محمد فدا |
بصمة فريدة في مسيرة التعليم |
ـ نقف اليوم وقفة متأنية.. مع رجل من الذين تركوا بصماتهم في مسيرة التعليم بوجه عام في مملكتنا الفتية.. شهد له الجميع بالقدرة التعليمية والإدارية الفائقة، وقوة الشخصية.. وعرف عنه كونه مربياً عظيماً، وأديباً وشاعراً مشرق الديباجة. |
رحلة حياته زاخرة بالعديد من الإنجازات التي تستحق أكثر من وقفة.. نعطي فيها هذا الرجل حقه من أجل الأجيال الحالية واللاحقة، فيكفيه فخراً أنه عندما ظهرت فكرة إنشاء جامعة الملك عبد العزيز، وكان موجوداً في الخارج ودعا الناس للاجتماع لانتخاب الهيئة التأسيسية للجامعة.. وكان المطلوب من الراغبين في عضوية هذه الهيئة ترشيح أنفسهم لها، ولما كان هذا الرجل غائباً عن البلاد ارتأت الهيئة التي تشرف على فكرة إنشاء الجامعة أن يكون اسمه ضمن المرشحين للعضوية، فأعلن اسمه كأحد المرشحين الذين لم يستطيعوا ترشيح أنفسهم لغيابهم. |
وكانت المفاجأة أن نال في هذا الانتخاب الكثير من الأصوات لما يتمتع به من سمعة طيبة ومقام ملحوظ.. وأيضاً هو أول مدير لمدرسة الثغر النموذجية بعد أن كان اسمها في السابق ((المدرسة النموذجية في الطائف)) وكان مسؤولاً عنها يتمتع بثقة جلالة الملك فيصل رحمه الله وتأييده. |
والرجل يعد واحداً من الأدباء ذوي الديباجة المميزة والمعاني الرائعة.. كما عرف عنه الخطابة المرتجلة التي تأخذ بعقول ولباب المستمعين. |
ـ ترك القضاء.. إلى التدريس!! |
ـ ولد الأستاذ محمد فدا في مكة المكرمة عام 1343هـ وتلقى تعليمه في مدارس الفلاح بمكة، ثم ابتعث إلى مصر والتحق بكلية الشريعة في جامعة الأزهر متخصصاً في القضاء وعاد منها إلى الحجاز عام 1370هـ، وعيّن عقب تخرجه قاضياً في مدينة رابغ.. إلاّ أنه كان يرغب في العمل في سلك التعليم، فاعتذر عن قبول الوظيفة التي أسندت إليه.. ومن ثم عيّن مدرساً بالمعهد العلمي السعودي في أوائل عام 1371هـ، وحين ظهرت مواهبه في التدريس عيّن مديراً للمدرسة الرحمانية الثانوية وانتقل في منتصف عام 1376هـ إلى المدرسة العزيزية الثانوية مديراً لها. |
وقد عيّن الأستاذ محمد فدا مستشاراً في مكتب المستشارية لوزارة المعارف في الفترة من 1/11/1377هـ حتى 1/5/1378هـ، حيث اختير مديراً للمدرسة النموذجية في الطائف التي تحولت فيما بعد إلى مدرسة الثغر النموذجية في جدة. |
ـ الرجل الذي اكتسب ثقة الملك فيصل: |
ـ يعد إنشاء المدرسة النموذجية في الطائف لغرض نبيل.. فقد أسست المدرسة في البداية لتكون مدرسة الأمراء وقام المرحوم إبراهيم أدهم باحتضان التلاميذ اليتامى فيها لإيوائهم وتعليمهم.. وسرعان ما أصبح عدد هؤلاء التلاميذ اليتامى كبيراً وأصبحت العناية بالمدرسة المذكورة ضرورة حتمية فشملها برعايته صاحب السمو الملكي الأمير فيصل النائب العام لجلالة الملك ـ جلالة الملك فيصل فيما بعد ـ وحولها إلى مدرسة نموذجية.. ثم اختير الأستاذ محمد عبد الصمد فدا رحمه الله مديراً لها لما عرف عنه من القدرة الإدارية الفائقة وقوة الشخصية إلى جانب مؤهلاته العلمية وخبرته السابقة في التعليم حوالى الثمانية أعوام. |
