مقدمة |
|
بقلم حضرة الكاتب الكبير الدكتور محمد حسين هيكل بك |
|
* * * |
هذه مجموعة من مختار الأدب الحديث في الحجاز، وهي تضم من الشعر والنثر ما جادت به قرائح طائفة من شباب بلاد كانت مهد الأدب العربي ومتنزل الوحي على النبى العربي (صلى الله عليه وسلم) وما تزال مطمح أنظار الأمم التى تتكلم العربية وتدين بالاسلام |
وأول ما يلفت نظر المطلع على هذه المجموعة حداثة الكتاب والشعراء الذين اختيرت لهم، فكثيرون منهم لم يبلغوا الثلاثين ولم يتجاوز الاربعين منهم أحد، والكثرة الكبرى تقع بين الثلاثين والأربعين. هم جميعاً إذن من أبناء هذا القرن العشرين المسيحى وان كانت نبذ الترجمة التى قُدّم لكل منهم بها تذكر سنة ميلاده بالتاريخ الهجرى ولا تشير إلى التاريخ الميلادى الا نادراً، واذا قلت انهم أبناء هذا القرن العشرين الميلادى قلت انهم أبناء النهضة الحديثة في الأدب العربي، هذه النهضة التى بدأت في مصر وفي سوريا منذ بدأت فيها الأحداث السياسية في طلب الحرية منذ أكثر من نصف قرن. |
والحق أن الأدب الحجازي الحديث متأثر بهذه النهضة تأثراً تاماً، وانك لترى أثناء قراءتك هذه المجموعة أثر النهضة باديا في كل ما اشتملت عليه، وقل أن تقف عند شيء يشبه القديم من الأدب العربي، فالاسلوب والصور وطرائق التفكير والتعبير تجري كلها مجرى ما تقرؤه في أدب مصر وسوريا والعراق وغيرها من البلاد العربية في هذا العصر الأخير، بل تجري مجرى الصور الأخيرة لهذا الأدب الحديث في تلك البلاد، فأنت ترى شعراً منثوراً، وترى أوزانا في الشعر من أوزان المدرسة الحديثة، وترى تفكير هؤلاء الأدباء مصوراً في قوالب تكاد تردها إلى مصادرها في تفكير العصر الحاضر وأدبه، ثم انك ترى أساليب يحتذى فيها أصحابها بعض الكتاب المعروفين اليوم في مصر وغير مصر. |
ولا عجب في هذا فناشئة الحجاز شديدة الولع بالاطلاع على جميع الآثار الأدبية التى تظهر في البلاد العربية في العصر الأخير، ولقد أتيح لي أثناء مقامى بالحجاز واتصالى بالمثقفين من أبنائه أن ألاحظ هذه الظاهرة أشد وضوحاً فيهم منها في أبناء مصر، فهم يحدثونك عن أدباء العربية حديثا مفصَّلا ويذكرون كل واحد منهم بآثاره وكثيراً ما يتناولون هذه الآثار بالنقد دون أن يجنى نقدهم إياها على إعجابهم بها. |
وكثيراً ما يقارنون مؤلفات الكاتب الواحد وما تدل عليه من أطوار تفكيره وتصوره الحياة والأدب، وهم أشد ولعاً بالأدب المصرى منهم بالادب العربي في غير مصر من البلاد العربية مع إحاطة بهذا الأدب تعدل إحاطتهم بالأدب المصرى، ولعل سعة اطلاعهم على الآثار العربية ترجع إلى أن أكثرهم لايعرفون غير العربية والى أنهم يحرصون على أن يقفوا على أدق صور التفكير الحديث فهم يلتمسونها عند الكتاب الذين درسوا وعاشوا في الغرب ووقفوا على آثاره، وهم لذلك يدرسون ما ينتجه هؤلاء الكتاب من ثمرات دراسة كانت موضع إعجابى بل كان التعمق فيها موضع عجبى. |
