شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ساعات من الليل!
أرقت نفسى في أعماقها بضع ساعات من ليل مكبوت الأفلاك غائم الجو، كأنما تجلببت فيه السماء بصحراء نقية بيضاء كصحراء الغبراء، وساد صمت الليل العميق، وأخذ الأرق يطوف بى في عوالم الخيالات، لأحلم في يقظتى بحلم لم تره عين، ولا هجس في قلب، ولا سمعت به اذن، فقد رأيتنى أتلذذ من غير ملذوذ، وأطرب لغير ما لحن، ويتضاعف سرورى في جوف ذلك الليل الضال في صحراء السماء، وكانت تلك الأحلام في مجموعها حياة منظمة كانتظام الحياة التى يعملها الأحياء بأيديهم، وعقولهم، وضروراتهم. وكانت في نفسى كحياة الأمل الذي يرى ويسمع ويحس، ويتلفت من عوالم من المعانى إلى عوالم من المعانى أيضا، وهو لم يزل في محيط النفس المؤملة، ومحيط هذه النفوس لم يكتشف أحد بعد قراره ولا عرف منتهاه.
لقد أرقت، ولقد كان أرقى حياة جديدة طويلة الآماد، ملذوذة الاحساس حتى لطلبت إلى نفسى (ما دام في وجودنا هذا الحقيقى كائنات غير ما تراه أعيننا وتسمع به آذاننا، وتشترك في معرفته حواسنا، لا تحيط بها أسوار الجص ولا جبال فيها ولا رمال ولا عواصف ولا أهوال) الهجرة إلى هذه العوالم السحرية التى نجومها عرائس من فتن الجمال، وزمنها من دورات فلك السعادة، وأرضها الطبيعية المتبرجة، وسماؤها شعر الشعراء، وعبادة الزهاد، وبراءة الأطفال، وخفر العذارى، وزفرات المتيمين، وسكانها أطياف من النور لا يسأل أحدهم عن مال ولا بنين، وهو غارق في سبحات أحلامه لا ينتهى من أنشودة في الجمال الا وتنطبع في نفسه أنشودة أعظم أثراً، وأبعد مغزى، وأغزر مادة، وأعمق صدى، فهم في أغنياتهم يبحثون عن نفوسهم التى أضلوها، وعقولهم التى ترفرف في أجواء المثل العليا تبحث عن مستقرها، فهم في تيه تصرفُهم السعادة ويكلأهم الجمال، وترعاهم الفضائل التى تحكم ذلك الوجود.
أجل ـ لقد ذهب بى الأرق كل مذهب في عوالمه فرأيت عفة فتاة طوحت بها الدناءات حائرة بجانب عزةفى النفس أذلتها الحاجة، بجانب طهر في القلب داسته الخيانة، بجانب عوالم أخرى من قبيلها وجميعها حيرى غارقة في حيرتها، ولكنها مشمولة بحنو الطبيعة الرؤوم ومغمورة بسعادة هذا العالم النورانى.
ولقيت في عالمى هذا الذي اشتغل فيه كل أهله بأنفسهم حورية حسناء آنست من نفسى انكسارها وحيرتها، وأحست بما استولى علىَّ من دهش الغربة في هذا العالم السعيد الذي لا يهاجر اليه الناس الا بعد أن تصهرهم آلام الحياة فتطهرهم بلهبها المقدس، وبعد أن يؤمنوا على الغيب بالسعادة في كل شئ، ويطول عليهم إِضلالهم لها، وتتلاشى فيهم نزعة المادة وخبائثها، فينتقلون بغتة إلى عالم السعادة الذي عشقوه قبل أن يروه، وآمنوا به لأنهم لم يفقدوه لحظة من نفوسهم.
تقدمت إلى تلك الجنةُ المتمثلة على هيئة غانية، وأخذتْ مقامها بالقرب من نفسى، وأطلتْ على منابع تفكيرى الجارية في طريقها، ثم أخذت علىّ الطرق جميعها، فتركتنى لا أكاد ألبس عليها ظنا، ولا خيالا، ولا هما. ولا أغرر بها فيما أرادتنى به. ثم قالت:
يا هذا!
ان عالمنا لم يجئ اليه الا من طهره اللهب المقدس، فكيف نفذت اليه ولا تزال الرغائب والضرورات تضعف من انسانيتك؛ وتثقل من جوهرك؟ انك ستصبح في غير ريبة سخرية (عالم السعادة) فوطِّن نفسك لذلك، فهم أحوج ما يكونون إلى من ينتقمون منه من عالمكم الذي غادرته ملوثاً بغدره وأضاليله وبهتانه.
ألم تترك الزوج يلفق لقرينته الأكاذيب؟ ألم تره يعسف بها ويضطهدها ولا يراعى لها كرامة؟ الم تر الحب في عالمكم شهوانياً تغزوه الحيوانية في صميمه؟ أما رأيت فلانا يزدرى والديه ويغش أصدقاءه ويغرر بالفتيات، ويضحى بشرفهن في حيوانيته، ويجمع الشقاء بين يديه ورجليه ليحثو به في قاع داره. فلا تجد السعادة اليه سبيلا. ان حيوانيتكم لا إنسانية فيها، وان هذا العالم الذي تنزله لا حيوانية فيه، وبذلك فستصبح بحق مهزلة هذا العالم.
فقلت ـ بصوت أجش أرهفته تلك الكلمات النارية:
أننى لم أجئ إلى عالمكم هذا الا بعد أن أرقت ولجت بى الخواطر في ملاجها وساقتنى اليه، وانك أيتها الفاتنة الجميلة ليس بكثير على جمالك هذا أن تحمينى من سخرية عالمكم. وكيف تضنين بحمايتى وأنت الضالة التى أنشدها منذ أبصرت هذا الوجود.
ألم تترائى لي في المهد كطيف يداعبنى فأكاد أمسكه بيدىّ الصغيرتين آنئذ فتفلتين منى فأضج بالعويل والبكاء، ثم تعودين إلى فتقبلين جبينى اللامع يوم ذاك بأنوار الطفولة البريئة فأبتسم لقبلاتك الحية وأنتفض. وكنت أحاول أن أطير معك في عالمك هذا منذ ذلك العهد الأول البرئ، أنسيت ذلك؟ أتنكرينه؟ ألم تقبلينى قط؟ ألم تضمينى إلى صدرك الحنون مرات عديدة؟ ألم تأخذى بيدى في يوم من أيام طفولتي وأنت تقولين ما أضعفك على كونك هذا، حتى اذا ما اغرورقت عينى بدموع الطفولة الطاهرة جذبتنى اليك وسرّيت عن نفسى، وألقيت في فمى جرعة من رضابك العذب، هاك! خذى من فمى أمانتك فيه. اننى ما زلت محتفظا بها.
ها هي ريحها الشذية وعرفها الطيب، وها هي ذى عذوبتها التى لم أجد مثلها في وجودى قط، وها هي تلك الجرعة التى هي عقدة الميثاق بيننا جاءت بى اليك لأقول لك بدورى اننى ضعيف على كونى فزودينى بما أقوى به عليه.
لا ـ بل ان نفسي أزمعت الهجرة اليك والعكوف على مشاهدة جمالك والافتتان بك، اننى لن أزول عنك قدر أنملة وها أنا ألصق نفسى بنفسك فزوديها جرعا من رحيقك المختوم لتقوى على نورك فهي ضعيفة عليك كما ضعفت على كونها. انك أنت التى بثثت في الجبن وعلمتنى الضعف والفرار من أهواء الانسانية الجامحة سوف لا تحملين جريمتى فتشوهين من جمالك.
لقد ضحكت تلك الجنة بجميع زينتها من حيرتى واستغاثاتى ثم قالت:
انكَ تتكلم بلغة عالمك، فأنت تفترى علىَّ بدعوى حبك في الطفولة وتبالغ في حاجتك إلى، وتجعل من نزعاتك ثورة تكادُ تقلق عالمى. فلا تبعد بى عما أريد بك.
