مدخل |
ـ في كل مرة تخط مشاعري وشجوني: كلمات عن (الأب)، المربي/ معلمنا وموجهنا، وغارس فينا بذور المعرفة، وعشق القراءة.. مدير المدرسة (السوبر) كما كانوا يطلقون عليه في مجتمع التربية والتعليم: محمد عبد الصمد فدا.. كانت تراودني فكرة إصدار كتاب بانورامي، تسجل صفحاته مشوار هذا المربي الذي سبق عصره، وانطباعات تلامذته ومريديه الذين تحدثوا عن مواقفه وبصماته. |
لقد كُتِِبَ العديد من المقالات والكلمات التي لم ترقَ إلى القامة الشامخة للمربي والمعلم الرائد ((محمد فدا))، وقد كان نبراساً أضاء صوى المستقبل وأنار لنا دروب الغد، ظناً مني ـ بما كتبته ـ أنني أُعرِّف الجيل الجديد ((بقدوة)) في مجال التربية والتعليم، ربما صار من الصعب العثور على بديل له، أو من يكمل مسيرته برؤيته النافذة والحكيمة تلك.. وأملاً مني: أن أجلي وألمع ذاكرة الكثير من زملائي في جيلي الذين نهلوا من معين فكر وتربية ذلك الرائد، في زمن صبغه النسيان، وأحاطه الجحود.. وحرصاً مني على استنطاق التاريخ، ليضيء صفحة يفخر فيها الوطن بإنسانه. |
لكني أعترف ـ بحق ـ أنني فوجئت بمكالمات وإيميلات عديدة تتدفق بعد نشر كلماتي عن الرائد التربوي والمعلم/محمد فدا.. يشيدون بما قدمه وغرسه في عقول جيلنا!! |
وإذن.. من يُحسن اختيار الغرسات التي يوفر لها تربة منتجة: فلا بد من أن يترك وراءه أشجاراً عالية قطوفها دانية. |
وفوجئت بدعوة من الصديق العزيز جداً إلى نفسي/د. فؤاد عزب، للسلام على/د. نادية محمد فدا، المريضة بمستشفاه ومعها والدتها وأخواتها ليشكرنني على ما كتبت.. فقلت لهن: لا تشكرنني على جميل أحاول أن أرده، هي كلمات أينعت من القلب والعقل عن (أب) لعقلي، كان هو أول من أهداني ((كتاباً)) أقرأه ليطلب مني تلخيصه، فغرس عشق الكتاب والقراءة في عقلي ووجداني! |
* * * |
ـ وقلت للدكتورة/نادية محمد فدا، ووالدتها الفاضلة، وأخواتها الزهرات اليانعات في حقل الحياة.. مثل ما قلت لزملائي في جيلي الذين يشكِّلون غرسات لهذا المُربيِّ: |
ـ أريد منكم جميعاً أن تساعدوني على تجميع مادة غنية من المعلومات، ومن آثار وتراث الراحل الكبير، وعن مواقفه المشرقة أبداً.. وبذلك تعينونني على إصدار كتاب يسجل تلك المرحلة الذهبية بحق في مسيرة التربية والتعليم في وطننا التي ساهم في إثرائها: فكر ((محمد عبد الصمد فدا)): التربوي والتعليمي.. وهو المعلم الرائد الذي اختاره الشهيد الملك/فيصل بن عبد العزيز ليشرف على ((مدارس الثغر)) النموذجية وحدها في ذلك الوقت، ويقول الملك الراحل للمعلم المربي/محمد فدا: |
ـ أعرف أنني أضعك في موقع المسؤولية لتنتج جيلاً يخدم وطنه، وهو الإنتاج الذي يفوق الإنتاج الصناعي.. وأعرف أنني أحسنت الاختيار بك وفيك!! |
* * * |
ـ ولتفرُّد تاريخ وسجل هذا المربي المعلم بإنجازات تشرَّف بأن على رأسها: تخريج جيل ناضج، واعٍ متمرس.. فأحسب أن هذا ((العَلَم الرائد)) يستحق منا: الكتاب الذي يشرفني أن أقدمه للمكتبة المحلية والعربية، وقد تمنيت من عائلة هذا الرائد، ومن زملائي في جيلي: أن يمدُّوني بكل ما لديهم من معلومات، ومواقف، وصور.. حتى نشعر بشيء من الرضا: أننا أوفيناه بعض حقه علينا. |
