شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كيف كانت البداية؟!
ـ الآن ـ قبل طرح هذا السؤال/ العنوان ـ لعلّني أتلفَّت بطريقة الكتابة اليابانية أو الصينية من فوق إلى تحت أو العكس، وأنسى التلفت من اليمين إلى الشمال، ولا حتى بطريقة كتابة الإنجليز/العكس، والتلفت: لا بد من أن يستهدف هذه الشجرة/شجرة الكتابة، وكيف تم غرس بذرتها، ومن سقاها ورواها حتى ضربت جذورها في عمق تربة العمر؟!
والآن ـ بعد التلفت ـ لعلّه ينبت سؤال آخر عن هذه الشجرة: يبست بعض فروعها أو أغصانها، أم حافظت على الارتواء من داخلها: تجترّه حتى لو نضبت بعض المصبَّات أو الأنهر إليها.
ترى.. كيف يمكن لشجرة الكتابة في عمري أن تعطش، أو تتيبس أوراقها وأغصانها، وأنا ـ الإنسان ـ ما زلت أحلم؟!
إذن.. الكتابة في البدء: حلم.
والحلم قادر ـ في الغالب ـ أن يهزم: اليأس، ويهزم اليباس، ويهزم العطش.
أقول للشباب الناهد والناهض، وللشباب الصاعد إلى أعلى: تمسكوا بحلمكم، لا تتنازلوا عنه قيد أنملة، لا تدعوا أحداً يعبث بأحلامكم.
الحلم: شجرة نتعهدها بالسقيا، بالرواء، بالحب، بالوقت الأمثل، حتى الحرية.
ندخل ـ بعد التلفت نحو التأسيس ـ إلى سؤال القاعدة:
ـ كيف كانت بدايتي في مجال الكتابة؟!
من حسن حظ جيلي، أننا وجدنا أمامنا: مزارعين في حقول المعرفة، وفلاحين يعزقون عقول النشء/الطليعة ليبذروا في عمقها: الكلمة وعشقها، والوله بعبارة جميلة، والاكتشاف من خلال المعلومة.
كان أولئك المزارعون، الفلاحون: هم المعلمين الذين تلقونا من بيوت أهلنا إلى رحابة المدرسة، بدءاً من مدير المدرسة المتميز/محمد عبد الصمد فدا ـ رحمه الله ـ وبغير انتهاء لعددهم.. كانوا يتنافسون على ضمنا لمحبي القراءة بغير إرغام، وبعيداً عن حصة المطالعة.
وأعترف.. كان جيل الرخاء المعرفي/جيلنا.
يسَّر الله لنا جيل معلمين يحنو على جيل جديد نابت، متفائل: غذوا في خيالاته الحلم، وأنعشوا في تصوراته الأماني التي تشكّل ملامح الغد، وبثُّوا في عزيمته فعل المنافسة على المعرفة، والتميز بالتفوق الدراسي والنشاط المدرسي، فأشعلوا ليلة الإجازة المدرسية بمسامرات، نقف متعلمين للخطابة، وللقراءة الجيدة، وللتمثيل/فناً مسرحياً، ولألوان من الأنشطة المعرفية والعلمية الأخرى.. في معمل المدرسة، وفي رسم صحف الحائط، وفي الرسم التشكيلي، فكانت ورشة نشاط علمي وأدبي وفني.
ذلك كان هو: الرخاء المعرفي الذي نشأ عليه جيلنا بتوجيه معلمينا.
وفي أبنائنا: تساءلنا عن أسباب افتقادهم لمعلميهم، وقد ركض الكثير من المعلمين إلى تجارة الأراضي في فترة ما، وإلى اهتمامات ذاتية دون تركيز العناية بهذا النشء؟!
لقد حلّ شيء آخر لا تكاد تظهر له ملامح، بديلاً عن ذلك: الرخاء المعرفي!!
