّم والأخ الأكبر، أنا لا أقول إنه لم ينجح في مدارس الثغر بل على العكس حتى لو كلّف بالعمل في مدرسة أخرى فكلّي ثقة أنه كان سينجح، لكنني أقول إن تأثيره كان في (الرحمانية) أكبر على الطلبة فأثر على نتائجهم وعلى مستقبلهم وعلى دورهم في المجتمع وأنتج منهم ما أعرف وتعرفوا من رجالات المجتمع العظام. |
ـ الدكتورسليمان توفيق: لا أعتقد أن سبب ما ذكره الأخ الكشميري بخصوص بروز أو ظهور الأستاذ (محمد فدا) يرجع إلى اختلاف في شخصيته أو تعامله مع الطلبة وإنما أقول إن سبب الاختلاف يرجع إلى الفرق بين جيلين: جيل حافظ على تربية البيت المبنية على احترام الآباء وكبار السن والأساتذة بالرغم من المعاناة في المعيشة في وقتها وجيل آخر افتقر إلى عناصر التقويم في التعامل مع الآخرين منذ البداية في المنزل بالإضافة إلى الرفاهية التي كانت قد بدأت تظهر في المجتمع بشكل عام، وبالتالي فإن هذا الاختلاف كان السبب في ما لمسناه من فرق شخصيات الطلبة، وهو ما أوجب على الأستاذ (محمد فدا) بشخصيته الحازمة أن يبدأ بتوقيع العقوبات على الطلبة أو ما شابه وذلك حتى لا تخرج زمام الأمور عن سيطرته، وفي النهاية كان الهدف واحداً في تعامله مع الجيلين وهو الرقي بمستوى الطالب وصنع رجال المستقبل المنتظرين وإن اختلفت الطريقة. |
ـ الحسيني (إضافة): ذكر المهندس/كشميري كلمة في غاية الجمال والشيء الذي اكتشفته في الأيام المعدودة مع الأستاذ (محمد فدا) أنه كان قوي الملاحظة ولماحاً لا تفوته فائتة وسريع البديهة في اتخاذ القرارات، ولهذا كان يقدر نوع العقاب الذي يستحقه الطالب، ولقد عاصرت مدرسة (الرحمانية) منذ عام 71 إلى 73هـ فكان طلبتها من خيرة الطلبة آنذاك في مكة، وقد كنت في تحضير البعثات برئاسة السيد/أحمد العربي ومساعده الغزاوي وزملائي فيها صالح خسيفان، خليل جلال، وذاكر خوج، فكان المستوى الأخلاقي في تلك المدرسة على أعلى مستوى، حتى وإن وجدت من الطلبة (السوقة) فإنك تجدهم باختلاطهم مع باقي الطلبة يتشبعوا بأخلاقهم الطيبة ولذلك ربما لم يكن الأستاذ (محمد فدا) في حاجة إلى بذل مجهود كبير للرقي بالطلبة بعكس مدارس الثغر النموذجية التي كانت كما تعلمون مدرسة فيها من الطبقات المختلفة فإذا لم يكن حازماً معهم جميعاً لخرجت الأمور عن زمامها. |
ـ الدكتور إبراهيم توفيق: أحب أن أنوّه أن الأستاذ (محمد فدا) عندما تسلَّم مدرسة (العزيزية) بعد مدرسة (الرحمانية) كان هناك من الطلبة المشاغبين الذين كما قيل عنهم: (ما أحد يقدر عليهم) لكنه استطاع بحنكته وبحسن تقديره للأمور وبقدرته على الإقناع ترويض أولئك الطلبة وذلك خلال مدة شهرين إلى ثلاثة أشهر. |
