دموع |
|
* بقلم: هاشم يوسف الزواوي
|
|
حينما يبكي القلم فإنما يسطر على صفحات الطروس أدق ما في النفس الحزينة من لوعة وأسى، وهو حين يبكي يكون بكاؤه صمتاً رهيباً دونه صمت الكهوف الخالية، وهو أيضاً حين ينتحب يكون نحيبه كلمات متقطعة ينفثها القلب الملتاع نفثة إثر نفثة على تلكم الأنامل المختلجة التي ترتجف وتتشنج كلما أهاب القلم الباكي بالنفس لتصور له مبلغ ما بها من أسى أو حزن هما كل ما لديها حين بكاء القلم من احساس وشعور. |
والقلم حين يبكي أيضاً تعصف به الذكريات المريرة وتتقاذفه أعاصير الحزن الطاغي الذي يجرف النفس القريرة فيفتت فيها نياط القلب الرقيق المعلق بين جنبيها بعروق وشرايين لا تكاد أن تثبتان أمام تيار الحزن الجارف حتى تعصف بهما هاتيكم الذكريات التي كانت وما أحلى ما كانت فيه ـ من رقة وعذوبة وأمن وهناء ـ فأضحت محطمة عند صخرة الأحزان القاسية مريرة تذكرها النفس الملتاعة فيبكي من أجلها القلم الباكي الحزين. |
وما بكاء القلم الآن ودموعه إلا صدى لزفرة عميقة وأنة مدوية من قلب حزين تأسى والتاع لعاطفة نفسية كانت كامنة بين خلجات الفؤاد فعصف بها حادث الحزن وأهاجها من مكمنها فجعلها تئن وتزفر على موتك يا أبا عبد المقصود. |
إننا نتألم كثيراً ولكن لا نبكي إلا لحزن عميق أو نكبة فادحة، وإذا بكينا فسريعاً ما تمر الأيام لتسدل على أحزانا حجب النسيان فتكون به لكربتنا فرجاً ومخرجاً. |
على أننا اليوم لا نبكي فقط وإنما أقلامنا تبكي معنا وتنتحب وجدير بالقلم حينما تجرفه لوعة الحزن ويبكي أن يلطم القراطيس ويمزق الطروس. |
ومتى بكى القلب وسكب من قلبه كل ما فيه من مادة الحياة فإنما يسطر صفحة خالدة من صفحات التاريخ، فهو لا يلطم القرطاس حينما يلطمه إنما يمسه وفي هذا المس أدق أحاسيس النفس في شعورها، وهو لا يمزق الطرس حينما يمزقه إنما يقتطع منه ما يريد وبين سطور تلك القطعات أسمى معاني الوفاء لصديق نبيل قضى نحبه مبكياً عليه من أصدقائه وخلصائه. |
أجل يقتطع من الطروس قطعاً يضمها إلى التاريخ فتكون ذكرى جليلة حافلة. |
هذا أنت يا أبا عبد المقصود اختارك الله بعدما عانيت ما عانيت من وصب وألم وبعدما عانى أصدقاؤك وخلصاؤك معك ما عانوا من حزن وأسى وهذا نحن نبكيك وكلنا لوعة ونذرف من أجلك الدموع السخينة وقلوبنا واجفة، وتنعيك أقلامنا وقد كانت فيما مضى تهنيك فهي سنة الله في خلقه ((ولن تجد لسنة الله تبديلا)). |
يا عبد المقصود لقد توفى أبوك فكان موته لنا عبرة إلى جانب عبر الحياة على أن يتُمك وبُعدك عن أبيك أو بُعد أبيك عنك هو العبرة الخالدة التي يتعزى بها يتيم درج في أحضان اليتم ونشأ بينما أباه يلبي نداءه ثم جاءك اليوم يبكيك بقلبه وقلمه فهلا تأسيت به؟ |
ألهمك الله الصبر وأغدق على أبيك شآبيب رحمته ورضوانه. |
يا عبد المقصود إن قلمي اليوم يبكي ويذرف دمعاً سخيناً على أبيك وان كان للناس أن يتعزوا بالبكاء فإنا اليوم نبكي وليس لهذا البكاء من معنى غير الذكرى الخالدة التي تركها لنا أبوك الراحل ممثلة في شخصك المحبوب. |
يا عبد المقصود ليكن لك في شجاعة أبيك الراحل إقدامه ووطنيته وصدق عزيمته ووفائه لأصدقائه وتفانيه في الصالح العام، ليكن لك في كل هذا وغير هذا خير مثل وخير نبراس ينير لك الطريق في طفولتك. |
ما أعظم ما أريد أن أسجله لك الآن ولكن هو القلم يبكي على أبيك.. وما أكثر ما بكى هذا القلم..! |
((
المنهل
))
السنة الخامسة
|
|
|