الشعر ونفوذه العظيم في المجتمع العربي القديم
(1)
|
1 ـ نفوذه في السياسة: ـ |
يقول الدكتور فريد رفاعى في كتابه عصر المأمون: |
((انك لتعلم مالاستخدام الشعر من أثر في كثير من الحركات السياسية واستحثاث العزمات وانهاض الأمم في الانقلابات الاجتماعية)) اهـ. |
وهكذا فالشعر كان الأداة العاملة في سياسة الشعب العربي سواء في ذلك عصر الجاهلية والاسلام. |
عقد بن رشيق في كتابه ((العمدة)) باباً بعنوان ((احتماء القبائل بشعرائها)) جاء في افتتاحه ما نصه: ـ ((كانت القبيلة من العرب اذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس وتباشر الرجال والولدان لأنه ((أي الشاعر)) حماية لأعراضهم وذب عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة بذكرهم)) ا هـ. |
وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم معجباً بحسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة الصحابيين بصفتهما من شعراء الاسلام وكان للأول في شعره مواقف سياسية جليلة قدرها له النبى صلى الله عليه وسلم فدعا له من أجلها وكان وحده قائما مقام جيش من الجرائد السياسية الساهرة على النفاح عن الدين الحنيف ازاء جمهور الشعراء المحادين. |
ونلاحظ من بين ثنايا التاريخ أن شوكة الشعر السياسية قد ازدادت اتساعا لما ثبتت قدم الحضارة الاسلامية العربية خصوصاً في إبان الخلائف من بنى أمية وبنى العباس الذي هو في الحقيقة ((العصر الذهبى)) لتلك الحضارة. ففى تلك الأيام الزاهرة ترى الخلفاء يتنافسون في تقريب الشعراء لاستدرار فياض مدائحهم التي تقوم بنشر جليل أحسابهم ونبيل أنسابهم وسنى فعالهم على العموم إلى غير ذلك من ألوان الدعاية التى تدفع عنهم غوائل الانتقاض وتقيهم من جراثيم الانتقاص وتوطد دعائم ملكهم مما أكسب الشعر مركزاً سامياً في الدولة. |
وفي الحق ان الشعر في ذلك العهد الناضر قد بلغ الدرجة القصوى في النفوذ السياسى فقد أصبح نافذاً في أجل وأدق شؤون الدولة السياسية. |
وسنلخص لك فيما يأتى ثلاث وقائع هامة لعب فيها الشعراء دوراً سياسياً ان لم نقل كان لهم فيها فصل الخطاب، وأشباهها لو فحصت: |
(1) أوعز معاوية في ولاية ابنه يزيد إلى ((مسكين الدارمى)) الشاعر أن يقول أبياتاً في معنى البيعة ليزيد وينشدها إياه في مجلسه وهو حافل بالوجوه والأشراف فلما عملها وأنشدها بين يديه على تلك الحال قال له معاوية ((ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله)) ولم يتكلم أحد من بنى أمية في ذلك الا بالاقرار والموافقة وذلك الذي أراده معاوية ليعلم ما عندهم ثم وصله يزيد ووصله معاوية فأجزل صلته |
(2) كان سديف بن ميمون الشاعر حانقا على دولة الأمويين مظهراً ذلك حتى في أيامهم فلما زالت دولتهم وقامت على جماجمها دولة بنى العباس دخل سديف على عبد الله بن على العباسي وعنده جماعة من بنى أمية مقربون منه كانوا هم البقية الباقية منهم بالمشرق فأنشده قوله: |
لا يغرنك ما ترى من اناس |
ان تحت الضلوع داء دويا |
فضع السيف وارفع السوط حتى |
لا ترى فوق ظهرها أمويا |
|
ففى الحال أمر عبد الله فذهبت أرواحهم هباء. |
(3) تحامل ابن حزم الأمير على الأحوص الشاعر فشخص هذا إلى الوليد فأنشده قصيدة من ضمنها: |
لا ترثين لحزمىّ ظفرت به |
يوما ولو ألقى الحزمى في النار |
الناخسين لمروان بذى خشب |
والداخلين على عثمان في الدار |
|
ففى الحال عزل الوليد بن حزم عن الأمارة! |
والواقع أن الشعراء لذلك العهد كانوا فضلا عن اقتدارهم الباهر واسلوبهم الساحر مهرة في معرفة سياسة زمانهم فهم يعرفون من أين تؤكل الكتف وكيف تستثار الحفائظ الدينية والقومية والشخصية قديمها وحديثها ولذلك تم لهم النفوذ السياسى المدهش الذي ألمعنا لك عنه في هذا الفصل والذى افتخر بتحصيله ((البحتري)) الشاعر إذ يقول: |
