شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مقدمة الكتاب
بقلم: محمد سعيد طيب
* لم تكن مفاجأة لي عندما أبلغني الصديق الأستاذ عبدالله الجفري.. بأنه يعد العدّة لإصدار كتاب عن سيرة الفقيد الكبير المربي المعروف الأستاذ محمد فدا يرحمه الله.. فأنا أعرف ـ تماماً ـ مكانة المربي الكبير.. لدى الصديق العزيز.
ولم تكن مفاجأة لي ـ أيضاً ـ عندما أبدى رغبة في أن أكتب مقدمة الكتاب.. فأنا أدرك ـ جيداً ـ بأن الصديق العزيز.. يعلم مكانة المربي الكبير عندي.. ومكانته ـ هو ـ أيضاً!
لكن الشيء الذي لا تعلمه الأغلبية الكبيرة من قرّاء هذا الكتاب.. أننا إزاء شخصية فذة.. وباهرة، واستثنائية!
* * *
* ولا بد من أن القارئ الكريم.. يتساءل ـ ومعه كل الحق: إذا كنا إزاء شخصية فذة، وباهرة، واستثنائية.. فلماذا تأخر إصدار كتاب عنها لأكثر من أربعين عاماً؟!
لا أزعم.. أن لديَّ إجابة قاطعة.. على تساؤل كهذا؟!
ولا أعفي نفسي ـ شخصياً ـ من هذا القصور!
ولذلك.. كانت فرحتي ـ مضاعفة ـ عندما أبلغني الصديق الجفري.. اعتزامه التصدّي لهذه المهمة.. والنهوض بهذا الواجب!
ولم أطرح السؤال عليه:
ـ لماذا بعد أكثر من أربعين عاماً؟!
لعلّ الصديق الجفري ـ وهذه ليست محاولة مني للإجابة عن السؤال ـ رأى أن الجيل الذي عاش مع المربي العظيم.. وتلقى عنه.. وتعامل معه ـ زملاء أو طلاب ـ قد بدأوا يتساقطون الواحد تلو الآخر!!
وأنه بسقوط ـ كل واحد من هؤلاء ـ تسقط صفحة ـ على الأقل.. في ذلك الكتاب العظيم: سيرة محمد فدا!!
وربما أراد الصديق الجفري، وقد هاله هذا الركام الهائل من كتب السيرة الذاتية الذي يصدر هنا وهناك عن الأمييّن والعبيد والمتسلقين وأدعياء الثقافة وعديمي المواهب، أن يقول للجميع: بأن العملات الزائفة لا يمكن ـ بحال ـ أن تطرد العملة السليمة أو تحلّ محلها.. أو تكون بديلاً عنها!!
* * *
* نحن إزاء (شخصية) ضخمة جداً.. شديدة الوهج، بالغة التأثير، متعددة الجوانب.. ومزاياها لا حصر لها!
قوة الشخصية وشموخها، النبل والإقدام والشجاعة، الوفاء لأساتذته وزملائه وطلبته، الحدب على والديه وأسرته، الاستعلاء على مغريات الحياة وإغواء السلطة، الحرص على الإجادة والجودة، تطلّعه الدائم للأفضل والأحسن/له ولأسرته ومجتمعه، تعدّد اهتماماته ـ بل وهمومه ـ لتشمل الوطن بأسره.. حاضره ومستقبله ومصيره، الأناقة الفائقة في كل شيء وفي المقدمة: التعبير السليم والصحيح والراقي.. في الحديث والمخاطبة والكتابة.
ميزات لا حصر لها!!
وكل واحدة منها.. جديرة بفصل مستقل ومستفيض.
