في العصر الأموي |
قلت إن القوم أخذوا يشعرون بتطور عظيم في حياتهم، وقد ظهر هذا التطور واضحاً في الحجاز في هذا العصر أكثر من أي عصر آخر، لأن السياسة مهدت لتلك الحياة من جهة، ولأن النفوس أخذت تصطبغ بحضارة الأمم المغلوبة من جهة أخرى، ولقد كان لسيل السبايا والرقيق الذي ملأ دور الحجازيين أقوى الأثر في طبع حياتهم بطابع جديد يختلف عن حياتهم الماضيةِ التى ألفوها. وكان لزاماً أن يتطور الأدب بتطور حياتهم، وأن يتأثر بثقافة العناصر الجديدة التى دخلت فيه، ولكنه بالرغم من كل هذه المؤثرات فقد كان الأدب الحجازي يسير في لفظه وأسلوبه على سننه في العصر الجاهلى وصدر الاسلام، أما في معانيه وأغراضه فقد خالفهما كل المخالفة بحكم تلك المؤثرات التى طبعت نفوس الحجازيين بطابعها الجديد. ثم ان الصدع الذي ظهر في صفوف الأمة العربية يومذاك ونشب على أثره النزاع بين بنى هاشم والأمويين من أجل الملك، وكان من عوامله أن رفعت العصبية الجاهلية رأسها فانقسم العرب إلى شيع وأحزاب متعددة، وكان ظهور تلك العصبية في مثل ذلك الظرف أمرا طبعياً اذ هم قريبو عهد بها ـ أضف إلى ذلك أن السياسة خلقت لها جواً فسيحاً مثلت على مسرحه أدوارها ـ وكان لزاما أن يظهر شعراء الفريقين أمام ذلك النزاع الشديد، وتلك العصبية المستفيضة ليدافع كل شاعر عن شيعته. ولقد استخدمت السياسة الشعر ـ أو اذا شئت فقل الأدب لأغراضها، فكان من نتجته أن وجدت في الشعر حياة جديدة غير حياة عصر الخلفاء، وألقى على أساليبه ومعانيه ألوانا من الفتنة والسحر والتأثر، ولم يقتصر هذا على الشعر، بل ان الخطابة لم يك سوقها أَقل نشاطاً، إِذ قد أَدت واجبها في ذلك المعترك الهائل على الوجه الأكمل، وان مواقف عمرو بن العاص، وزياد بن أبيه، وابنه عبيد الله، وعبد الله بن الزبير، وأخيه مصعب، والحجاج بن يوسف الثقفى وغيرهم من خطباء أَهل هذا العصر أَكثر من أَن تذكر وأَبلغ من أَن توصف، والذى يلاحظ أن السياسة طغت على الخطب الدينية في هذا العصر فجعلتها في حدود ضيقة جداً، وطبعتها بطابع خاص حتى لقد كادت تحدد عباراتها، كما يلاحظ ان الخطب السياسية كادت تكون على وتيرة واحدة، أو اذا شئت فقل تخدم غرضاً واحداً، وهو الذب عن سياسة أصحاب الملك، والوعيد لمن يتحرك بالفساد ضدهم. وانا لنجد صاحب العقد الفريد وأبا الفرج صاحب الأغانى يسهبان في وصف ذلك، ولا نشك مع كل هذا في ان سطوة الأمويين ضيقت على ألسنة خصومهم فأخذت رقعة الخطب السياسية ضد الأمويين تنكمش حتى تقلصت مع تقلص خصومهم فأصبحت بعد أن استتب لهم الأمر وقفاً عليهم وعلى دعاوتهم، وليس هذا مكان الافاضة في هذا البحث، اذ الذي يعنينا من أدب هذا العصر الأدب الحجازي الذي نبحثه الآن. |
* * * |