ان أبق أو أهلك فقد نلت المنى |
ملأت صدور أقاربى وعداتى |
وغنيت ندمان الخلائف نابهاً |
ذكرى وناجحة بهم نشواتى |
وشفعت في الأمر الجليل اليهم |
بعد الجليل فأنجحوا طلباتى |
وصنعت في العرب الصنائع عندهم |
من رفد طلاب وفك عناة |
|
2 ـ نفوذه في القضاء |
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة |
ويقضى بما يقضى به وهو ظالم |
|
بهذا البيت الحكيم وصف أبو تمام الطائى نفوذ الشعر القضائى إذ ذاك فقد كان الحاكم بأمره يقضى بما يقرره ان خطأ أو صواباً ولم يعدُ أبو تمام في وصفه الحقيقة. |
فهذا عامر بن الطفيل لما فاخره ((علقمة بن علاثة)) وحكّما القاضى هرم بن قطنة واتفق أن كان للأول يد عند الأعشى الشاعر قال هذا فيها قصيدة قضى فيها بالفضل لعامر على علقمة فنفذ حكمه وأنف القاضى المنصوب راغم. |
وهذا أبو دلامة الشاعر الماجن استشهد في قضية فلما أدى الشهادة وانصرف قال بمسمع من القاضى: |
اذا الناس غطونى تغطيت دونهم |
وان بحثوا عنى ففيهم مباحث |
|
فقبل القاضى شهادته دون توان وحكم للمشهود له. |
وفوق هذا وذاك فنفوذ الشعر السياسى طالما أعفى الشعراء في ذلك العهد من اقامة حدود استوجبوها. |
3 ـ نفوذه في الادارة |
هل أتاك نبأ الشاعر مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغوانى وإنه قد تولى على جرجان. أنه لم يصعد لذلك الكرسي إِلا بسبب شعره الجذاب، فهو وان يك صريع الغوانى فقد صرع الألباب وسحرها وسخرها لأمانيه السامية. |
لم يحدثنا التاريخ أن صريع الغوانى كان من رجال الادارة الممتازين ولا من أبطال الطعان والنزال المعروفين بل ولا من ذوى القربى من الخلفاء وانما غاية أمره أنه شاعر والسلام. |
والشاعر معتبر في ذلك العصر اجتماعياً قديراً بل هو ادارى كفء لاشغال المناصب بالنسبة لتفوق شعره وبراعته. |
فهذا أبو الطيب المتنبي هو ابن سقاء خامل وضيع قربه سيف الدولة منه فلم يكتف بتلك القربى بل طمحت أنظاره نظراً لاقتداره الشعرى إلى مرتبة الامارة ان لم نقل الملك، فانضم لكافور صاحب مصر تحنانا لتسنم ذلك المنصب الخطير فخلب لبه بسواحر مدائحه فيه، ولكن المتنبي ظهر في شعره الخلاب بمظهر المفكر الكبير والسياسى الخطير في نظر الأمير كافور فلذلك توقف الأخشيدى عن انجاز وعده بتأميره خشية من غوائله، والملك عقيم. |
4 ـ نفوذه في الرأى العام |
حدث عن نفوذ الشعر في الرأى العربي العام ولا حرج فطالما كان قائد زمام حركاتهم وسكناتهم، قال ابو سفيان لقومه عن الأعشى لما مر بهم قاصداً النبى صلى الله عليه وسلم لأجل الاسلام: ((هذا الأعشى والله لئن أتى محمداً ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره)) فأجمعوا اليه مائة من الابل ((رشوة يصرفونه بها عن ملاقاة النبى صلى الله عليه وسلم)) ففعلوا وانصرف. ففى قوله ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره برهان ناهض على ما ذهبنا اليه من امتلاك الشعر ناصية الرأى العربي العام في هاتيك الأيام. |
ودليل ثان: المحلق الكلابي رفعته قصيدة الأَعشي
(2)
إلى مصاف الأشراف بعد أن كان غاية في الخمول والضعة، فقد تنافس الأشراف في مصاهرته بسببها. |
وثالث: بنو أنف الناقة ارتفعت مكانتهم في نظر العرب ببيتى الحطيئة
(3)
. |
ورابع: بنو نمير جمرة العرب انطفأت جمرة سموهم وهبطوا إلى الحضيض الأسفل بسبب بيت جرير
(4)
فيهم فهل بعد هذه الأدلة الناطقة من برهان؟ وهل بعد هذا الصنيع من نفوذ في الرأى العام؟ |
|