ولندع القارىء.. يسوح في هذا الكتاب الجميل.. مكتفياً ـ هنا ـ بلمحة خاطفة.. من جانب واحد ومحدد.. هو حرصه ـ رحمه الله ـ على إشعال جذوة القراءة الجادة، والإطلاع الخارجي في نفوسنا، وتنمية الرغبة الدائمة للتثقيف الذاتي بصفة عامة، إن صح التعبير، ولن أنسى.. ولا يمكن أن ينسى زملائي.. تلك الفرصة العظيمة والنادرة ـ التي أتاحها لنا بتهيئة لقاء خاص مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، امتد لأكثر من ساعتين عندما زار العميد جدة.. لأول وآخر مرة!
يا إلهي!!
لقد مضى على هذا اللقاء..أكثر من نصف قرن!
إن الأفق.. يضيق شيئاً فشيئاً!
وإن قطار العمر.. يمضي.. ويكاد يقترب من المحطة الأخيرة!!
هذه هي الحقيقة!
وهذا هو اليقين!
أنا لا أهاب المحطة الأخيرة!
لكني ـ وأنا أتجه إليها ـ تكبر المساحة التي يشغلها الوطن في نفسي.. وفي وجداني.
ستظل عيني ـ عليه ـ حتى اللحظة الأخيرة ـ أعني..وطني.. أرقب مسيرته التي أرجو أن تكون إلى الأفضل والأحسن.
أتمنى أن أصل إلى المحطة الأخيرة من قطار العمر ـ كمحمد فدا ـ مرتاح الضمير.. وقد أعطى للوطن أكثر مما أخذ منه!!
لقد مات ـ في بلاد الغربة ـ وفي حقيبة ملابسه مخططات جامعة جدة الشعبية آنذاك: جامعة الملك عبد العزيز فيما بعد!
وتلك صفحة ـ لم تكتب بعد ـ في كتابه العظيم!
* * *
* والآن أريد أن أكشف للقارئ الكريم ـ سراً ـ تجاوز الأربعين عاماً!
في ذلك العام الحزين 1385هـ الذي اختطف فيه الموت المربي العظيم.. كنت، ومؤلف هذا الكتاب، نعيش ـ في غرفة واحدة.. في إقامة ]إختيارية..!![ امتدت لأكثر من عام!
وإذا كانت ظروفنا الخاصة ـ آنذاك ـ قد حالت بيننا وبين المشاركة في ذلك الموكب المهيب.. حيث شيّع الفقيد إلى مثواه الأخير في مقابر المعلاة بمكة، فقد تحايلنا على تلك الظروف ليكتب ـ كل منا ـ مقالاً تأبينياً للفقيد نشر في عكاظ في أسبوع الوفاة نفسه ولكن بتوقيعين رمزيين:
كان مقال الصديق الجفري بعنوان (رسالة إليه) ونشر بتاريخ 18/7/1385هـ، تحت توقيع (عين).
أما مقالي.. فكان بعنوان: ليس رثاءً: كرموا محمد فدا! نشر بتاريخ 16/7/1385هـ، بتوقيع (سين).
وأستميح المؤلف.. وكذلك القارئ أن أضع نصه ـ هنا ـ كجزء رئيسي في هذه المقدمة.. ومن غير إضافة أو حذف كلمة واحدة، وكما نشر في عكاظ قبيل أكثر من أربعين عاماً:
* * *
* لم يكن ((محمد فدا)) شيئاً عابراً في حياتنا.
ولم يخطر على بال أحد ـ للحظة واحدة ـ وخصوصاً محبيه وأصدقاءه وأبناءه أنه سيمضي هكذا.. بكل ما تحمل كلمة ((المفاجأة)) بين طياتها من معانٍ.
عندما تلقيت نبأ نعيه.. لم تذرف عيناي دمعة واحدة، مع أنه الصديق والأستاذ والأب والرائد بلا شك!
لقد كنت أشعر أن قلبي يبكي.. وأن شيئاً شامخاً يهوي أمام ناظري.
محمد فدا!
هذا الاسم.. ينبغي ألا ينسى في بلد يعرف أقدار الرجال!
إن قصة حياته ـ بكل ما تخللها من فصول رائعة ـ قد لا يعرفها الكثيرون.