ـ حسن أشعري: الحقيقة أن هذا الرجل تعرفت عليه وأنا غير راغب وعملت معه وأنا كاره، فلقد تخرجت وعيّنت معتمد المعارف في جيزان وكان ذلك عام 1373هـ (عام تعيين الملك فهد وزيراً للمعارف) وكانت تلك الوظيفة أكبر وظيفة تعليمية، لكني اعتبرت قرار تعييني قراراً بالنفي فأبيت وكان وكيل وزارة المعارف حينها الأستاذ/عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، وكان يعمل في التعليم رجلان هما الشيخ/إبراهيم النوري والشيخ/عبد المؤمن مجلد، وتعين الأستاذ/ناصر المنقور مدير عام وزارة والأستاذ/عبد الوهاب عبد الواسع مدير عام الإدارة، والأستاذ/محمد الفريح مدير عام الأوراق والأستاذ/حامد دمنهوري مدير التعليم (وثائقي أو شيء من هذا القبيل)، وبعد رفضي لتلك الوظيفة قابلت وكيل الوزارة وأوضحت له أنني لا أعمل إلاّ في مكة المكرمة وأنني تخرجت من المعهد العلمي السعودي وأريد أن أخدم في المعهد العلمي السعودي، وقلت له: إنني شاب ـ متخرج في الثانية والعشرين من العمر ولا تسعني الدنيا وكأنني العالم الأوحد في سن ثائرة ـ وأنني لم أتجاوزك لأحد ـ وكأنني أملك هذا ـ فقال لي: يا أخ/حسن أنا عبد العزيز بن عبد الله وأنت حسن الأشعري (هِد من خيلك سِبّقها) بمعنى أرني ماذا تستطيع أن تفعل، فعرضت الموضوع على أصدقائي من المسؤولين فعرضوا علي وظيفة مدير تعليم في الطائف فقلت: (الطائف أبرد وأنا ما أبغى الطائف أنا رجل أبغي العمل في مكة)، فذهبت للسيد/إبراهيم النوري ـ رحمه الله ـ وكان رجلاً عالماً وفقيهاً وأديباً وإدارياً ذا شخصية قوية، وكان هو المدير الفعلي للمعارف في ذلك الحين ـ وحاول مناقشتي في أسباب رفضي فقلت له: (أدوني إخلاء طرف، أنا ما أبغى أشتغل إلاّ في مكة وفي المعهد العلمي السعودي) ـ كان هناك نظام أن أي خريج يعمل مدرساً لمدة سنتين، فأخرج من جيبه (علبة حلاوة نعناع) وقال لي: (خد حلي فمك) فقلت له: (فمي حلو)، المهم قال لي: (شوف إنت تروح تشتغل مع محمد فدا في مكة المكرمة) فقلت له: (محمد فدا؟ لا يمكن أشتغل معاه) وأبديت له أسبابي والتي تمثلت في التالي: (هادا رجل مودرن وهادا رجل جي من مصر وأنا رجل أحلق بالموس وأحط عمة إذا لزم الأمر في الكلية وفي غيرها، أنا يعني شيخ بنفسو زي ما يقولو) وأنا ذلك الحين مبدياً رأيي في الأستاذ (محمد فدا) وإذا به يقف ورائي ويسمع طرفاً من حديثي مع السيد/النوري فقال: السلام عليكم، فالتفت وإذا به بنفسه وقضه وقضيضه فقال له السيد/إبراهيم: (فلان الفلاني) فرد قائلاً: (أهلاً يا أستاذ.. أنا سعيد أنني أتعرف عليك إنت ألقيت قصيدة إنت شاعر إنت أديب) فـ (رخاني خمسة مرش) ثناءً وتعطيراً وقال لي: أنا سعيد أن أعمل معك، فأسقط في يدي ووجدتني أمام داهية وعملت مع (محمد فدا) والوصف الذي يقال عليه إنه كان مربياً وكان رجل تربية، وكان مديراً، وكان ذكياً، وكان إنساناً قوي الشخصية يحمل فكراً وإيماناً ومبدأ، فكره وإيمانه ومبدأه أن ينهض بمسؤولية تربية جيل وتثقيفه وتعليمه وإعداده لحياة صراعها أداة العلم والفكر النير والقدرة على معرفة الحقيقة ومواجهة صعوبة مرها والتعامل