شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في العصر العباسي الأول
قامت الدعوة العباسية بالعراق معضدة بعناصر غير عربية كانت تنقم على الحكم الأموى تعصبه للعرب، وكانت نظرة المنصور إلى الأدب تختلف كثيراً عن نظرة الدولة الأموية، وكان في المدينة محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية يتوثب للثورة وقد فتح أبوابه للشعراء واتجهت أنظارهم اليه فأمعن في اكرامهم وأجزل لهم العطاء، فطار صيته واستفحل تأثيره. ولما كان الشعر وسيلة من وسائل الدفاع يومذاك عانى المنصور الأمرين في اخماد ثورته، ولقد كان عمل محمد بن عبد الله هذا درسا بليغا للعباسيين اتجهت بسببه أنظار ولاتهم إلى استمالة الشعراء والادباء، كما ان ثورة محمد بن عبد الله كانت سببا في التضييق على الحجازيين بعد ذلك، وقد ساعد على هذا ان العناصر الاجنبية التى كانت تشد عضد العباسيين كانت سياستها ضد العرب، وكانت الحياة قد تطورت عن العصر الذي قبله وتأثرت بحياة الأمم المغلوبة تأثراً صبغ سياستها بصبغة جديدة كان من نتيجتها أن استمالت الحجازيين البارزين وحملتهم على استيطان العراق، فكانوا يجدون من خصب العيش وحسن الوفادة ما حمل البقية الباقية على أن تولى وجهها شطر العراق. وكان امعان الخلفاء في اللهو والترف، والولع العظيم بالغناء داعياً أشهر المغنين، وأظرف الندماء إلى التحول من الحجاز إلى حيث المال والوجاهة والحرية. وحيثما كان المتاع واللذة، كان الأدب وفنونه، وكانت الحرية الشخصية وآثارها. زد على ذلك ان المدينة ومكة كانتا في أول العصر العباسي تضمان نفراً غير قليل من المغنين والمغنيات والمتأدبين والمتأدبات، وكان أغلبهم خليطاً من آباء عرب وأمهات أعجميات فكان طبعياً أن تتغلب على هذا النفر وراثة الأمومة وتأثيراتها. فلما تحولت الخلافة إلى العراق وكانت قائمة بتعضيد عناصر غير عربية، وجد هذا النفر مجالا للظهور والسمو والاثراء. وصاحب الأغانى قد حدثنا في سعة عن سياسة المهدى ابن المنصور في الحجاز وجده في استمالة الحجازيين اليه، ونقله خمسمائة من الأنصار إلى بغداد، كل هذا يعطينا دليلا واضحا على ان تحول دهاة الحجاز وأدبائه ومغنيه ومغنياته إلى بغداد أثر كثيراً في الحركة الفنية وتطورها في الحجاز. ولما أمعنت الدولة العباسية في الترف وتحولت عصبيتها إلى عصبية فارسية أخذت الصلات الاجتماعية بين الدولة العباسية وبين بلاد العرب في الضعف، ان لم يكن في اواسط العصر العباسي الأول ففى نهايته، ولقد كان مالمكة والمدينة من قداسة ومقام دينى سبباً في اكتسابهما بعض المميزات من عطف وعناية عبرت بهما السياسة عن رغباتها الخفية. وكان هذا العطف محصوراً في صلات أهل الحرمين بالغلال والنفقات حتى أصبحت نفقة أهل الحرمين في ميزانية الدولة العباسية من النفقات الضرورية. ولكن تلك النفقة كانت لا تكفى لسد الرمق، وكان طبعياً أن يؤثر هذا في الحياة الحجازية. زد على ذلك أن الحجازيين الذين نزحوا إلى العراق حل محلهم سيل المجاورين من أمم شتى تتباين والحجازيين في الأخلاق والعادات واللغات، وهذا جعل الرجولة الحجازية تصطبغ بغير صبغتها الفطرية شأن كل الأمم في بدء ضعفها وانحلالها.
مما تقدم نفهم جيداً ان الأدب الحجازي كان حتى أواسط العصر العباسي الأول يؤدى واجبه على الوجه الأكمل، ولقد كان حظه من الشعر التعليمى، والمجون، والخمر، والزهد ـ وهي من فنون الشعر العربي التى ارتقت في هذا العصر ـ أعظم حظ، ثم أخذ الأدب الحجازي في التقهقر وأخذت الروح الأدبية تضعف رويداً رويداً متأثرة بتلك العوامل التى سردناها، فلم ينقص العصر العباسي الأول الا والحركة الأدبية الحجازية قد اعتراها الشلل. وهذا ما حدا بالأصمعى وهو من متأخرى أهل هذا العصر أن يقول: ((أقمت بالمدينة زمانا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة الا مصحفة أو مصنوعة، وكان بها ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاماً ينسبه إلى العرب فسقط وذهب علمه، وخفيت روايته)) وهو حكم شديد قاس فيه شيء من التحامل. واذا عرفنا أن الأصمعى ـ كما يقول صاحب ضحى الاسلام ـ من المتشددين كثيراً، يقف عند النص اللغوى فلا يتعداه، ويكره القياس ويعارضه، اذا عرفنا هذا أدركنا مبلغ قسوة الأصمعى في حكمه.
نعم. لقد أصيب الأدب الحجازي في هذا العصر بشىء من الضعف ولكنه لم يتدهور بالشكل الذي يصوره الأصمعى. وانا لنجد الدكتور طه حسين يحدثنا في كتابه ((الحياة الأدبية في جزيرة العرب)) عن الأدب الحجازي في هذا العصر بما يخالف تقرير الأصمعى، اذ هو يقول: ((فمن المحقق أن أعراب الحجاز لم ينصرفوا عن الانتاج الأدبى بمجرد أن تقطعت الصلة بينهم وبين مراكز الحضارة الاسلامية، بل كان فيهم الشعراء والخطباء، والقصاص، والرواة؛ ولكن شعرهم وقصصهم وآثارهم الأدبية بوجه عام لم تكن تنقل إلى مدارس البصرة والكوفة وبغداد وتدرس فيها كما كانت الحال في القرون الأولى، ولم تكن تدون في البادية، وانما كانت تحفظها الذاكرة عشرات السنين، ثم يذهب بها موت الرواة والحفاظ وتنتثر في الصحراء كما تنتثر الرمال بتأثير الرياح. وليس هذا مكان مناقشة الأصمعى في رأيه ولكنها الحقيقة حدت بنا لهذا الاستدلال وذاك الايضاح.
ولئن ضعفت الحركة الأدبية في هذا العصر في الحجاز فقد أينعت وأثمرت الحركة العلمية فيه، فقد ظهر في الحجاز مالك بن أنس، وأبو الوليد محمد الأزرقى، ومحمد بن اسحاق، والواقدى، وسفيان بن عيينة، وربيعة الرأى وغيرهم من عظماء رجال الدين والتاريخ. ولقد أعان على اتساع هذه الدائرة مالمكة والمدينة من مركز ممتاز في الثقافة العلمية منذ الهجرة، ولكونهما مصدراً من أوثق المصادر في رواية المسائل الدينية، فلا غرابة اذا بقى الحجاز كعبة يحج اليها مريدو العلم ومنهلا عذباً يرد اليه طلاب الدين وثقافته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :492  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 11 من 181
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج