ظاهرة مجيدة |
في نهضة الأدب العربي.. ماذا يجب أن يكون موقفنا تجاهها؟ |
هذه الظاهرة الجديدة تتمثل في هذا الانتقال الميمون الذي نشاهده ونسر به اليوم في أفكار أدباء العربية من ناحية العناية بالحضارة الغربية والافتتان بها، إلى ناحية الاهتمام بدرس المدنية الاسلامية العربية ونبث
(1)
دفائنها الرائعة والباسها ثوبا قشيبا، والبحث عن تراثها القيم المثبت في هذه الكتب الحية التى كانوا يدعونها، جهلا بما فيها، بالكتب الصفراء، ونشر نتائج هذه الدراسات المفيدة المنعشة في مؤلفات جامعة بين طرفى العناية الفكرية والجمال الفنى، وفي مقالات ضافية بليغة، وفي قصائد رنانة شائقة، تجوب أطراف العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، حاملة رايات القديم، في ثوب قشيب شفاف، فتثير حماسة القراء واعجاب المطالعين بهذه المدنية العظيمة الزاهرة التى شادها الأسلاف |
لا نرتاب في أن هذا الانتقال الحميد من أفق الغرب إلى أفق الشرق، ومن الشرق إلى الاسلام والعروبة، هوأثر من آثار التطور المجيد الذي حصل في نفسيات الأمة العربية جمعاء |
فالأديب في كل أمة، مع أنه الجرس الذي ينبه مشاعرها، ويوجهها إلى الناحية المفيدة، فهو أيضا الصدى الحاكى لتطوراتها وتصوراتها ، وآلامها وآمالها. |
* * * |
في اليوم الذي كانت الأمة العربية خاملة النفوس، قاصرة الأنظار متولية شطر الغرب، تخاله أحسن قدوة وأرقى مثال يحتذى ـ كان الأديب العربي كذلك سواء بسواء.. كان أدبه اذ ذاك عربيا في ألفاظه ولغته، غريبا في تفكيره ومراميه ومقاصده. |
وكان الأديب الذي يعنى بدراسات الحضارة الغربية، وينقل نتائج بحوثه فيها إلى أبناء أمته في لغتهم كان هوالمثل الأعلى في الأدب. من أجل ذلك رأينا المكتبات العربية الحديثة زاخرة بهذه الدراسات تارة في مؤلفات، وطورا في جرائد ومجلات، وكانت الناشئة والامة تطالعان تلك البحوث بمزيد الشوق والحفاوة لتستلْهِما من تضاعيفها الأمثلة العليا في الأدب والعلم والسياسة والاخلاق. |
أما المباحث الاسلامية فقد كانت المكتبة العربية شبه محرومة منها، فليس لحياة أبى بكر الصديق ولا لعمر الفاروق ولا لخالد ابن الوليد، ولا لأبى عبيدة بن الجراح، ولا لسعد بن أبى وقاص، ولا لعمرو بن العاص، ولا للمغيرة بن شعبة رضى الله عنهم دراسات حديثة شافية، تجلو لنا عن جلائل أعمالهم؛ وعظائم آثارهم بل ولا للرشيد وابنه المأمون، وحفيده المعتصم، ولا للجاحظ ولا للمتنبى وغيرهم من أقطاب النهضة الاسلامية والثقافة العربية، ليس لهؤلاء جميعاً تراجم قيمة ممحصة. |
وليس للعلوم والفنون العربية من تفسير وحديث، وفقه، ولغة وبلاغة، وطلب، وكيمياء، وهندسة، وطبيعة، وصناعة، وزراعة، وتجارة، وتربية ـ مباحث واسعة منظمة تكشفها لنا وتجعلها على مقربة من الناشئة العربية المتعطشة إلى المعرفة. |
كانت هذه الناحية من الدرس والبحث وقفا على فريقين: فريق المتدينين من العرب والمسلمين وفريق المستشرقين من الأفرنج. أولئك كانوا أقلية مرمية بالرجعية والقهقرى، والجمود على القديم البالى. وهؤلاء كانوا يؤولون آثار هذه المدنية ويمسخون حقائقها على النحو الذي يرضى ذوقهم الغربى ونزعتهم المسيحية. |