هل عرفت المرأة قط في حياتك؟؟
فصعّدت زفرة جمعت حولى أطياف عالمها جميعاً، وشملتنا سبحات قوية من النور الوهاج المضئ، وتعطلت أناشيد ذلك العالم، وسادهم الصمت، ورجعت إلى أنفسهم ذكرياتهم بى في العالم الذي فارقوه، وآلوا على السعادة أن لا يذكروه بعدها أبداً، لقد وجم الكل وبدأت أنوار السعداء تبهت بذكريات أحزانهم وأخذ جميعهم يهمس بينهم:
انه من هناك، انه لم ينتقل عن نظام هذا العالم، ان اللهب المقدس لم يطهره بعد، انه أفسد علينا شأننا وطاف علينا بصورنا التى خلفناها منذ أحقاب. ولم يكن أحد منهم قبل تكلم قط بكلمة مع أخيه. ثم أخذ الشعراء من السعداء يتغنون بمثلهم، وشاع في ذلك العالم شكوى أولئك البائسين، وكاد جميعهم يغفل أنه سعيد وفي ((عالم السعادة)) فكأنما استحالت جنةذلك العالم جحيما مضطر ما بحممه، وهنا جاء السيد رسول الفضيلة وانتزعنى من بينهم انتزاعا، فاستمسكت بحلى صديقتى فطوعت لها نفسها أن تعرف من شأنى غير ما وقفت عليه وتتبين كيف كانت هي ضالتى المنشودة، وأَلقي بنا السيد المطاع في أَجواء السعادة الخفيفة فأَخذت تتجاذبنا مدة ثم انحطت بى المادة التى ما لبثت تثقلنى في حضن أزهار من بين أزهار تلك الطبيعة المتبرجة فهوت معى الغادة، وأعادت علىّ قولها.
هل عرفت المرأة قط في حياتك؟
فما تمالكت نفسى حتى صعّدت مثل الزفرة الأولى التى أقلقت السعداء ولكنا الآن بمعزل عن مغانيهم التى رجعت إلى طبعها ورجع اليها نظامها وسلامتها فلم تؤثر زفرتى الحارة الآن أثرها الأول. ثم قلت:
أي سيدتى! لقد عرفت المرأةفى قلبى مجموعة متسقة من الفضائل، وفي عقلى حسنات مؤتلفة من الخواطر، وفي تفكيرى روحا لا تقوم دونها قائمة هذا الوجود، وفي حسى ـ لقد رأيت المرأة في حسى كل شئ جميل: فرأيتها النبات الغض الطرى لم يقم على ساق، ورأيتها الزهرة يجتمع عليها كمها، ثم رأيتها وقد انفتق ذلك الكم فاذا هي عطر مسكر للنفوس ونور يذهب بالأبصار وتثن يعطف القلوب، وفتنة ليس وراءها فتنة، ورأيت المرأة وهي دوحة في منقطع الصحراء المجدبة تحفظ الظل وترطب السمائم وتجمع المياه من بين عروق الأرض وتؤلف منها منبعا عذبا فيأوى اليها المنبتّ يستظل بظلها ويشرب من مائها ويستفيد من خيراتها.
ثم أجهدت وانقطع بى الحديث فقالت:
ثم ماذا؟ ألم أنبهك أنك في العالم الذي وصفت لك، وانك في عالم السعداء مثار سخرية واستهزاء.
فقلت ـ رحماك فانما بهرنى النظر اليك فحار حديثى فاسمحى لي من عينك بقبلة فاننى على وشك الهداية إلى ما تريدين، فلما أذنت في ذلك وتقدمت منها أدركنى سحر نظرها فلم أحر أي عمل، واستولى علىّ الخشوع وتملكنى الذهول، ثم استغثت برحمتها أن تتطلف بى فتنقذنى من نتيجة غرورى وفتنتى ـ فالتفتت إلى قائلة:
ها قد صدقت بأن اللهب المقدس لم يطهرك بعد، ولو تقدمت إلى زيادة على ما فعلت لاحترقت بهذا الضوء الذي تطمع أن تقبله، انك يا فتاى ضعيف على عالمك الذي جئت منه وعالنا الذي نزلت فيه.