وقد بدأت المدرسة النموذجية في الطائف تكتسب سمعتها الأولى فانتقل إليها بعض كبار رجالات مكة وخصوصاً من موظفي الدولة.. وحين تم بناء المدرسة في جدة وإعدادها انتقلت المدرسة النموذجية إليها بكامل طلبتها وخصصت لها ميزانية ضخمة من كل عام وأطلق عليها اسم ((مدرسة الثغر النموذجية)) والدراسة في المدرسة علمية في مرحلة التوجيهية، فالطالب الذي لا يتفوق في المواد العلمية أو الذي لا يميل إليها لا بقاء له في المدرسة ولو كان متفوقاً في المواد الأدبية.. ولن يشفع له أبداً أن يكون ابن أمير أو كبير.. ولا يشفع له كذلك أن يكون أبوه صديقاً حميماً لمحمد فدا بالذات. |
ـ مدير المدرسة الصارم مع أبناء أصدقائه!! |
ـ والغريب والمدهش في آن.. أنه قد عرف عن الأستاذ محمد فدا مدير مدرسة الثغر النموذجية أنه رجل صارم لدرجة الشدة مع الطلاب من أبناء أصدقائه وذوي قرباه، وكانت علامات الطالب تراقب في الاختبارات الشهرية وترسل نتائجها إلى آباء الطلاب. |
بل يمكن القول إن معظم طلاب الثغر أيام مسؤولية الأستاذ فدا عن المدرسة هم من أصحاب المكانة المرموقة.. فمنهم من أكمل الدراسة الجامعية إلى أقصى مراحلها وأصبحوا من الأساتذة المعروفين في الجامعات ومنهم من برز في ميدان الهندسة أو الأعمال التجارية. |
والجميع يذكرون أستاذهم محمد فدا بالإكبار والحب. |
ـ مدير يقدر من يعمل معه: |
ـ وعنه يقول الأستاذ/أنور عبد القادر فلمبان والذي يعمل في مدارس الثغر النموذجية والمسؤول عن القسم الفني: |
ـ إن معرفتي بالشيخ الأستاذ محمد فدا بدأت مبكرة وتعود لعام 1377هـ حيث حصلت ملابسات عديدة وطدت هذه المعرفة والصلة.. فقد كنت أعمل مديراً لمدرسة إبتدائية في المنطقة الشمالية ثم طلبت نقلي إلى مكة في إحدى المدارس، وفعلاً تم نقلي كمدرس في المدرسة الثانوية بمكة، وبالتحديد في المدرسة العزيزية، ولكن عندما علمت بعد صدور قرار نقلي وعملي في المدرسة أن مديرها هو الأستاذ محمد فدا ترددت كثيراً في المضي والعمل معه في المدرسة والسبب لما سمعته من الناس والزملاء عن أسلوبه في العمل والشدة والصرامة التي يعامل بها. ولذلك فإنني طلبت من مدير التعليم في مكة، وكان سكرتيره الأستاذ عبد الرزاق بليلة أن يقوم بتحويلي من هذه المدرسة (المدرسة العزيزية) والتي يديرها الأستاذ فدا، وقلت له: لقد سمعت عنه ((كذا وكذا)) ولذلك أرجو أن تساعدني في نقلي إلى مدرسة أخرى. |
فتعجب الأستاذ عبد الرزاق وقال لي إن ما سمعته عن الأستاذ فدا ليس صحيحاً وستجد عكس ما سمعته إذا ما عملت معه، فهو من المدراء القديرين والذين يقدرون من يعمل معهم. |
وعندما لم أجد بداً من القبول والعمل مع الأستاذ محمد فدا وأنا لم أعرفه بعد ولكني اشترطت على الأستاذ عبد الرزاق بليلة أنه، إذا لم ترق لي الحال في العمل، سوف ينقلني إلى مدرسة أخرى، وفعلاً وافق على شرطي هذا وذهبت إلى الأستاذ فدا لأتسلَّم عملي وجاء اليوم الذي قابلته وهو يوم لا أنساه، وكما قلت لكم في السابق المعرفة معه مليئة بالمفارقات. |