نشب النزاع على الخلافة، وانقسم المسلمون على أنفسهم فكان في الحجاز عبدُ الله بن الزبير، وفي العراق بنو هاشم، وفي الشام بنو أُميه، وكان أَغلب هذه الأَقسام يتقدمها رجال كلهم من أَهل الحجاز وصميمه، الا أنهم كانوا يعملون للسياسة التى يوالونها ويؤيدونها، ولم تكن الجامعة التى تجمع القوم دينية محضة كما كانت في صدر الاسلام، بل ان العصبية القبيلية قد أفسدت عليهم ذلك، وقد تطورت هذه العصبية القبيلية حتى صارت اقليمية، فشهد العرب عصبية حجازية وعصبية شامية، وانا لنجد ابن يزيد الأزدى في كامله وابن عبد ربه في عقده ينقلان الينا أقوال الهاشميين عن الحجازيين وأقوال الأمويين عن الشاميين، وكيف ان كلا منهما يرى ان جماعته أحقُّ بالأمر من الآخرين؛ وبالرغم من أن أغلب دعاة المتنازعين كانوا حجازيين وأن قومهم كانوا من مختلفى العناصر، الا أن تلك العناصر كانت تتأثر بعصبية الاقليم الموجودة فيه. وانا لنجد الجاحظ في بيانه ينقل لنا الخطب السياسية لدعاة المتنازعين وفيها ما يثبت نظريتنا |
قلنا ان ذلك النزاع وتلك العصبية قد أوجدت في الشعر حياة جديدة، وقد كان للحجازيين من ذلك قسط وافر. ولما هدأت الحال واستقر الأمر أخذت السياسة تلعب دورها، وقد كان الأمويون يعرفون انهم سلبوا الحجازيين (بنقل الخلافة) حقاً من حقوقهم، فكانوا موقنين ان قنبلة الخطر لا تزال كامنة في الحجاز والعراق، فحرموا عليهم المناصب الحكومية وأخذوا لقاء ذلك يبذلون لهم المال في سعة وبسطة قضت السياسة باتباعها فأصبح من في الحجاز من المعارضين والمنازعين أهل ثراء وأبهة، ولقد فرضت عليهم السياسية الأموية حجراً سياسياً اشترته بهذا البذل وبذاك الاحسان الذي استرقتهم به، فكان أكثرهم لا يغادر الحجاز الا باذن خاص من دار الخلافة. وقد ذهب الأمر بالأمويين إلى أبعد من هذا فجعلوا الحجاز منفى سياسياً لهم، وصاحبا الأغانى والموشح يحدثاننا عن ذلك في توسع. فهذا الجو السياسى الذي حصر الحجازيين في أضيق الحدود، وحد مطامعهم وقيد حرية أفكارهم السياسية ـ سبب انغماسهم في الترف وافراطهم فيه وانتهى الترف ببعضهم إلى العبث والمجون فمارسوه وغلوا فيه. وانا لنجد الأصبهانى ينقل لنا من شعر العرجى والأحوص وغيرهما ما يصور لنا حياة أهل هذا القسم. والحقيقة ان الحياة الحجازية انشطرت في هذا العصر إلى قسمين: قسم منها كان كما وصفنا حياة لهو وترف ومجون، وقسم آخر كان حياة علم وفقه ودين، والذى يعنينا الآن القسم الأول لأنه يمت بادق الصلات إلى بحثنا، فقد كان الأدب ـ واذا شئت فقل الشعر ـ هو الذي يصور حياة أهل هذا القسم وكان الشعر الحجازي في هذا العصر أرقَّ الأشعار العربية حتى لقد قالوا: ((شعر حجازى لو ضغطه برد الشام لاضمحل)) وكان ابن عباس يقول ((الشعر علم العرب وديوانها فتعلموه وعليكم بشعر الحجاز)). وقد دخلت ضروب عديدة على فن الشعر لم يك متأثراً بها، أو اذا شئت فقل لم يك يعرفها، فظهر الشعر السياسى، والنقائض والشعر الغزلى. وظهور الشعر السياسى كان مع ظهور النزاع على الملك، وعلى أثره وتحت تأثير العصبية ظهر النقائض، وما ان استقر الأمر لبنى أمية، وفتحوا بسياستهم للحجاز حياة جديدة حتى طغى الشعر الغزلى فغمر غيره من ضروب الشعر الحجازي وملك قيادة الأدب، ولقد كان حامل لوائه عمر بن أبي ربيعة. ويذهب الدكتور طه حسين (في حديث الأَربعاء) إلى أَن ابن أَبي ربيعة زعيم الغزليين في الأدب العربي منذ وجد حتى الآن، واسمعه يقول: ((فعمر اذن زعيم الغزليين الامويين جميعاً لا نستثنى منهم أحداً، ولا فرق فيهم بين أهل البادية وأهل الحاضرة، بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا فنزعم ان عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزليين في الأدب العربي كله على اختلاف ظروفه، وتباين أطواره، منذ كان الشعر العربي حتى الآن)) اهـ |
ولقد كانت أغراض هذا الشعر الغزلى تختلف باختلاف الوسط والبيئة التى يقال فيها، فبينما نجد في شعر ابن أبى ربيعة حياة الدعابة واللهو نجد عليها مسحة من العفة تصور لنا الحياة المكية يومذاك، بخلاف الحياة الطائفية والمدنية فانا نجد في شعر العرجى اباحة ومجونا، وفي شعر الاحوص دعابة ولهواً، وكلاهما قد تجاوز الأدب المكشوف بمراحل؛ وهذا يرجع إلى أن حياة اللهو في الطائف والمدينة كانت غيرها في مكة، ولقد كان القوم يعدون سكان مكة من الاعراب. وانك لتجد الطبرى يحدثنا ان عبد الملك أرسل إلى خالد بن عبد الله كتابا يقول فيه: ((قبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابياً من أهل مكة على القتال)) ثم لمكة ميزة أخرى وهي وجود الكعبة فيها، وهذا يقضى بأن تحافظ على وقارها الدينى ولو بعض المحافظة، ولذا فقد كانت حياة لهوها وعبثها أقل من حياة أخواتها الطائف والمدينة. |
وشهد الحجاز في هذا العصر فن الغناء وانغمس فيه، وهنا يجب أن نقف لنسجل كلمات وجيزةً عن الغناء في الحجاز لما له من الصلة العظيمة ببحثنا: |
قضت سنة الفتح الاسلامى بانتقال الكثيرين من موالى الفرس والروم إلى الحجاز ناقلين اليه فنونهم وألواناً من حياتهم كان الغناء أكثرها فتنة، وأعمقها تأثيراً. ولما انتقلت الخلافة إلى الشام وفرغ أهل الحجاز من العمل، وأعدت لهم السياسة الأموية أسباب الترف انغمسوا في الغناء حتى صار فناً منظماً. |
ولقد كانت مكة مهد هذا الفن الجميل في الاسلام، وسرعان ما انتقل منها إلى المدينة والطائف ومنهما إلى سائر الأقطار الاسلامية. |
ويحدثنا صاحب الأغانى ان ابن مسجح المكى هو أول من تلقى الألحان الرومية واتخذ منها صناعة في التلحين والوضع، إلى ما حذقه من الضرب على الآلات الفارسية حتى تهيأ له أن يجعل ما مارسه فناً عربياً له سماته العربية ومميزاته العربية. ولقد ازدهر الحجاز بالغناء في هذا العصر حتى وصل الأمر بالقوم إلى أن جعلوا له مدارس يدرس فيها. ذكر أبو الفرج ان جميلة المغنية كانت لها في المدينة مدرسة تعلم فيها الجوارى فن الغناء، وذكر في مكان آخر ان بقعيقعان دارا يجتمع فيها مغنو البلدة، وذهب أمر الاعتناء بالغناء إلى أبعد من هذا الحد، فروى لنا صاحب الأغانى: ان سعيد بن سريح والغريض المغنيين، كانا يجتمعان بدار في طرف من أطراف مكة كل جمعة فيتناقضان الغناء ويترادانه، ويجتمع عندهما خلق كثير، ولقد شهد عقيق المدينة حفلات غناء لم يشهدها موضع في الحجاز، ولقد شهد خيف منى في أيام معبدها المقدس حفلات غناء زاهرة. ولم يك الطائف أقل حظا من مكة والمدينة فطالما عقدت مجالس الغناء تحت ظلال كرومه وخمائل أزهاره، وطالما ترددت أصوات ابن سريح ومسجح ومعبد وابن عائشة، وطويس، وغريض، وجميلة، وبثينة، وعزة الميلاد، وحبابة، وسلامة، وخليدة، وربيحة، وغيرهم من مغنين ومغنيات الحجاز في فضائه. وبالطبع فان مجالس الغناء كانت تتعدى حدودها بما تقتضيه من ألوان الأدب والظرف وازجاء الفكاهة والمجون، وتندر الجلساء ومساجلاتهم الأدبية، وكتب الأدب ـ وأخص منها الأغانى، والعقد الفريد، وزهر الآداب، والكامل ـ مفعمة بأخبار ذلك. |
ولم تكن هذه الحياة مقتصرة على طبقة العامة بل شملت الأشراف والأمراء والملوك. وانا لنجد المبرد في كامله يقص علينا خبر بغض عثمان بن حيان أمير المدينة للغناء حتى ذهب به الأمر لاخراج المغنين منها وأجلهم ثلاثا، فتوسط ابن ابى عتيق لسلامة المغنية واحتال حتى أسمعه صوتها فقام من مجلسه وجلس بين يديها وقال: ((لا والله ما مثل هذه تخرج)) فقال ابن عتيق: ((لاتدع الناس يقولون أقر سلامة وأخرج غيرها)) قال: ((فدعوهم جميعاً)) ويروى لنا الأصبهانى ما معناه ((غنى طويس أبان بن عثمان بن عفان في امارته حتى صفق أبان وقام من مجلسه واحتضن طويساً وقال: (يلوموننى على طويس))) وان أمر سعيد بن سجيح وما نمى عنه لعبد الملك بن مروان وتسييره اليه واحتيال ابن سجيح ليسمع صوته عبد الملك حتى أمّنه ووصله وكتب إلى عامله بالمدينة يأمره برد ماله عليه وعدم التعرض له بسوء ـ ليس بخاف ولا بمستتر. ويحدثنا صاحب مروج الذهب ان أول خليفة شجع فن الغناء ودعى اليه يزيد بن معاوية. |
ولقد بقى الغناء محصوراً في الحجاز إلى زمن الوليد بن يزيد، وفي زمنه انتقل من الحجاز إلى الأقاليم العربية. ويحدثنا ابن عبد ربه ان الوليد ارسل إلى المدينة فحملوا له المغنين. |
مما تقدم نعرف أية درجة بلغها الأدب الحجازي في هذا العصر، ونفهم جيداً ما دخل عليه من التحسين، وما طرأ عليه من أنواع طريفة أوجدتها حياة الحجاز الجديدة. |
ولا يفوتنا أن نسجل هنا ان النساء الحجازيات كان لهن موقف مشرف في الأدب الحجازي في هذا العصر، فقد جاء في الأغانى: ((ان النساء كن يتناشدن الشعر في المسجد فيتذاكرن الشعراء ويروين لهم)) وفي موضع آخر ((ان سلامة المغنية كانت تقول الشعر)). وكل ما نريد أن نسجله في هذا الباب: ان الأدب الحجازي في هذا العصر بلغ أوج مجده وكان عاماً جميع الطبقات. ويقول الدكتور طه حسين في كتابه ((الحياة الأدبية في جزيرة العرب)) مالفظه. (فكبار الشعراء في العصر الأموى جميعاً من البادية أو من حواضر الحجاز ونجد) ولا يفوتنا أن ننبه القارىء إلى ان للسياسة يداً في هذا التطور فهي التى مهدت له ذلك بالأَموال والحجر السياسي، وكل هذا لا يمنعنا من أن نقول: ان أول صدمة سياسية صدم بها الحجاز ترجع إلى هذا العصر اذ هو عصر انتقال السيادة السياسية والسلطة الحكومية من الحجاز إلى غيره. |
|