فاتممت حديثى فقلت:
لا ـ ليست المرأة هي مجموعة من عمل العقل والحس والتفكير بل... بل... بل هي... ثم لم أجد ما أقوله، فقاطعتنى قائلة: انكم تعرفون المرأةكما تعرف الحيوانات اناثها، وانكم أبعد ما تكونون علما بحقيقة المرأة!!
ليست المرأة هي الفضيلة والحسنة
إنها القوة التى خلقت لتشذب من وحشيتكم معشر الرجال وحيوانيتكم، ولتسموا بأذهانكم المتلبدة وأفكاركم المحدودة إلى حيث تفارقون مستوى المادة المغموسين فيه، ولتستمدوا من طبيعة خلقها بعض علومكم ولستم ببالغين كل ما في طبيعة المرأة من العلوم، ولتأخذوا عناها إلهامكم الذي ينجو بكم من عالمكم ذلك إلى عالم السعداء فتمرحوا بصفاء وتطربوا بصفاء، ولستم ببالغين كل مافى طبعها من الالهام ولتنطلقوا من القيد الحديدى الذي قيدتم نفوسكم به وأسميتموه الزمن والأوضاع التى استبعدتكم وأنتم واضعوها وأسميتموها العادات، ونقصكم الذي التزمتموه ودعوتموه الحاجة ولستم بمستفيدين لحريتكم ـ كما يجب ـ من طبعها.
ان المرأة هي السعادة، وهي الكمال، وهي الغنى، وهي الحرية، تهتدوا به فاستكثرتم منه
ثم جهلتموه فضللتموه ولبثتم تهتفون بالمثل الأعلى.
ثم قالت: وأنت حين تذكرنى صديقتك في المهد وفي عهد طفولتك فأنت وحدك الذي ذكرتنى من بين أبناء عالمك.
أجل ـ فأنا صديقة كل مولود منكم يا أبناء عالم الدنيا، ولكنكم في رجولتكم لستم كمثلكم في طفولتكم، فأنتم في طفولتكم على هيئة الملائكة ـ والمرأة تحب الطهر والعفاف وبراءة النفس ـ لذا فاننى ألابس كل طفل، وأدعبه وأحضنه، حتى اذا ما كبرتم تغلب عليكم طبعكم واستقامت فيكم جبلتكم فكان منكم الخونة والمردة والظُّلام والشياطين.
أما الجرعة التى ذكرت فانها لم يحظ بها من أبناء جيلك هذا الا أنت وحدك. وانما جدت بها عليك لعلمى بأنك ضعيف على كونك فالآن فأغمض عينيك، وألق بنفسك إلى، ثم نفثت من روحها في روحى، وألقت في فمى جرعة من رضابها العذب الشهى ثم قالت: افتح عينيك فاذا أنا قوى على عالم السعداء، ولكن المرأة وحدها التى استطاعت أن تجعلنى سعيداً.
انقضت ساعات الليل، وعم ضوء النهار فلقينى الناس، فكان الرجال يقولون ـ انظروا إلى نصف الرجل، ويقول بعضهم هذا بات رجلا فأصبح امرأة، ويقول الآخرون لقد أفسد على الرجولةكبرياءها.
وسمعت نداء طريا من
يهتف لقد كملت انسانيتك
فأنت اليوم ابن المرأة بحق. وأنت اليوم السعيد بحق، لقد تمت في نفسك الفضائل منذ اليوم
وسمعت الفتيات يقلن:ان هذا شذ عن قانون الرجولة الفاسد.
وسمعت نفسى تقول لي: انك حسنة من حسنات المرأة.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :669  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 177 من 181
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأربعون

[( شعر ): 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج