عيد |
كانت الشمس تلقى على الحياة نظراتها الأخيرة |
وكانت نظراتها الأخيرة مملوءة حسرة وأسى |
كانت تودع الحياة بعين حائرة |
وكان وداعها للحياة يفيض حرارة وجوى |
كانت تحب الحياة وتبغى البقاء |
فكان احتضارها أملا وهوى |
ولكن الأجل قد جاء والوقت قد حان |
فتخاذلت، وهناك وراء الجبال لاقت الردى |
فحملها الأفق إلى مثواها في أعماق الدهور |
وكلل الشفق نعشها بالزهور وأحرق أمامه البخور |
وبكاها فأراق على الأفق الدماء |
ونعاها فأحزن المرج والصحراء |
ثم لما ابتلعها لحدها وغيبها دهرها |
صاح في الروض طير |
لقد ماتت ذكاء |
فكان يوم قديم قد مر وكان شهر قديم قد انقضى |
وجن جنون السحاب الحزين |
فناح نواحا يثير الحنين |
وراح يناجى الربى والحزون |
يمزق فوق الذرى وجهه |
ويهرق فوق الثرى دمعه |
ولم يرث قلب لتلك الدموع |
ففاض المحب بأنفاسه |
وراء الجبال، وراء الحبيب |
* * * |
وجاء الظلام يسود الحياة ويأسو الحزين ويشفى الكلوم |
وبنات نعش يرقبن من سمائهن مصير السحاب المحب |
ويعجبن بذاك التفانى وذلك الوفاء وذاك الحنين |
ويرتعشن حين يذكرن حبيبا أطال المغيب |
فتطلعن قلقات إلى طريقه وراء الهضاب |
فرأينه يشق الفضاء ويفرى الظلام |
فابتسمن وضحكن |
وابتسم وضحك |
ومد اليهن شعاعا |
ومددن اليه شعاعا |
فكان اللقاء وكان العناق |
وغرد في الروض طير |
لقد أشرق الهلال |
فكان يوم جديد قد حل وكان شهر جديد قد قدم |
* * * |
رأت الأرض الهلال فقالت: |
يالسعادتى بقدومك، فأنت مؤنسى حين يستبد بى الليل، وأنت نجيى حين يأسرنى الظلام |
ورأى العاشق الهلال فقال: |
يالهنائ بقدومك، فأنت عزائى حين تهجرنى الحبيبة، وأنت ملاذى حين يجفونى الكرى |
ورأى الناس الهلال فلم يقولوا شيئاً وانما ملأوا الدنيا ضحكا وأطلقوا المدافع ابتهاجا |
وسأل طفل أباه الغنى قائلا: |
لم تطلق المدافع يا أبت؟.. |
فقال: لأن العيد قد أتى؟ |
فوثب الطفل صائحا |
العيد قد أتى يا فرحتى بالعيد!؟.. |
* * * |
وسأل طفل يتيم أمه قائلا: |
لم تطلق المدافع يا أماه؟!.. |
فسكتت وجالت في مآقيها الدموع!. |
وتأوهت. فالتهبت في صدرها النيران |
واغمضت عينيها فرأت الماضي بأفراحه ومسراته: |
رأت أفراحاً وأعياداً مرت سعيدة كالأحلام الجميلة |
رأت ليلة عيد السنة الماضية حين كان زوجها حيا يلبى طلباتها الكثيرة. ويرسل الخادم إلى الاسكاف والخائط يستعجلهما في ارسال ثياب ولده وحذائه. ويداعب ابنه. ويغمره بالقبل. ويملأ الدار اشراقا ونورا |
رأت ألوان الثياب الحريرية والحلى الثمينة التى كان تخيرها لها لتلبسها في العيد |
رأت الماضي بأفراحه ومسراته وهي مغمضة العين ذاهبة اللب وفتحت عينيها النجلاوين فرأت الحاضر الأسود المخيف فارفض منهما الدمع الهتون |
رأت الظلمات تسود الدار. والوحشة تلفها في ردائها |
رأت الحزن يطبق على حياتها واللوعة تعبث بنفسها |
فبكت وناحت نواحا مكبوتا |
بكت لأن ولدها سيخرج غدا مرقع الثياب. بينا الأطفال جميعهم سيخرجون رافلين في ثياب جديدة جميلة، وأحذية لامعة وعقل مقصبة. |
بكت لأن ولدها سيعود غدا باكياً منتحبا. حين يرى الزمامير واللعب في ايدى الأطفال ولا يرى في يديه شيئا منها |
بكت لأن ولدها سيذوق لأول مرة مرارة اليتم وعلقم الحرمان التى حرصت على أن لا يذوقهما منذ مات أبوه!.. |
وكان الطفل يلهو بكعاب في يده: وسمع المدفع يطلق مرة ثانية فاستأنف سؤاله |
لم تطلق المدافع يا أماه؟ |
أخفت وجهها في ذراعها النحيل ولم تقل شيئا |
وعرف الطفل أنها تبكى |
فسألها لم تبكين. هل تخيفك أصوات المدافع. ربما كان هذا هو الحرب الذي حدثتنى عنه. ولكنه لا يخيف. اننى مسرور |
قال ذلك وأسرع إلى النافذة يستطلع، فسمع طفلا يصيح. |
العيد قد أتى، يا فرحتى بالعيد!؟.. |
فركض وارتمى في أحضان أمه وهو يقول: |
لا تبكى. لا تبكى، ليس هذا حربا كما تتوهمين. انما هو العيد. العيد الذي جاءنا قبل أن يسافر بابا. هو العيد!؟.. |
وكاد يقول: يا فرحتى بالعيد |
لكنه لأمر ماسالَها. هل ستشترين لي ثيابا كما كان يشترى لي بابا فرفعت اليه رأسا مثقلا وأخذته بين ذراعيها وقبلته بلهفة وحرارة ودفنت وجهها المحمر المغيظ في صدره الصغير وقالت: |
لا، لا، انه الحرب يا ولدى. وحين اشترى لك الثياب يأتى العيد ثم وضعته في حضنها. وارتفع صوتها ناعما مرتعشا بأغنية النوم، |
فاستسلم اليتيم ونام ملء أجفانه الوردية يحلم بالحرب وينتظر الثياب. |
ونام الأطفال جميعهم ينتظرون العيد. |
|