وكذلك كان الأدب العربي الناهض منذ نشأته إلى ما قبل زمن وجيز، فلما سرى روح اليقظة في الأمة العربية، وأجمعت على أن تطرح عن كاهلها أعباء التقليد الأعمى للغرب، وأقسمت لتأخذن لنفسها مكانة تحت الشمس، كان لزاماً على الأدب أن يتجه وجهة جديدة؛ ويتكيف بكيفية غير الأولى، بحسب ما تدعو اليه الظاهرة الجديدة في أمته وكان لزاماً عليه أن يكون في الطليعة وفي المقدمة، ليحافظ على مركزه في النفوس، وفي الحياة خصوصاً أن الاستقلالين:الاجتماعى والسياسى لا يتأتيان الامن زعيم نفسى قوى بالغ التأثير، وذلك الزعيم هو الأدب القومى في أسمى معانيه؛ فالأدب القومى الجامع لهذه الأوصاف من شأنه أن يضرب على الأوتار الحساسة في قلوب الأمة فيجتذبها ويهيب بها إلى النشاط والطموح والعمل المستمر الجبار. |
وهكذا حال الأدب العربي الحديث فها هو اليوم يقدم الشواهد ويقيم البراهيم على أنه أهل للزعامة، وقمين لقيادة الأمة في ميادين النهوض، فقد اتجه إلى دراسة المدنية الاسلامية العربية من جميع نواحيها، وأزمع على تقديم نتائج دراساته إلى الأمة العربية في مؤلفات وأساليب تلذ مطالعاتها، يظهر ذلك للقرائ اذا تصفح المجلات والجرائد العربية السيارة واذا تفطن إلى أن كبار أدباء العربية اليوم انكبوا على هذه الناحية، وكرسوا جهودهم في دراسة حياة المرشد الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدوا في حياته معينا لا ينضب، فأخرجوا لنا فيها أسفاراً عديدة راقية كما وجدوا في دراسة حياة خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم، وحياة أقطاب النهضة الاسلامية قديماً وحديثاً فهم انما يبحثون في هذه الأيام على هذه النهضة، ويشيدون بذكرها وانهم عاكفون على تحليلها في مبادئها، ومقدماتها ونتائجها، ليهنأ العرب بهذه الظاهرة الجديدة في أدبهم الناهض، وليفخر الأدب بها ايضاً. |
وبسبب هذه الظاهرة المجيدة أصبحنا نرى المؤلفات العصرية التى تبحث في مدنية الاسلام العربية تتكاثر في المكتبات الحديثة بصورة مدهشة، ولقد زاحمت زميلاتها الغربية الموضوعات ولن يمر وقت طويل حتى تحل من الناشئة والأمة والمكتبات نفس المكانة التى احتلتها المباحث الغربية في جميع ما ذكر، لما تحويه من الآراء القويمة ولما تكشفه من نواحى نهضة عظيمة رائقة كانت نسياً منسياً، ثم لا تصالها الوثيق بالروح العربية المتحفزة إلى النهوض والتفوق. |
ماذا يجب أن يكون موقفنا تجاه هذه الظاهرة؟ |
هذا السؤال هو بيت القصيد، فالحجاز هو منبع الحضارة الاسلامية العربية ومنه انتشرت في عموم الأقطار. |
ماذا يكون موقفنا من نبث كنوز الأجداد وبعث مطمور آثارهم القيمة؟ أترى يكون موقفنا منها الجمود والقناعة بما يقدمه إلينا أدباء الاقطار العربية المجاورة؟ أم يكون موقفنا مشرفا لمركزنا رافعاً لرؤوسنا فنبحث مع الباحثين، وننقب مع المنقبين، ونشترك مع الكاتبين فنعيد لأنفسنا شيئا من زعامتنا الأدبية الضائعة؟ |
يا ترى أي الموقفين يختاره أدباؤنا؟ وأي الطريقين يسلكون؟ |
اننى أرى أن هذه الظاهرة الجديدة فرصة سنحت، وأرى أن اضاعتها غصة، وأن انتهازها غنيمة، فهل لأدبائنا أن ينتهزوها؟؟ |
* * * |
|