شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في الخريف
عم مساء يا عش هنائنا، يا فردوسنا المفقود!
عم مساء أيها الحقل المائج بالسنابل والرياحين والزهور!
عمى مساء أيتها السويعات اللذيذة من ماض جميل!
عمى مساء يا صخرة الملتقى، ويا ناموس النجوى
عمى مساء أيتها التذكارات اللطيفة، الباقية من سعادة احتواها الزمن، وشرد بها الحظ العاثر.
* * *
وحدثنى بربك يا عشى، حدثينى يا صخرة الملتقى.
أين ذهبت وضاءة الحسن التى كانت تشيع وتتألق على هذه الصحراء الحزينة؟
أين تلك الضحكات التى كانت ترن فتملأ هذه الأمكنة الكئيبة حياة فياضة بالشعور، مليئة بالعواطف؟
أين ذلك الحنان الذي كان كلما أقبلت يضمنى فرحا، كما تضم الأم طفلها الوحيد؟
أين يا عشى، ذلك الاشراق، أين ذلك الجمال، أين ذلك الفرح أين اختفت تلك الأطياف الملائكية الباسمة؟
* * *
واحسرتاه!
دائما صمت... دائما عبوس... دائما وجوم!
أأنت مثلي أيضا يا عشى مكتئب حزين؟
أأنت مثلي أيضا محروم الحنين؟
أأنت مثلي أيضا، ثائر حائر دائم الأنين؟
إذاً تعال!
تعال ننصت إلى حديث الماضي!
تعال نقرأ هذه الصحف الذهبية!
تعال، فسنجد فيها نزراً من سلوى وعزاء،
* * *
هل تذكر مثلي كل شئ يا عشى؟
أما أنا فأذكر جيداً حتى هذه الساعة ذلك المساء السعيد الذي جلسنا فيه لأول مرة على رمالك هذه، نتحدث عن الليل الدانى من ناحية الشرق.
وكانت الدنيا يومئذ ضاحكة باسمة، كفتاة لعوب!
وكانت الشمس قد بدأت تربت على رؤوس الجبال اللازوردية البعيدة، وتزيل ماسح عليها من دموع السماء الغاضبة
وكانت النسمات تهب ناعمة نشيطة، فتداعب الأزهار والورود!
وكانت نشوة السرور قد لعبت برؤوس النخلات، فأخذت ترقص على ألحان السوانى، رقصات هادئة، فوق بساط مطرز بالزبرجد والذهب والياقوت.
وكانت العصافير والنغران، تصدح بفنون من التغاريد تملأ الفضاء وتصعد بروحينا إلى عليين!
وكنا نمشى على هذه الارض وقد تأبط كل منا ذراع الآخر، تأبطا يجعلنا نتمنى لو أن كلا منا يندمج في الآخر ويتلاشى فيه.
وكانت أحذيتنا تغوص في الارض الرطبة الهشة، فيعلق بها الوحل، ويبلل ثيابنا ما وجم على أرواق الاشجار من دموع السماء!
ولقد مشينا حتى تغلغلنا في الخضرة، بين المقصبة وتحت أغصان الفل والياسمين.
وهناك أذكر، اجتذبنا جمال الأزهار وأسكرنا عبقها، فوقفنا نقطف منها ما يكفى لضم باقة جميلة.
وطغى علينا السرور فأخرسنا، فلم نجد غير النظرات نتبادلها، وهي لغة بليغة لا يفهمها الا قلب كقلبينا باركته يد الحب.
ثم خرجنا من المقصبة، ومشينا، حتى عثرنا عليك أيها العش، فاغتصبت إعجابنا، فقلنا هنا يجب أن نستريح ثم ارتمينا على أرضك المعشوشبة الندية.
ولست أدرى هل كنت جميلا حقا، أم ذلك ما تراءى لنا!
أنت الآن لست أكثر من تل رملى أحمر، ومن صخور قاسية باردة اللون والشكل!
ولكن حين رأيناك كنت جميلا، بل كنت منظراً يروق النفوس الفنانة الشاعرة!
كنت تلاًّ تتوجك خضرة الأعشاب الخلوية، وذهب الأزهار البرية!
وكانت تمر بك ساقية الحقل، ترغى وتزبد كلما اصطدمت بصخورك الناشئة!
وكانت تحيط بك الصحراء، والجبال والحقول، وكنت أنت في وسطها كالقلب الشاب الزاخر بالآمال!
وكانت تطربك وتطربنا السواقى بموسيقاها الشجية، في كل مساء، إلى أن ترى القمر يشق طريقه إلى الارض من قلب الليل!
وكانت مناظر الغروب، ترتسم على لوحة الفضاء؛ فتثير في النفس ألوانا من الاعجاب بقدرة الواحد الأحد.
لقد كنت جميلا يا عشى، بل لقد كنت طرفة نادرة!
* * *
فحدثنى بربك أين ذهب ذلك الجمال؟
أين تلك البسط الزمردية؟ هل سلبتها يد الأحداث كما سلبتنى رفيقى؟
أين ساقيتك اللجينية الطروبة؟ هل ابتلعها فم الدهر كما ابتلع سعادتى؟
أين أزهارك العسجدية؟ هل ذوت وماتت، كما ذوت وماتت آمالى؟
أين موسيقاك المطربة الشجية؟ هل تلاشت وضاعت كما تلاشت وضاعت أحلامى؟
أين الحقول النضرة؟ أين النخلات الباسقات؟ هل هشمها القدر كما هشم روحى؟
بل أين تلك الشمس؟ أين الغيوم؟ هل آلت على أن لا تعود؟ كما آلت على أن لا تعود أيامُ هنائى؟
بل أين النسمات الناعمة؟ هل بدلت بسموم وحميم؟ كما بدل بالحزن فرحى؟
أم أنت يا عشى قد شاركتنى الحداد على الماضي الجميل؟
أم أنت ياعشى قد زهدت في الحياة كما زهدت فيها أنا؟
أم أنت يا عشى لك قلب ينبض، ويحس، ويتألم؟ فأحسست بشقوتى؟ وتألمت لحالى؟ فظهرت على محياك هذه الكآبة الخرساء؟
* * *
ايه، يا عشى؟
لا هذا ولا ذاك، وانما هو الخريف، سلبك تاجك وأكاليلك وجردك من جمالك وجلالك؟
وغدا عندما يقبل الربيع، عندما تتفتح البراعم، وتنضر الأزهار وتغرد الطيور، وتستيقظ القلوب.
غداً؛ ترد اليك الطبيعة ما اغتصبته يد الخريف!
ولكن أنا!
أنا، يا عشى، في ذمة الله!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :382  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 120 من 181
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.