لقد بدأ الرجل الكبير حياته العملية من الصفر ـ كما يقولون ـ وفي مجالٍ من أشرف مجالات العمل!!
بدأ حياته العملية ـ قبل أكثر من خمسة عشر عاماً ـ مدرساً في المعهد العلمي بمكة.. وبمرتب متواضع جداً لا يتناسب مع درجته العلمية.
وقيل له يومها: هذه وظيفة كبيرة في الإذاعة.. مرتبها ضعف راتب ((المدرس))، ورفض الرجل في إباء وأصر على أن يمضي في هذا المسلك الشريف لأنه كان يؤمن بهدف.. ويعتنق رسالة لا يحيد عنها.
وتمر الأيام.. ويتاح للرجل أن يكون مديراً مسؤولاً لمدرسة ثانوية ثانية في مكة.
وهنا تبدأ الانطلاقة الحقة!
بتحول جو الإرهاب والتسلّط والنظم التربوية العتيقة إلى مناخ علمي خلاّق ورائع.. تبرز فيه المواهب، وتصقل فيه الكفايات، وتوجَّه فيه الطاقات نحو الخير والتفوق والإبداع والنمو النفسي والخلقي والعلمي.
وتعقد الصلة.. صلة الصداقة والحب والتقدير بين الطالب والمدرس!
وتعقد الصلة بين المدرسة والمنزل، عن طريق الاتصال المباشر والمتصل بين إدارة المدرسة وأولياء الأمور.
وتعقد الصلة بين الطالب والثقافة العامة عن طريق الكتاب الجيد، والصحيفة الممتازة، والنقاش الحر الهادف، وتنمية روح البحث والإطلاع الخارجي.
ويسود المدرسة ـ مع هذا كله ـ انضباط منقطع النظير!
ثم... يُختَار الرجل مديراً عاماً مسؤولاً عن مدارس الثغر النموذجية فيحولها من مجرد واجهة علمية للزوّار والوفود الصحفية الأجنبية إلى مصنعٍ ـ حق ـ للرجال.. ومصدر إشعاع لثلة كبيرة من أبنائنا.. ومفخرة علمية رائعة لا واجهة علمية زائفة!
لقد أصبحت مدارس الثغر ـ بفضل هذا الرجل ـ واحدة من مدارس قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في شرقنا العربي كله على الإطلاق.. بشهادة كبار رجال التربية والتعليم وممثلي الهيئات العلمية التربوية ـ عرباً وأجانب ـ بعد أن أطَّلعوا على أحدث النظم التربوية المطبقة فيها، والخطة الدراسية السائدة والجو العلمي المبدع الذي يعيشه طلبة الثغر!
* * *
* كان الرجل يؤمن ـ في وعي ـ أن الهدف النهائي والأصيل للتربية، هو بناء الشاب ـ علمياً وخلقياً وجسمانياً ـ وإعداده ليكون مواطناً صالحاً قادراً على النهوض بمسؤولياته إزاء بلده، فهو على صلة دائمة ومتصلة بكل ما يجدّ في نظم التربية والتعليم في العالم.. يختار منا الأصلح والأفضل والأمثل.
وكان رجلاً يؤمن ـ في إخلاص ـ أن المدرس وكل من يعمل في قطاع التربية والتعليم.. ينبغي أن يكون على قدر كبير من الاستقامة والخلق الرفيع، ونظافة اليد واللسان والإخلاص لرسالته.. حتى يكون ((قدوة)) حسنة للطالب، فلا يصدم بواقع يتناقض و ((المثليات)) التي في ذهنه عن المدرس.
وكان الرجل يؤمن ـ في شرف ـ أن الصلة بين المدرس والطالب ينبغي أن تكون ـ دوماً ـ وداً متبادلاً، وإخلاصاً متبادلاً، واحتراماً متبادلاً أيضاً.. وأن لكل شيء حداً، فإذا كان ينبغي للطالب ألاّ يكون ذليلاً خنوعاً مسلوب الشخصية فاقدها، فيجب عليه أيضاً ألاّ يكون وقحاً، متطاولاً.. وإذا كان ينبغي للمدرس ألاّ يكون دكتاتوراً متسلطاً، مترفعاً، فينبغي له ـ في الوقت نفسه ـ ألاّ يفقد احترامه.
