شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في الليلة الظلماء يُفتقد البدر
* بقلم: عبد الله العريف
مات محمد سعيد عبد المقصود، لهذه الكلمة الصغير، وجمت النفوس، وارتاعت، وانخلعت لها قلوب، واضطربت عقول، وفزع بعض أصدقاء الفقيد ـ من هول الفاجعة ـ إلى تكذيب، يفتحون لأنفسهم مسارب الأمل، واتقاء الفجيعة.
والموت ـ مع هذا ـ اكثر ما اعتادت سماعه الآذان هو ـ بعد ـ حقيقة الحياة وحادثها المكرور وليس في الحياة حقيقة تؤكد تفهمها بحوادثها المعدة، وقصتها المفزعة، من هذه الحقيقة، حقيقة الفناء، والعدم المحتم على المخلوق.
كان رحمه الله حياة في الحياة، وكان نسيج وحده في الشباب وما أريد بهذا ـ والله ـ أن أذم الأحياء لحساب الأموات، ولكن محمد سعيد ـ كما يعرفه كل أحد ـ كان أمة وحده في هذه البلاد.
كالبدر من حيث التفت رأيته
يهدي إلى عينيك نوراً ثاقباً
وخلة واحدة تلمسها واضحة في حياته، تفسر لك كل حقائق حياته وأخلاقه، تلك هي ((منطق الحيوية)) القوية في نفسه، فهي مصدر كل ما عرفه فيه الناس، من توفز، وتوثب، وحب وكره، وتوقد وإخلاص، ووفاء ووطنية وشهامة، ونبل. وأستطيع أن أقول ـ غير مبالغ ـ إن في كل حركة من حركاته بل وفي نأمه من نأماته، دليلاً على منطق الحيوية القوية في نفسه.
فلقد كان يعيش ـ رحمه الله ـ من أمانيه وآماله في كون حافل بالحركة، يحبب إليه الكفاح والجهاد، ويجدد في نفسه النشاط الدائم، ومن أجل هذا كانت حياته ـ رحمه الله ـ مليئة بالمشاريع حفيلة بالأعمال فلا أعرف ـ ولا يعرف الناس معي ـ مشروعاً قام في هذه البلاد، لم يكن محمد سعيد ـ رحمه الله ـ عضواً عاملاً فيه، فهو في الحق كان عصب المشاريع التي قامت في هذه البلاد، وبه كان قوام أغلبها. لم يندبه المرض الطويل العضال يسأل عن وتيرة حياته وقانونها الذي رسمه لها، فهو في هذا المرض الطويل كما كان في سلامته يسأل ويبحث ويعرض الفكرة ويتبعها بالسؤال وبالتعقيب، لأن فكرة الموت العاجل، كانت أبعد ما تكون عن نفسه الجبارة، حتى آخر ساعة من يومه الأخير كان يسأل عن أعماله بالتليفون، ويكتب عن بعضها على الورق، ما كان هذا سوى استجابة ضرورية لتطبيق قانون الحيوية القوية في نفسه.
ولم يكن محمد سعيد ـ رحمه الله ـ استيعابياً يحتوي الأشياء ولا يحتوي شيئاً فهو يكتب في كل شيء، ويجيب عن كل شيء، ويفكر في دائرة عمله، وخارجها، هو إذا فكّر وقدّر إندفع كالسيل لا يلوي على شيء وليس في حسابه ـ بعد هذا ـ العقبات والصعوبات أو الغضب والرضى.
وما أحسب الناس نسوا بعد مقالاته الاجتماعية في جريدة ((أم القرى)) تحت إمضاء ((الغربال)) وكيف رجت الحياة الاجتماعية في بلادنا رجا، هز العقول وحرك الأقلام، وما تبع هذه الكتابة ـ بعد ذلك ـ من أبحاث في الأدب، والاجتماع، والتاريخ، والآثار، والسياسة، بإمضاءات مختلفة في كل منها دليل روحه القوية في نفسه المستوفزة، وطلاب قانون حيويته القوية.
وما بي أن أعدد أعماله ومشاريعه، فأذكر عضويته في كل مشروع أو عمل، وكيف خدم الحيوات المختلفة في بلادنا وكيف أخرج ((الأزرقي))، و((وحي الصحراء))، وكيف أدار تحرير أم القرى أربع سنوات كانت فيه مثال القوة الصحفية العارمة، وكيف تسلم عمله بالمطبعة الحكومية، وفيها آلة طباعة واحدة تُدار باليد، فتركها وهي إدارة يحسبها الناس، دولة في وسط دولة، كما عبَّر أحد كبار الموظفين، شغل بها الأفكار والناس، ثم كيف أرسل بعثة فنية إلى مصر وألحقها بأخرى، بنى داراً للمطبعة حالت الظروف دون تمامها.
وما أطيق والله بعد هذا أن أتحدث عن محمد سعيد الصديق، وإن القلم ليحبسه الدمع، فلقد كان رحمه الله مثالاً نادراً في الأصدقاء، شأن الصداقة عنده شأن أسمى معاني الحياة في نفسه، وفي قانون منطقه الحيوي المستوفز.
ولقد طال بي وبه عهد الصداقة فما علمت منه قط أنه أساء أو تجنى، ولقد كان ـ رحمه الله ـ أول صديق راش سهمي، وتعهد حياتي بالعطف والحنو اللذين تفرخ بهما أنبل العواطف الإنسانية، فلقد كان لي ـ بعد الله ـ ظلاً وارفاً أتقي به لفح هجير الحياة ووقدتها، فما أعظم رزئي بوفاته.
وما أعلمه من حياته الصداقية، يعرفه كل من لامس حياته الصداقية، ولقد كان من أول الأشياء على قيمته في نفوس إخوانه إن كان أول مشيعية وناعية إلى الناس هم مخاصموه، ومن غشيت صفاء ملاقتهم به أكدار الرسميات.
وما تزال في النفس صور شتى عن محمد سعيد، يضيق بها مجال الصحيفة الضيق النطاق، نأمل أن تأخذ نصيبها كما لابد أن يكون في تاريخ نوابغ الشباب في هذه البلاد.
أخيراً لقد سافر ـ رحمه الله ـ إلى الطائف في إجازة مرضية فاختاره الله لإجازة أبدية يستريح فيها ذلك الجسد المكدود، من عناء الحياة وأوصابها، وهناك وقفت دقات ذلك القلب الشاب النابض بالحياة، وسكت ذلك اللسان اللاهج بأمجاد أمته وقومه، وانكسر ذلك القلم الشارع سنانه في سبيل حياة بلاده.
مات ـ رحمه الله ـ وفي نفسه أمان من المجد، وآمال من الحياة، لم يذوها المرض، ولا أذبلها الإعياء، فعاشت فتية في نفسه حتى عصف بها وبه الموت في دقيقة كان يُغالب فيها المرض، حتى غلبه وعصف به، كما تعصف الريح القوية بالشجرة الوارفة الظلال، فنسأل الله له الرحمة والرضوان ولأطفاله العمر الطويل العامر، ولأصدقائه العزاء الجميل.
جريدة صوت الحجاز العدد 573
تاريخ 18 ربيع الثاني 1360هـ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :675  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 47 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان زكي قنصل

[الاعمال الشعرية الكاملة: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج