نحن والعادات |
العمل وواجب الأمة |
العمل سنة الله في هذا الكون الممتد الأطراف، الواسع الجنبات، وكل فرد في هذا الكون مطالب بالعمل، لا فرق بين الأمير والفقير، والعظيم والحقير، والأعمال تختلف باختلاف الأيدي التي تديرها، والأفكار التي تسترشد بها، كما أن نتائجها وثمراتها تختلف باختلاف القائمين بأمرها والساعين في سبيل تحقيقها، وما على الإنسان إلا أن يعمل بجد وإخلاص ليرضي ضميره ووجدانه، ويؤدي ما عليه نحو أمته ووطنه في معترك هذه الحياة الوعرة المسلك المستمرة الكفاح. |
وليست الأعمال هي ملكاً لأمة دون أمة ولا لشعب دون شعب، ولا لقبيلة دون أخرى ولا لفرد دون آخر ـ بل هي مشاعة لأفراد هذا العالم، ولكل شخص في هذا الوجود حق فيها بدون تمييز، ولكل فرد في هذا الكون سهم فيها بدون تفاوت. سنة الله في خلقه ولن نجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً. |
وبالعمل تعيش الأمم، وبالعمل تتقدم الأمم وبالعمل تترقى وتسعد الأمم، وبالعمل تحيا في هذا الوجود حياة عز وسؤدد، موفورة الجانب، قريرة العين، مرفوعة الرأس، سعيدة الحياة، وبدونه تذل وتشفى وتتأخر، فتبلى وتقفز، فتعدم ثم تقبر. |
وليست الأمال التي يقوم بها الإنسان لاكتساب معيشته، وسد عوزه، وخدمة أمته ووطنه من الأشياء التي يُعاب عليها، أؤمن الأشياء التي تقلل من شرفه، لا، بل هي بالعكس تظهره في مظهر الرجولة، في مظهر العالم المجد، وبعمله هذا يؤدي واجباً نحو وطنه، فالزارع يخدم وطنه بزراعته، والصانع يخدم وطنه بصناعته، ثم إن الذي يكتسبه من عمله يقضي به لوازمه وحاجياته الضرورية. ومن احتقر أحداً في عمله الذي يعيش من ورائه ((متى كان بعيداً عن الرذائل))، فما هو إلا متهوس، ومن تعاظم أو تكبر عن العمل ـ وبالأخص إذا كان في حاجة إليه ـ بحجة أنه صاحب عز وإقبال أو شريف الأصل، رفيع المنزلة، أو بالأمس كان صاحب خدم وحشم ـ فقد ضل الطريق لأنه سيأتي عليه يوماً ما ينفذ من تحت يده، وعند ذلك. يصبح عالة على المجتمع الذي ينتمي إليه، والعالة مرذول في نظر العالم أجمع. ثم أن الكون هذا لم يعمر هذا العمران إلا بالعمل، ولم يتطور هذا التطور الغريب إلا بالعمل، ولم يقطع هذا الشوط البعيد والبعيد جداً إلا بالعمل، ولولا العمل لما رأينا شيئاً مما نراه الآن من العجائب والغرائب، والمصائب والبلاوي، والفضائل والرذائل، والقديم والجديد. |
والآن بعد هذه التوطئة ((إن صحت أن تسمى توطئة))، نرى كثيراً في هذا الوطن العزيز بدون عمل يستثمرون فائدته، ويستغلون مصلحته لقضاء لوازمهم وحاجاتهم، ولكل منهم حجة يحتج بها، ولكن جلها ـ إن لم تكن كلها أو هي من بيت العنكبوت. |
إن الحياة ما هي إلا كفاح ونضال مستمر، والعالم المجد هو الذي يسيطر على مرافقها، ويستثمر فائدتها، ويقتطف زهرتها، ويجب أن يكون لنا قسط وافر من ذلك لأننا نريد أن نتقدم إلى الأمام، ونريد أن نكون أمة راقية، ونريد... ونريد... وما دمنا نطمح لمثل ذلك فيجب أن نعمل حتى نصل إلى الغاية التي نطلبها، وأن تكويننا الجديد، ونهضتنا الحديثة يجب أن تكون قوية محكمة الدعائم حتى نستطيع أن نبني عليها ما نؤمله، ويجب أن نسيرها على خطة متينة لنأمن لها السلامة، ولنستطيع الوصول بها إلى الغاية التي ننشدها، والتي نرنو إليها، والتي تطمح لها نفوسنا، وإذا لم نعمل بجد ونشاط ونترك الكسل جانباً ونذلل كل عقبة تظهر في طريقنا لتحول دون تقدمنا، فسنتأخر ونقضي على هذه النهضة التي لا تزال في المهد بعد، ونبدد الآمال التي نطمح إليها وهي لم تزل في خواطرنا بعد. |
أنا أعرف أن الطفرة محالة، ولكن سيرنا ضعيف، وعملنا ضعيف أيضاً، والأشخاص الذين يضعون الأساس لبناء هذا الطود الذي نريده ونتمناه، والواجب يقضي على الأمة أن تؤازرهم وتساعدهم ليكون سيرنا قوياً مفيداً. |
أسمع كثيراً من الناس يقولون إن العمل واقف، وأن الأزمة جعلت البطالة عامة في جميع العالم، وهذا صحيح، ولكن بلادنا وتكوينها الحالي غير بلاد المعامل والمصانع ((لأنا لم نصل إلى تلك الدرجة بعد))، وليس معنى هذا أن الأزمة لم تؤثر فينا، لا بل أثرت فينا أيما تأثير، ولكن لو عملنا وجدينا لكانت حالتنا أحسن من الآن بكثير. ثم إن الأزمة الحاضرة تدعونا للجد والعمل لنتغلب عليها ونقهرها، وأن الوقوف أمامها مكتوفي الأيدي مضربنا ومؤخر لسيرنا. |
نجد كثيراً من الأجانب يأتون إلى بلادنا ويفتحون في بادىء الأمر حانوتاً حقيراً صغيراً، ثم لا نلبث أنراهم صاروا أرباب تجارة ودخل عظيم، فهذه الفائدة من أين أتوا بها، بالطبع وبدون شك، منا ومن بلادنا، فلو نحن زاحمناهم وعملنا كما هم يعملون لنجحنا مثلهم، وهذا وطننا، وهذه بلادنا، وخدمتها علينا واجبة. ونحن أحق الناس بفائدتها، فإذاً لماذا لا نعمل لنستغل الفائدة، ونكتسب القلوب كغيرنا؟ لا أعرف بل ولا يوجد مانع يحول دون ذلك، وإن هذا الأمر منوط بأنفسنا دون غيرنا، فإذا عملنا تقدمنا، وإذا تكاسلنا تأخرنا، لقد دار الزمان علينا، وعضنا بأنيابه، فقضى على مجدنا الأثيل وعزنا العظيم، والآن أردنا أن نتنبه فيجب أن نعمل، ويجب أن نسعى بكل الوسائل الموصلة لما نريد، ويجب أن نطرق كل مسلك نعلم أن فيه الفائدة، ومن ورائه الخير لنا ولبلادنا، هكذا يجب أن نكون، أما أننا ننام، ونطلب تقدماً، ونطلب حضارة، ونطلب إعادة المجد الذي اختفى بين طيات الأيام الغابرة، فهذا شيء غير معقول، ولا يمكن أن يكون أبداً. |
العمل قبل كل شيء، ويجب أن يكون للمصلحة العامة، ورقي الأمة والوطن. العمل قبل كل شيء ويجب أن يكون بإخلاص ونية صادقة. |
أما الأقوال المنمقة، والأحاديث المبهرجة، والتي لا تتعدى أوقاتها، فهذه عادة سيئة، يجب أن نتركها، ويجب أن نقرن الأقوال المفيدة بالأعمال الصحيحة، ونترك الكسل الذي أخرنا، ونسير سيراً حثيثاً ما دمنا نريد أن نكون أمة حية عاملة، وهذا الطريق أمامنا، وما علينا إلا أن نسير، ومن سار في الدرب وصل، فقط يعوزنا الإخلاص لأنه الأساس، وإذا عملنا بإخلاص فسننجح، وإذا أبينا إلا التلكع والتسكع، والسير الأعوج، فهذا أمر يؤلم ويؤلم جداً، فمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ. |
مكة المكرمة:
((
الغربال
))
|
جريدة
((
أم القرى
))
العدد 393
|
|
يوم الجمعة 19 صفر سنة 1351 هـ.
|
|
|
الموافق 24 يونيو سنة 1932م.
|
|
|