للحظة واحدة كان ـ يرحمه الله ـ يرى أن المدرس متى فقد احترامه مرة واحدة فقط، ربما ظل فاقداً لهذا الاحترام طوال حياته الدراسية.. ولذلك عاش ـ طوال حياته ـ محترماً، مهاباً، ومحبوباً في الوقت نفسه!
وكان الرجل يؤمن ـ عن سابق تجربة ومراس طويلين ـ أن ((الانضباط)) هو حجر الزاوية لأي عمل ناجح، فإذا كان ينبغي للطالب أن يحضر في موعد معين وينصرف في موعد معين، فإن على المدرس والمدير المسؤول أيضاً أن يتقيد بالنظام!
وأقولها ـ صادقاً ـ أنه كان أول من يحضر وآخر من ينصرف، ولا يكتفي بهذا، بل يظل طوال النهار، وإلى ما قبل منتصف الليل يشرف ـ بنفسه ـ على كل صغيرة وكبيرة، ولا يقبل أي تهاون في أداء الواجب.
وكان الرجل يؤمن ـ في تفتح وإدراك كبيرين ـ أنه إذا كان التعليم هو حجر الزاوية في بناء الشخصية، فإن الثقافة العامة هي التي تكمل البناء.. ولذلك كان حريصاً كل الحرص على أن يكون الطالب على أوثق الصلات بالثقافة العامة وبروافدها الحقة.. وكان ـ شخصياً ـ يهتم بألوان النشاط المدرسي ولا يعتبره إلاّ وسيلة مجدية ونافعة لإعداد الطالب للحياة خارج جدران المدرسة.
وكان الرجل يؤمن ـ في نزاهة ـ أن الإمكانيات المادية المهيأة لمرفق ما.. ينبغي أن تكون في خدمة الأهداف العليا لهذا المرفق، ولذلك كان شديد الحرص على أن تسخَّر كل إمكانيات الثغر لطلبة الثغر.. ولتحقيق الرسالة العلمية!
وبعد..
إن وفاة ((محمد فدا)) خسارة فادحة لبلادنا.. ولئن تخطَّفه الموت هكذا سريعاً ومن بيننا.. فلقد دخل التاريخ كرجل أسهم إسهاماً إيجابياً ومخلصاً وفعالاً في بناء التعليم في بلده، فكان ـ بحق ـ أستاذاً ومعلماً، ومربياً، ورائداً، وصانع جيل!
فهل نكتفي بالتاريخ؟!
إن التاريخ لا ينسى أحداً!
إنني كمواطن أتجرد ـ الآن ـ من كل عاطفة.. أطلب من زملاء الفقيد في الهيئة التأسيسية لجامعة الملك عبد العزيز أن يطلقوا اسمه على أول ((مدرج)) يبنى فيها كحد أدنى لتكريم هذا الرجل!
محمد فدا!
أيها الفقيد العزيز!
طاب مثواك.. وأجزل الله لك من رحمته ورضوانه لقاء ما بذلت وقدمت لبلدك وأمتك!
عكاظ: 16/7/1385هـ.
* * *
* وبعد..
فماذا أريد أن أضيف؟
إنني أردد ـ هنا ـ ما قاله يومها عبدالله مناع.. وكتبه:
ـ لا شيء يعوّضنا عنه.. لا شيء!
أردِّدها ـ اليوم ـ وتمنيت لو كنت أنا قائلها، وتمنيت لو كنت أنا كاتبها.. على الرغم من معرفتي بالصداقة السريعة والحميمة والعميقة التي جمعت ـ في السنوات الأخيرة ـ بين المربي العظيم رحمه الله والصديق المناع.. طابت له الحياة.
محمد سعيد طيب
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2102  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.