ومرجع حرصهم على معرفة آثار الحياة الحديثة تشوقهم لبلوغ بلادهم ما بلغت غيرها في أقصر زمن تستطيع فيه أن تدرك هذه الغاية، فلقد كانت الحجاز إلى ما قبل سنة 1914 ايالة عثمانية تتنازعها أسباب التدهور التى كانت تتنازع بلاد الامبراطورية العثمانية جميعا في ذلك الزمن، ولم يكن أهل الحجاز يفكرون في أمر بلادهم من ناحية الرقى الفكرى اكتفاء بوجود الأماكن الاسلامية المقدسة فيها وباقبال المسلمين من كل البلاد على زيارة هذه الأماكن لاداء فريضة الحج ولزيارة الروضة النبوية. |
ولم تكن الثورة التى اهتزت لها أرجاء الامبراطورية العثمانية من قبل سنة 1908 ولا كان الدستور العثمانى الذي صدر في تلك السنة ليحرك أهل الحجاز حركة عميقة وان تركت مجهودات الهيئات التى كانت تعمل لتتريك العرب أثرها في بعض النفوس، فلما نشبت الحرب العالمية في سنة 1914 برزت حركة دعاة المملكة العربية وأسرعت فكرتهم إلى الانتشار وزاد في سرعة انتشارها ما اشتهر عن الأتراك من قسوة بالعرب وشدة عليهم في سوريا في الشهور الأولى من الحرب، فلقد كان القائد التركى جمال باشا مضرب المثل في هذه القسوة وهذه الشدة. وسواء أكان ما نشر من ذلك حقا أم كان دعاوة سياسية فقد كان له أثره في نجاح مفاوضات الشريف حسين مع انجلترا وفي اتباع العرب إياه حين نادى فيهم بالخروج على تركيا وفي اعلانه ملكا عليهم. من ثم بدأ عهد النهضة في الحجاز وكل نهضة سياسية تحتاج إلى نهضة أدبية تؤازرها، ولقد كان في الحجاز يومئذ ناشئة تتذوق الأدب ولا تعرف أيان تتجه به، وكان فيه شباب يتعلمون ويتطلعون إلى هذه الحياة الجديدة التى اهتزت لها أرجاء بلادهم ومن ثم كانت النهضة الأدبية في الحجاز وكان الطابع الذي طبعت به. |
ثم ان الأدب يتأثر دائما بالبيئة التى تحيط به في المكان كما تتأثر بأحداث الزمان، واذا كانت هذه الأحداث قد بعثته في الحجاز حتى جعلت أهله يتطلعون إلى غيرهم من الأمم المجاورة لهم فان البيئة العربية الصحيحة التى لم تتغير قد بقى لها أثرها في هذا الأدب شأن كل بيئة في أية أمة من الأمم، ولعل أثر البيئة الطبيعية أكثر وضوحا في شعر أدباء الحجاز منه في نثرهم، فأكثر النثر مرماه الاصلاح الاجتماعى وقلما يتصل الاصلاح بالبيئة الا اذا أريد الالتجاء إلى التحليل ومعرفة آثار هذه البيئة في نفسية الشعب وترتيب الاصلاح على ما يتصل بهذه النفسية، وهذا ما لم نصل اليه نحن في بلاد الشرق العربي، فنحن ما نزال عند الأمور العامة من الاصلاح ولا نزال ننقل عن الغرب ما أبدع من نظم دون التعمق في بحث هذه النظم من حيث ملاءمتها لبيئتنا الطبيعية، أما الشعر الحجازي فينم عن هذه البيئة التى أنبتت الشعراء الأقدمين. ولئن كان الكثير منه متأثراً بحاجات الوقت لتجدن بعضه ينسج على منوال الأقدمين في جزاله لفظه ورقة معناه، وتأثره بوحى البادية وعيشها الحر الطليق في بساطة أدنى إلى الشظف منها إلى هذه الكظة الظاهرة في حياة الغرب العقلية والفنية ظهورها في حياته المادية والمدنية. |