وكان على رأس السباقين إلى دعم فكرتي، والوقوف لتجميع فصول هذا الكتاب: الصديق، زميل الدراسة ومشوار العمر الأستاذ/محمد سعيد طيب.. وتفضل ـ مشكوراً ـ بدعوة نخبة من تلامذة/محمد فدا، والأساتذة الذين عملوا معه، وأعدَّ لهذا الهدف الجميل: ندوة في منزله.. ليسجل كل مشارك فيها انطباعاته وذكرياته، ومواقف المربي الكبير في التعامل مع جيل جديد، كان ـ رحمه الله ـ يتطلَّع إلى إنضاج فكره ليفخر بعد ذلك بثمرة جيل واعٍ مثقف. |
وفي هذا الكتاب أحاول أن أستعيد الرؤى الصحيحة.. قبل أن أُناجي روحه الغالية.. فإن التطلّع هذه اللحظة إلى شيء مستهدف يكاد يفقد الإحساس والملامح.. هذا الخيط الطويل الممتد أمام ناظري، ينداح في ضباب قاتم.. وهذه اللانهاية تفترش وجه السماء، وقد بهتت فأصبحت بلا لون.. كل شيء قد خبا، وكل شعور قد تثلَّم.. فهل أكتب رثاء ونعياً بصوتٍ مُولْول؟! |
هل أبسط تاريخ هذا (المميز) ودقائق كفاحه، ومعاني ومفاهيم رسالته ومبادئه؟! |
لقد بادر الكثير.. فكتبوا النعي حين رحل، ودبجوا مقالات الرثاء، واستعرضوا حياته.. لكنهم وقفوا بعد ذلك يفكرون في جديد يقولونه عنه بعد إغفاءته الأبدية.. فإذا هم ـ حقيقة ـ يكتشفون أن هذه الأمة/كل هذه الأمة: تعرف (محمد فدا) وتخبره، واسمه تحول إلى نقوش محفورة في وجدانهم، مضيئة في ضمائرهم وأفكارهم، وبعد فيضان الدموع الذي شهدته الأعين: كنت أتابع ما كتبوه عنه، وكنت أتساءل والعبارات الباكية تضج في صدري: هل أكتب عنه لأكرر ما قالوه.. أم أكتب عنه لأفعل ما يقولون عنه ـ جهد المقل ـ اعترافاً به رائداً، وتاريخاً، وتحولاً غيَّر الكثير من أساليب التربية في بلادي؟! |
* * * |
ـ لا.. أنا ـ هنا ـ أريد أن أُقبِّل روحه الغالية بكلمات قددتها كمعنى من وجداني، وأريد أيضاً أن أهمس بدموعي قائلاً: يا أبي الروحي.. يا أبي الروحي: من أنا؟! |
أطرح هذا التساؤل.. لأجيب باعتزاز: أنا.. هو أنت!! |
أنا بِذْرتُك التي وضعتها في أرض خصبة معطاء.. ثم رعيت نمو أغصانها، وحنوت عليها وهي تكبر كل يوم! |
أنا شباب مبادئك، وأهدافك.. كبرت اليوم وأبصرت واقعي، وتلمست مواقع خطوي.. فاتضح لي أن أفكارك كانت تمهد دربي.. لأنطلق محققاً ـ بدفعك ـ حقيقة الحياة الجديدة، ومفاهيم النظرة السليمة المتقنة للكفاح، وللمبادئ وللإبداع!! |
إنني ـ يا أبي الروحي ـ ثمرة من الثمرات الكثيرة التي كرَّست حياتك من أجل ارتقائها وشموخها. |
إنني عزة الإنسان الكامنة في شخصيتك. |
إنني إباء الكرامة التي علمتنا مفهومها لنعيش حاضراً تتواجد فيه القدرة الإنسانية الحرة. |
إنني التكريس الذي أردت به وضع الملامح الصحيحة للشباب العامل المنطلق في دروب المستقبل المأمول. |
ولا أود بهذه الإشارة أن أمجِّد الذات، لكنني ـ بالتأكيد ـ أهدف للوصول إلى المنطلق الذي حققه لأمانينا.. وأهداه إلى مستقبلنا! |
وكان مديراً للمدرسة التي أنتمي إليها.. يومها واجهنا ببرنامج جديد لم نألفه مطلقاً، بنظام حوَّل الطلبة إلى فريقين: مؤيد لأنظمته الجديدة ومعترض على أسلوب التطور الذي أراده، وبقوة شخصيته، وبإيمانه الذي دفعه لتطبيق النظام.. استطاع أن يوجد الآراء حوله، بدل أن يوحِّد الزي!! |
أتذكَّر في أول انجذاب شعرت به نحو شخصيته.. كنت أكره الاحتفاظ بكتاب أمام ناظري لفترة بسيطة.. كان همي أن (أصمَّ) المواد الدراسية المقررة فقط.. لأقابله تلميذاً ناجحاً، لأنني كنت أخاف نظرته التي يقذف بها الطالب المتخلِّف.. لكنه استطاع أن يخلق مني قارئاً يلتهم كل كتاب فكري، أو أدبي جديد تحفل به المكتبات.. وكان منطقه نحو هذه الضرورة الملحة.. كما كان يسميها: أن على كل إنسان واجباً يحتم عليه أن يطَّلِع، وينمي ثقافته، ويتابع الأفكار الجديدة في مجال العلوم والآداب. |
وفي أول تعاطف إنساني أبوي شملني به: أتذكره اليوم في أول لقاء معه، حين كنت طالباً في المرحلة الإعدادية، وكنت أتحاشى لقاءه ونظرته وكلماته الموجهة الهادية، لأن ذلك في اعتباري.. أسلوب متسلط من أساليب التدريس.. حتى لا يقف أمام تلميذه ذائب الشخصية.. لكنني عرفته بعد ذلك التعاطف: ملحمة إنسانية متحركة، تروي للمتخلفين عن رعيله أسرار الحياة التي ترفض الكسول والمتخاذل وتحتضن النشيط الطموح. |
كان يقص علينا بإبداع: نوع التعامل المفروض أن يكون بين الطالب والأستاذ.. فرأينا فيه الأب المتلهف على استكناه أبعاد المستقبل لبنائه.. فامتزجنا به وشعرنا بالعزة والإباء في رعايته.. حتى إذا جاء ذلك اليوم الذي انتقل فيه إلى مهمة تربوية أخرى.. ذرفنا على أيامه كل وجداننا. |
* * * |
ـ إنني أعي جيداً تلك السوانح الغالية الأثيرة إلى نفسي، والسوانح التي فزنا بها ـ كحظ طيب ـ واستمعنا فيها إلى تعاليمه ذات المدلول التربوي، وإلى شرح أهدافه ذات السحنة المخلصة المؤمنة بمستقبل أحسن وأنضر.. وإلى إشعاعات رسالته، ولا نقول (فقرات).. إنها إشعاعات ضياء ساطع، تهدي السائرين، وتمنح الأمل العريض! |
وبعد هذا.. أتلمَّس مشاعري التي تنـزُّ بالفجيعة، وتصطك بالذهول.. بعد الذي قرأناه: نعياً في صحفنا، وأتلفت في أغوار نفسي بحركات الذهول ذاتها: هل صحيح؟! |
لا أريد أن أصدق.. لا تعرضوا الصحف لنظراتي!! |
هنا أحسست يومها بالتمرد وبالرغبة في تحطيم كل شيء حتى نفسي.. حتى هذا الذي صنعه فينا.. فماذا كان يريد بعد أن غفا أبدياً؟! |
لكني تمالكت نفسي، لأنني أصخت السمع إلى صوته الهادىء، الوقور القوي.. وهو يقول: |
ـ أنتم حياتي التي لم تنته.. أنتم الامتداد الأكيد، فأنا بكم لم أمت!! |
قال هذه الكلمات بصوته الحي، ونعيد اليوم المعنى نفسه.. بهذا الصوت الذي تنشره روحه المحلَّقة أبداً ترعى خطونا، وتبارك مسيرتنا.. وما زلنا نستمد ذلك الإشعاع المضيء! |
إن روحه تبقى وقودنا، وشحنتنا التي تشحذ فينا الإرادة، والقدرة والعمل. |
إنه تاريخ.. تاريخ كبير.. أقوى من النهاية.. من الموت! |
|