مع حلوها بخلق، وهذا ـ إذا جاز لي أن أعزوه ـ فهو لبيته ولمدرسته وهو فلاحي، فقد كان أشد وأحسن مدراء من تخرجوا من مدرسة الفلاح وهي المدرسة المعروفة للجميع، وكان في الوقت نفسه هناك مربٍ فاضل وموجود في مكة المكرمة ويرأس إدارة أعلى معهدين موجودين في مكة المكرمة، وهو المربي الفاضل رحمه الله السيد/أحمد العربي والد/الأخ نزار وأخوه محمد، فالبيئة في البيت والبيئة في المدرسة والبيئة في المجتمع والهدف الذي اكتسبه من العلم ومن الاغتراب والدراسة الخارجية جعلت منه مربياً وصاحب رسالة وهدفاً طموحاً لم يكن همه أن يحصل الطالب في مدرسته فقط على كم مركز من العلم بل قبل هذا أن يبني شخصيته فكراً ومسلكاً ومنهج حياة، ولقد عُرض على (محمد فدا) أن يكون وكيل وزارة فاعتذر وأصرّ على أن يبقى مربياً، والأستاذ (محمد فدا) عندما غادر (الرحمانية) إلى الطائف خلف رجلاً مصرياً كان هو الذي يدير مدارس الثغر في الطائف تلك المدارس الخاصة بالأمراء واسمه (محمود أبو العلا) وكان له اسم وشنآن لأنه يملك هذا الدعم وهو تربوي صاحب شخصية فلم يكن أمام (محمد فدا) إلا أن يكون أقوى وأفضل وأحسن وأشد ولا سيما أنها مدرسة للأمراء، (محمد فدا) إنسان ولديه من صفات الإنسان شيء جميل، في تلك السنة ترفع راتب الجامعي من (450) ريالاً إلى (1000) ريال فكان (محمد فدا) وهو مدير المدرسة راتبه (1000 ريال) وأنا وكيل المدرسة وراتبي (1400 ريال) (1000 ريال راتب الجامعي و 400 ريال راتب الوكيل بالنيابة) وعندي سائق وسيارة وهو لا يرى في هذا غضاضة بل هو الذي سعى إلى أن أكون وكيلاً إلى جانب مهنة التدريس فأستحق بذلك راتب الوكيل، وهذا موقف نبيل من شخص يسمع رأيي فيه ويتعامل معي بهذا المستوى، فأصبح صديقي الذي كان في لحظات مرضه الشديد الذي لم يكن يعلمه أحد يستدعيني لأجلس معه.. فهو التربوي المربي صاحب رسالة ولي معه حوارات كثيرة، قد ذكرت بعض الأشياء عنه وسأتكلم هنا عن علاقته بالشيخ/محمد إبراهيم مسعود، وسبق أن ألمحت لها بأننا كنا في نادٍ يرأسه الشيخ/يونس سلامة ونائبه/إبراهيم بكر وأعضاؤه المجموعة الشابة المسؤولة الموجودة في منطقة جدة في الخارجية، وفي إدارات أخرى وبعض التجار مثل الشيخ/محمد نور جمجوم، عبد اللطيف، فؤاد ناظر، إسماعيل أبو داود، وكان أعضاء النادي إذا أحبوا أن يأكلوا (زفر طيب) يذهبون إلى مطبخ (محمد فدا) الذي أكلنا فيه لأول مرة (السوفليه)، فقد كان الأستاذ (محمد فدا) ذواقة في المظهر والمخبر والحياة، وكان يعتني بمظهره اعتناء كبيراً ويعتبر أنه قدوة ومثل للجيل الذي يربيه على خلق ومظهر وقوة شخصية. أذكر أننا أردنا أن نذهب إلى مصر في أول سنة لي في العمل معه بعد أن أصبحنا أصدقاء، وأذكر أن كان هناك محل (نوري أبو زنادة) يبيع (الشركسكين، والكرافتة السولكة، الجزمة جلد تمساح) فأخذني يومها إلى ذلك المحل لنشتري من عنده قبل الذهاب إلى مصر (شركسكين نباتي، رصاصي، سولكة أقمشة قمصان سويسرية، جزمة خلاني أشتريها بـ 350 ريالاً جلد تمساح شي يهد الحيل) فقد كان رجلاً يعتني بهندامه فكان يذهب إلى أفضل الأماكن وأرقاها وأذكر أنني قمت بتفصيل قميص كلف (35 جنيهاً) والجنيه يومها يساوي (14 ريالاً ونصفاً) عند رجل أرمني اسمه (كركوك أفاديان) كان يفصّل ملابس الملك فاروق.. أما حكاية المكائد والدسائس والحفل والمسرحية التي اشتهرت عن الشاعر والسلطان الجائر فإن (محمد فدا) رجل كان يرى أن النصح لولي الأمر لا بد من أن يبلغ لأنها أمانة ورسالة ومسؤولية، وظن الناس الذين حضروا وتمنوا أن يساء إلى محمد فدا: قد فوجئوا بالملك فيصل وقف وتحدث عن هذه المسرحية بأن هذا الذي يقال وهذا الذي ينبغي. كان يعتني ويقدر مسؤولياته تقديراً عالياً ورفيعاً وقد كان المسؤولون في وزارة المعارف من زملائه ورفقائه، فلقد عاشوا في مصر سواسية ومن زملاء دراسته: الشعراء وأصحاب المقالب المشهورة (أسعد جمجوم، حسن نصيف، محمد بادكوك) ولعلّ السيد/ عبدالله يجد ما نشر من أشعار طبعت في كتيب صغير، وقد عاش (محمد فدا) مع هؤلاء الناس وكان أبوه ورّاقاً يبيع الكتب وعمه الشيخ/عبد الله فدا أديباً وشاعراً ورجلاً له أثر أدبي معروف فبيئته في البيت وبيئته في أسرته وبيئته في مدرسته وتجربته الحياتية وتعليمه في مصر (خريج كلية الشريعة) صنعت منه الرجل الأمثل. ولقد كان همه أن الجيل المسؤول عن كيف يتعلّم وكيف ينشأ هو الجيل الذي سيقود، فلا بد من أن يكون مؤهلاً لهذه القيادة بالارتباط والنظام والهدف وبالرؤية، فلم يكن يكتفي بتعليمهم ما هو مقرر في المنهج وما بين دفتي كتاب وإنما كان يدفعهم إلى القراءة الحرّة ويعلمهم الحوار والنقاش وقبول الرأي الآخر، وكان الطالب في الفصل وفي المدرسة ملتزماً وفي خارج المدرسة صديقاً محاوراً له ويتعامل معه كزميل أو أخ له ولذلك أغلبهم عملوا معه. |
الحقيقة ذكريات كثيرة مع هذا الرجل وأنا زميل عمل وصديق في الحياة وأعدكم أن أقلب في صفحات الماضي لعلّي أجد ما ينفعكم بإذن الله، كما أنني ممتن جداً بأن يسجل حوار عن هذا الرجل بين دفتي كتاب لأنه لا يوجد رجل تربية وتعليم في منطقة الحجاز كتب عنه فكل من يملك معلومة مكتوبة أو صورة أو قصاصة عن محمد فدا هي إضافة إلى الكتاب، ولعلّك تعود إلى ما نشر في الصحف وبالذات عندما أقيم له حفل تأبين في (جدة بالاس) فستجدون ما نشر من قبل بعض الكتّاب أمثال (حسن نصيف، أسعد جمجوم، بادكوك)، وكان الأستاذ (محمد فدا) يذهب إلى القاهرة باستمرار لإجراء المقابلات مع المدرسين الذين سوف يعملون معه في المدرسة وأذكر أن بعض المدرسين الذي عملوا معه كانوا يعملون في الاستخبارات المصرية وعسكريين فكان رحمه الله يتعب على الجهاز المتولي مسؤولية تربية الطلبة المسؤول هو عنهم. وهذا كل ما أذكره في الوقت الحالي. |
|