أذكر أول كتاب استمتعت بقراءته حقاً، قبل أن أتخطى مرحلة سنوات الإعدادية الثلاث، وبعد تجربة قراءاتي لسلسلة كتب تسمى روايات: أرسين لوبين.. كان كتاب/رواية (إني راحلة) ليوسف السباعي، فاجأني بالكتاب ذات صباح جئت فيه متأخراً عن الحصة الأولى بخمس دقائق، فعاقبني مدير المدرسة الرحمانية/معلمي: محمد فدا، وأوقفني خارج الفصل مذنباً خاسراً الحصة الأولى.
وقبل حلول الفسحة الأولى استدعاني إلى مكتبه، وسألني بمحبة صديق عن أسباب تأخري الذي ربما حدث لأول مرة في التزامي، فأصدقته السبب، ورأيته يخرج من درج مكتبه تلك الرواية/ إني راحلة، وقال لي:
ـ بدلاً من السهر مع أرسين لوبين، ولأنك تحب القراءة، إليك هذه الرواية، تعدني بقراءتها في عطلة الأسبوع، وبعد انتهاء واجباتك المدرسية، وعندما تنهي قراءتها أعدها لي شرط أن تحكي لي انطباعاتك، وما الذي خرجت به.
تلك كانت البداية، تزامن معها ركضنا الدائم إلى مكتبة الثقافة خارج باب السلام للحرم المكي، وكانت حافلة بالكتب، وبالصحف، والمجلات الأسبوعية، والكتب الشهرية مثل: كتاب الهلال، وروايات الهلال.. لهفة مطّردة على القراءة، تنامت وتركّزت في اهتمامات جيلي/نخبة منه، والبقية لم تكن تخاصم القراءة بل تتفاوت الاهتمامات وألوانها: أدبية، علمية، فنية، تاريخية.
وتلك كانت بلاغات مفاتيح النضج لعقولنا، حتى أشرعت أمامنا ـ كفرصة ـ نافذة تغرينا بالاقتراب منها، كانت: صفحة دنيا الطلبة الأسبوعية في صحيفة البلاد السعودية يشرف عليها الرجل المربي الأستاذ/عبد الرزاق بليلة.
وبدأت من هناك مخاضات ميلاد الكاتب: القاص، الشاعر، المسرحي، الناقد.. كان إكليلاً من الفرح بهذه النافذة التي صرنا نطل منها على تجربة الكتابة، وكانت الكلمة التي نتنافس على كتابة الأجمل منها، هي آفة عقولنا، لعلّها كانت حاجتنا إلى بناء أفكارنا وعقولنا.
الغرسة كبرت، تنامى الإصرار على اقتناء الكتاب الذي نوفر ثمنه مما نخصصه له من مصروفنا اليومي حتى يتكامل المبلغ.. كأن الكتاب في احتياجنا إليه تحول إلى ما يشبه الإرث، وكنا نحيا مع أبطال الروايات التي نقرؤها، ونتحاور مع المؤلفين، نعارض فكرة، ونؤيد أخرى.. نتفاعل مع التاريخ، ومع الإحساس، ومع التجربة.. تبلور الحلم كأنه يتجسد في تلقينا مما نقرأ، وفي انسكابنا داخل الكلمات التي بدأنا نكتبها، والكتابة هي التجريب في البدء.. البعض: واصل، وتطور، وأبدع، والكثير اكتفى، واتخذ طرقاً أخرى على دروب المعرفة والعلم والتخصصات، ومازال يحمل الحلم لا يتنازل عنه، ولا يسمح لأحد أن يفسده له.
ولعلّني في هذا العشق للكلمة أردد مقولة عاشق مثلي: حيث لا موت، للكلمة أو للعالم، إلاّ كان قيامه.
وهكذا كان ((محمد عبد الصمد فدا)) هو: الفلاَّح الذي زرع هذه الحديقة من جيل عشق القراءة بسقيا هذا المعلم لعقولنا ولأرواحنا.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1343  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.