فقد صادف ذلك الوقت الذي دخلت فيه عليه أنه كان عنده مجموعة من الطلبة وتقدمت إليه وأعطيته خطاب التوجيه للعمل في المدرسة، وبعد أن قرأ الخطاب اعتذر لي قائلاً: إن عدد المدرسين قد اكتفينا بهم ولا يوجد لك مكان هنا!! |
وقد سررت وقتها بقراره هذا وقفلت راجعاً. |
أثناء خروجي من مكتبه ناداني وقال لي: إن لدَيَّ في المدرسة وظيفة شاغرة وهي رئيس مكتب التحرير فما هو رأيك لو عملت في هذه الوظيفة؟! وكانت هذه الوظيفة مسؤولة عن الموظفين الإداريين وأعمال شؤون الطلبة ووجدت بعدها أن الوظيفة مناسبة لي فقبلت بها وفعلاً وجدت كل ما سمعته عنه خلاف ما وجدته على الطبيعة!! فقد عملت معه عاماً كاملاً في تلك الوظيفة. |
ـ الفدا.. ومميزات بالجملة! |
ـ ويضيف: وجدت فيه خصالاً عديدة وهي خصال الشخص الملتزم الذي يقدر الشخص العامل معه ويحترم جهده، وكان من مميزاته أنه إذا بدأ في أي مشروع كان معروفاً عنه أنه يهيئ لهذا المشروع كل أسباب النجاح. |
أيضاً من مزاياه التي عرفت عنه أن لديه مقدرة على الخطابة، فكان لا يحب أن يكتب خطاباً أو مذكرة بل كان يفضل أن يملي على الشخص ليكتبها. |
وأتذكر أننا كثيراً ما كنا نجتمع عصراً خارج وقت العمل ويملي علي بعض الخطابات والمذكرات مشافهة لأنه كان يمتلك هذه المقدرة. |
ولسوء حظي لم أعمل معه في المدرسة العزيزية إلاّ مدة سنة واحدة وهو عام 1377هـ لأنه بعد هذه السنة اختير لإدارة المدرسة النموذجية في الطائف فكان من وفائه وتقديره للذين كانوا يعملون معه في المدرسة العزيزية أنه استعرض أسماءهم وعرض عليهم أن ينتقلوا برفقته إلى الطائف وذلك للعمل سوية في المدرسة النموذجية. |
وأذكر من هؤلاء: الأستاذ عبد الواحد طاشكندي الذي كان يعمل في ذلك الوقت وكيلاً للمدرسة العزيزية والأستاذ عبد الله شرف. |
وقد رشحني أيضاً للعمل معه في الطائف، لكنني اعتذرت له لظروف عائلية خصوصاً في تلك السنة. |
ولذلك بقيت في الوظيفة نفسها بالمدرسة وتلى الإدارة من بعده الأستاذ سراج خراز. |
ـ وفاء.. بلا حدود!! |
ـ ولم تنقطع الصلة مع الأستاذ/فدا، فبانتهاء عام 1378هـ كلفت بالعمل في دورة صيفية بالطائف وأثناء وجودي هناك قابلت أحد أصدقائي الذي أخبرني بأن الأستاذ محمد فدا موجود في الطائف وعاد من مصر وهو دائم السؤال عنك (وهذا من وفاء الرجل أنه ظل يسأل عني في غيابي). |
وفعلاً ذهبت إليه.. وهنا كانت المفاجأة فقد عرض علي عرضاً مغرياً. |
قال لي الأستاذ فدا: لقد وجدت لك وظيفة جديدة وفي هذه الوظيفة سوف تتخطى درجتين وفي ذلك الوقت لم نكن نحلم بالدرجة الواحدة لصعوبة الترقيات. |
وفعلاً قبلت الوظيفة وأنا راضٍ لأن الظروف التي منعتني من العمل معه قبل سنة قد زالت.. وعملت معه سكرتيراً لإدارة وشؤون الطلبة والإشراف على تسجيل الطلبة المستجدين واستمريت في العمل بالطائف إلى نهاية 1379هـ. |
|