في الخريف |
عم مساء يا عش هنائنا، يا فردوسنا المفقود! |
عم مساء أيها الحقل المائج بالسنابل والرياحين والزهور! |
عمى مساء أيتها السويعات اللذيذة من ماض جميل! |
عمى مساء يا صخرة الملتقى، ويا ناموس النجوى |
عمى مساء أيتها التذكارات اللطيفة، الباقية من سعادة احتواها الزمن، وشرد بها الحظ العاثر. |
* * * |
وحدثنى بربك يا عشى، حدثينى يا صخرة الملتقى. |
أين ذهبت وضاءة الحسن التى كانت تشيع وتتألق على هذه الصحراء الحزينة؟ |
أين تلك الضحكات التى كانت ترن فتملأ هذه الأمكنة الكئيبة حياة فياضة بالشعور، مليئة بالعواطف؟ |
أين ذلك الحنان الذي كان كلما أقبلت يضمنى فرحا، كما تضم الأم طفلها الوحيد؟ |
أين يا عشى، ذلك الاشراق، أين ذلك الجمال، أين ذلك الفرح أين اختفت تلك الأطياف الملائكية الباسمة؟ |
* * * |
واحسرتاه! |
دائما صمت... دائما عبوس... دائما وجوم! |
أأنت مثلي أيضا يا عشى مكتئب حزين؟ |
أأنت مثلي أيضا محروم الحنين؟ |
أأنت مثلي أيضا، ثائر حائر دائم الأنين؟ |
إذاً تعال! |
تعال ننصت إلى حديث الماضي! |
تعال نقرأ هذه الصحف الذهبية! |
تعال، فسنجد فيها نزراً من سلوى وعزاء، |
* * * |
هل تذكر مثلي كل شئ يا عشى؟ |
أما أنا فأذكر جيداً حتى هذه الساعة ذلك المساء السعيد الذي جلسنا فيه لأول مرة على رمالك هذه، نتحدث عن الليل الدانى من ناحية الشرق. |
وكانت الدنيا يومئذ ضاحكة باسمة، كفتاة لعوب! |
وكانت الشمس قد بدأت تربت على رؤوس الجبال اللازوردية البعيدة، وتزيل ماسح عليها من دموع السماء الغاضبة |
وكانت النسمات تهب ناعمة نشيطة، فتداعب الأزهار والورود! |
وكانت نشوة السرور قد لعبت برؤوس النخلات، فأخذت ترقص على ألحان السوانى، رقصات هادئة، فوق بساط مطرز بالزبرجد والذهب والياقوت. |
وكانت العصافير والنغران، تصدح بفنون من التغاريد تملأ الفضاء وتصعد بروحينا إلى عليين! |
وكنا نمشى على هذه الارض وقد تأبط كل منا ذراع الآخر، تأبطا يجعلنا نتمنى لو أن كلا منا يندمج في الآخر ويتلاشى فيه. |
وكانت أحذيتنا تغوص في الارض الرطبة الهشة، فيعلق بها الوحل، ويبلل ثيابنا ما وجم على أرواق الاشجار من دموع السماء! |
ولقد مشينا حتى تغلغلنا في الخضرة، بين المقصبة وتحت أغصان الفل والياسمين. |
وهناك أذكر، اجتذبنا جمال الأزهار وأسكرنا عبقها، فوقفنا نقطف منها ما يكفى لضم باقة جميلة. |
وطغى علينا السرور فأخرسنا، فلم نجد غير النظرات نتبادلها، وهي لغة بليغة لا يفهمها الا قلب كقلبينا باركته يد الحب. |
ثم خرجنا من المقصبة، ومشينا، حتى عثرنا عليك أيها العش، فاغتصبت إعجابنا، فقلنا هنا يجب أن نستريح ثم ارتمينا على أرضك المعشوشبة الندية. |
ولست أدرى هل كنت جميلا حقا، أم ذلك ما تراءى لنا! |
أنت الآن لست أكثر من تل رملى أحمر، ومن صخور قاسية باردة اللون والشكل! |
ولكن حين رأيناك كنت جميلا، بل كنت منظراً يروق النفوس الفنانة الشاعرة! |
كنت تلاًّ تتوجك خضرة الأعشاب الخلوية، وذهب الأزهار البرية! |
وكانت تمر بك ساقية الحقل، ترغى وتزبد كلما اصطدمت بصخورك الناشئة! |
وكانت تحيط بك الصحراء، والجبال والحقول، وكنت أنت في وسطها كالقلب الشاب الزاخر بالآمال! |
وكانت تطربك وتطربنا السواقى بموسيقاها الشجية، في كل مساء، إلى أن ترى القمر يشق طريقه إلى الارض من قلب الليل! |
وكانت مناظر الغروب، ترتسم على لوحة الفضاء؛ فتثير في النفس ألوانا من الاعجاب بقدرة الواحد الأحد. |
لقد كنت جميلا يا عشى، بل لقد كنت طرفة نادرة! |
* * * |
فحدثنى بربك أين ذهب ذلك الجمال؟ |
أين تلك البسط الزمردية؟ هل سلبتها يد الأحداث كما سلبتنى رفيقى؟ |
أين ساقيتك اللجينية الطروبة؟ هل ابتلعها فم الدهر كما ابتلع سعادتى؟ |
أين أزهارك العسجدية؟ هل ذوت وماتت، كما ذوت وماتت آمالى؟ |
أين موسيقاك المطربة الشجية؟ هل تلاشت وضاعت كما تلاشت وضاعت أحلامى؟ |
أين الحقول النضرة؟ أين النخلات الباسقات؟ هل هشمها القدر كما هشم روحى؟ |
بل أين تلك الشمس؟ أين الغيوم؟ هل آلت على أن لا تعود؟ كما آلت على أن لا تعود أيامُ هنائى؟ |
بل أين النسمات الناعمة؟ هل بدلت بسموم وحميم؟ كما بدل بالحزن فرحى؟ |
أم أنت يا عشى قد شاركتنى الحداد على الماضي الجميل؟ |
أم أنت ياعشى قد زهدت في الحياة كما زهدت فيها أنا؟ |
أم أنت يا عشى لك قلب ينبض، ويحس، ويتألم؟ فأحسست بشقوتى؟ وتألمت لحالى؟ فظهرت على محياك هذه الكآبة الخرساء؟ |
* * * |
ايه، يا عشى؟ |
لا هذا ولا ذاك، وانما هو الخريف، سلبك تاجك وأكاليلك وجردك من جمالك وجلالك؟ |
وغدا عندما يقبل الربيع، عندما تتفتح البراعم، وتنضر الأزهار وتغرد الطيور، وتستيقظ القلوب. |
غداً؛ ترد اليك الطبيعة ما اغتصبته يد الخريف! |
ولكن أنا! |
أنا، يا عشى، في ذمة الله! |
* * * |
|