ولو أننى أردت التماس الأمثال لذلك مما في هذه المجموعة لطال بى الاقتباس فحسبى أن أنبه اليه وأن أشير إلى أن أبناء البادية ومن ولدوا في جوها أدنى إلى التأثر ببيئتها ممن ولدوا بمكة أو بالمدينة، وسيرى القارىء ذلك حين يتلو ما في هذه المجموعة من شعر ونثر، وسيرى إلى ذلك ما في اتصال أهل البادية بحياة الحضر وبحياة هذا العصر الذي نعيش فيه من بالغ الأثر، ثم انه ليرى خلا هذا وذاك ما في الروح العربية من توثب وطلعة حرص على الانتشار إلى غاية ما تستطيع بلوغه كحرص البدوى الرحالة على أن يصل في اناة وصبر إلى كل ما تيسر له راحلته الوصول اليه من أصقاع وان نأت. فابن البادية يترسم اليوم الطائرات ويخيل لنفسه عيش أهل الغرب فيما كان بدوى العصور الماضية يرسم لنفسه صورة إيوان كسرى ويخيل لنفسه ترف الفرس والروم، وقد يجول بخاطر ابن البادية اليوم مثل ما جال بخاطر سلفه القديم من غزو أهل الحضارة الحالية وان كان ما يزال بحاجة إلى الوقت والى العلم والى ظهور رجال من طراز خالد بن الوليد في قيادة الجيوش وعمر بن الخطاب في سياسة الدول لتصبح امنيته أملا، وكان ما يزال بحاجة إلى إيمان مستنير كايمان المسلمين الأولين الذين اندفعوا موقنين أن الاستشهاد بالموت سبيل الحياة فغزوا من حولهم ورفعوا لواء الحضارة الاسلامية في ربوع العالم. |
وليس خيالا ما أقول من ذلك فالحياة فكرة والسلطان على الحياة فكرة وانما تتاح هذه الفكرة لمن آتتهم الطبيعة مزاج السلطان والقدرة على الاستشهاد بالموت. وتاريخ العرب شاهد بأنهم حكموا العالم ووجهوا حضارته حين شبت فكرة تحضير العالم عن طريق الايمان وترعرعت في نفوسهم، واذا كان العالم يقر إيطاليا اليوم على أن تجعل برنامج سياستها إعادة مجد روما وإعادة الامبراطورية الرومانية فمن حق العرب أن يدور بخاطرهم مثل ما دار بخاطر أهل ايطاليا وأن ينتظروا الداعية الذي تهيئه الأقدار للنجاح في هذه الغاية، وما دام شباب العرب قد بدأوا نشاطهم الفكرى على الصورة الواضحة في هذه المجموعة فمن حقهم ومن حق كل عربى أن ينفسح أمامهم ميدان الأمل في المستقبل، فالأدب نواة كل عمل وكل حياة، بل هو رحيق الحياة وروحها والروح ما قويت قديرة على كل شيء، ولقد أتيح لي أن أتعرف إلى كثيرين ممن اختيرت لهم المجموعة بعض آثارهم فرأيت فيهم طموحا وأملا وحرصا على تحقيق هذا الأمل، أما وهذا شأنهم وهذه عزيمتهم الصادقة فلهم أن يصوروا مستقبل بلادهم كما يشاؤون، فاذا جاء الوقت الذي تدوى في العالم صيحته كان هذا طليعة العظمة العربية المقبلة وكان المتقدم الذي يسير في اثره أمجاد أبناء امجاد يعيدون لبلادهم عظمتها ومجدها. |
ان حياة الأدب في العالم العربي بشير كبير للمستقبل ونهضة الأدب في الحجاز آية من الله للناس بأن النبع الذي غاض ماؤه عاد إلى فيضه كما كان كشف عبد المطلب عين زمزم آية الله للناس بمقدم صاحب الرسالة. قوى الله عزائم الذين أقاموا هذه النهضة وأمدهم بروح من عنده ليبلغوا بها غاية رقيها ولتبلغ ببلاد العرب إلى المكانة التى يجب أن يتبوأها منزل الوحي في العالم. |
|
* * * |
|