مهمة الأدب في الحياة |
للأدب مهمة في الحياة، هي: أن يترجم شعور الناس ـ أفراداً وجماعات ـ بصورة واضحة تستطيع أن تفهم منها أفكارهم وعواطفهم ودقائق تأملاتهم، وأنت بعيد عنهم كما لو كنت على اتصال بهم، وكما لو كنت تدرس ـ من قرب ـ حياتهم وتستجلى كوامن نفوسهم وتتعرف اتجاهات ميولهم. |
والأدب ـ بعد هذا ـ قوة من القوى المؤثرة بالدرجة الاولى في اتجاهات حياة الشعوب وفي مصيرها، فهو في الامة التى غلب عليها روح التمرد والنفور والقسوة في الخلق؟ يؤدى ـ بقوته ـ وظيفة تهذيب الطبائع الانسانية بما يوحى اليها على ألسنة أدبائها من عواطف سامية رقيقة تلابس ما خشن في نفوسها فتدمغه بطابعها وتشذب ما قسا من سجاياها فتنصاع الأمة للسماحة واللين؛ وتتذوق من الحياة جمالها وبداعتها، ثم لا تلبث ـ بعد ذلك ـ أن تسمو مداركها نحو كمال (الانسانية العامة) وتتجه حواسها إلى اكبار كل خلق كريم والافتتان بكل عمل جميل. |
وهو في الأمة التى طغى عليها روح الخمول والركود. يؤدى وظيفة الممهد للحياة العملية بما يبث فيها ـ على أقلام أدبائها ـ من منبهات نفسانية قوية توقظ من شعورها ما كان هامداً وتحفز من أوتار قلوبها ما كان جامداً، وتبعث من عزائمها ما كان خامداً، وتحيى من ضمائرها ما كان راكداً. وبما يصور غاية العمل وثمرته من تماثيل رائعة تستميل الفكر وتستثير العقل بجماع ما فيه من حس وادراك إلى التفكير والانتاج، وتبعث في النفس بكل ما فيها من عواطف وأحاسيس، شرارة النهوض والاهتمام فتندفع إلى السبيل تعمل وتجد تحت تأثير المنبه النفسانى الشديد. كما أنه في الأمة التى لعبت بها يد التفريق ومزقتها أيدى سبا، وأطفأت فيها شعلة الوطنية وكبتت روح الوحدة والتضامن ـ يقوم بمهمة الجامع للكلمة والموحد للميول، بما يسكب بين يدى بنيها من العبرات الرقراقة المنسجمة بكاء على حق الأمة الضائع ومجد الوطن المندثر. وبما يعرض أمام أنظارهم من العظات الصارخة بمشاهد الاعتبار من الأمم الواهنة المتخاذلة والمتفرقة فيستجيش في نفوسهم الحماسة ويثير فيها روح التضحية القومية ويحرك فيهم كهربائية العمل للواجب العام المقدس فتتجاذب قلوبهم من غير أن يشعروا ويجتمع شملهم وتتوحد تلك الكتل المتفرقة بتأثير نداء الوجدان كما تجتمع برادة الحديد المتناثرة كتلة واحدة بجاذبية المغناطيس. وكما تتوحد كريات الزئبق المبعثرة على سطح مستو في جهة واحدة بقوة الحركة والترجرج |
ثم هو كما يؤدى هذه الوظائف والمهام في تلك الامم النافرة والخاملة والمتفرقة، كذلك يقوم بواجب المسجل لعظمة الامة وحضارتها كلما بلغت من الرقى شأواً. فيطبع تاريخها بطابع الخلد ويكسوه حلة قشيبة زاهية ترنو لها الأبصار، على توالى الأعصار وتكون موضع التأمل والاعجاب ويحفظ لها في سفر الحياة صفحة ذهبية لامعة بالمجد الخالد. |
كذلك يعمل في نفوس أفراد الشعب المنصرف إلى أعماله بجد، ما تعمله الموسيقى. بما يرسله أدباؤه من القطع الشعرية البديعة التى يجد فيها الإنسان رجعا لصدى نفسه الشجية ووتراً لنغمات قلبه المضني، فيتلذذ من قراءتها ويطرب لسماعها، وينفس عن نفسه ما علق بها من ألم، ويذهب عن فكره ما يطيشه عن بهجة الحياة. ولعل دور (الاوبرا) التى تنشئها وتساعدها الحكومات في الأمم الحية ليجد فيها الشعب العامل في صخب الحياة من أسباب انعاش النفس وانشراح الضمير ـ ما يبعث فيه لذة العيش وروح اليقظة والنشاط ـ لعل هذه الدور شواهد قائمة لما للأدب من تأثير موسيقى عظيم على النفوس اذ ليس في دار الاوبرا الا الاطراب بقصائد ممتعة جميلة كلها رقة وعواطف تمثل أعمق نغمات النفس، أو تمثل روايات كلها صور طبق الأصل للحياة وما فيها من آمال وآلام، وأفراح وأحزان، ومحبة وبغض، ورضاء وغضب، ورحمة وقساوة، وعطف وكراهية، وهل هذا كله سوى الأدب في بعض صوره وفصوله. |
ان حضارات الأمم المعاصرة ونهضاتها قد أصبح قوامها العلم والفن ولكن للأدب فضل تأسيس هذه الحضارات والنهضات أيا كان نوعها وكيف كانت صبغتها. وما من نهضة علمية أو فنية أو سياسية أو دينية الا للادب يد في انشائها وتقويتها في بدء تكوينها. ومطالعو التاريخ الحديث لا ينسون كلما ذُكرتْ قوة المانيا الهائلة، ما كان لادبائها قبل قرن أمثال (جوته وشيلر) من الجهود في تكوين وحدتها وتوجيه قوتها إلى صوب واحد، بعد أن كانت ـ داخل بلادها ـ مجزأة الاوصال، متفرقة الكلمة والغاية، أشبه بالأقطاع المختلفة المتباينة، وكان ما كان من استحواذ نابليون بونابرت على قسم منها، ولا ينسون كذلك حينما تذكر الثورة الفرنسية ـ وهي بدء حياة فرنسا الحاضرة ـ ما كان لأدب (مونتسكيو وروسو وفولتير واندريه شيتيه) من تأثير عظيم في نفوس الفرنسيين بعثها إلى تعشق الحرية وأيقظ شعورها إلى نشدان حقوقها المغصوبة وانقاذها من أيدى الطغاة المستبدين. |
وهذا الدين الاسلامى قد قام دستوره الأعظم (القرآن الكريم) على الاعجاز ببلاغته وبيانه الساحر ولم تكن الحياة الاسلامية في ابتداء بعثها الا تلك البلاغة العربية المثلى التى كان يبثها نبى الاسلام (صلى الله عليه وسلم) فتهيمن على العقول بعذوبتها وتغزو القلوب برقتهاوسحرها وجاذبيتها وكانت قريش ـ رغم مناوأتها هذه الحياة الجديدة ـ تسارع إلى سماع تلك البلاغة تترقرق من فم ذلك النبى العربي الكريم. فلا يلبثون أن يداخل نفوسهم الاعجاب ولا يعودون إلى مجالسهم الا وقد استرقت تلك البلاغة مسامعهم، واسترعت قلوبهم وأخذت حلاوتها تستولى على أذهانهم. ثم لا يلبثون أن يستهوى أفئدتهم ما يتخللها من حكم نبيلة وقوانين انسانية كريمة كانوا في غفلة عنها فيروا أنفسهم منقادة ـ من غير ما حيلة ـ إلى ورود هذا السبيل. |
ثم أليس تلك النهضات الاسلامية التى ملأت ـ وما زالت تملأ ـ الخافقين قد شيدت، كلها، على تلك الحياة الاسلامية الاولى التى بدأت بالاعجاز بالبلاغة فقط وأسرت النفوس بالبلاغة فقط، واستولت على اتجاهات القلوب وتصورات الافكار بالبلاغة أيضا فكان ما كان من شأن الاسلام في العظمة والخلد، من ذلك التاريخ حتى الآن. |
والبلاغة بما هي تصوير بديع للحقائق، وترجمة صادقة للواقع ونقش للشعور، وبما هي بيان ساحر يتناسق ايجازاً أو اطنابا مع تناسق تلك الحقيقة المصورة؛ والواقع المترجم، والشعور المنقوش ـ اختصاراً أو افاضة ـ ليست الا ما نسميه بالأدب اليوم. |
اذن فالأدب قوام النهضات والحضارات يؤسسها في الابتداء ثم يسايرها في تطوراتها ويحفظ لها ذكراً خالداً حتى نهاية الحياة فهل بيننا من الأدباء من يوقظ أمتنا الخاملة المتفرقة من رقدتها ويؤثر فيها مثل تلك التأثيرات ويخلق لها مثل تلك النهضات ذلك ما أود أن تجيب عليه الاقلام في مستقبل الأيام. |
* * * |
|