كلُّ الفراديس في لبنان تزدهر |
ويلتقي في رباهُ الحب والخفر |
جناته الفيح للعشاق منتجع |
خصب تظلِّله الأفراح والشجر |
ويشمخ الجبل المفتون منطلقا |
إلى الأعالي كنسرٍ في الذرى يكِر |
تُقَّبِل السحُبُ السمحاء غرَّته |
فيرتوي الكرْم والزيتون والزهر |
وتنتشي الأرضُ من أفياء سندسه |
وتَستهلُّ به الأشذاء والمطر |
مدللٌ تزرع النجمات قمته |
وقد تعلَّق في أرزاته القمر |
به السماوات أبواب مُشَّرعة |
ينساب منها إليه الوحيُ والسور |
كأنما الشعُر في جناته ثمر |
قطافه في دنان الحب يعتصر |
*** |
لكم ترنم (آبولو) بمزهره |
وقبَّلت ثغرَه أنغامُه الغرر |
إذا المزامير طافت في مرابعه |
لوقعِها تنصت الأجيال والعصر |
خلاَّقةٌ كالروابي الخضر تربته |
يسمو به الشِعر والألحان والفِكَر |
به العواطف أثرى ما تكون وفي |
جنانه صورٌ لله تزدهر |
تهفو القلوب إليه وهي والهة |
كما تظلُّ به الهالات تنتشر |
تندى المحبة في أحضان وارفهِ |
ويزهر الفكر والإلهام والصور |
*** |
لبنانُ (صور) و (صيدون) ومثلهما |
مرافىء ألقِاتٌ كالضحى أخَر |
يداعب البحر، في رفقٍ شواطئها |
ويرتمي حولها المَرجان والدرر |
ملء الشواطيْ حكاياتٌ وأشرعة |
وحولها سفنُ الرواد تنتظر |
لدى الصواري أمانٍ لا عداد لها |
وللربابنة الأفذاذ مذَّكر |
ملأى بكل ثمينٍ من تجارته |
بها اللآلىءُ والأعطار والحِبرَ |
تطوف بالبحر تثريه بما حملتْ |
من الثمين ومما فيه تتَّجر |
في كلِّ قطر منار من طموحهم |
وكلِّ بحر لهم في لُجِّة سفر |
*** |
كلُّ العِشيِّاتِ في لبنان ساحرة |
قمراء يأنس فيها الحبُّ والسمر |
وفي النهار يظل الجد يعمره |
به النشاطاتُ والأعمال تزدهر |
كأن أسواقَه دنيا منسَّقةٌ |
بها لكلِّ امرء رزق ومذَّخر |
لا يعرف الجدُ وهنًا في عزائمهم |
ولا عزائمهم يحدو بها القدر |
*** |
لبنان عاش به الإبداع من قدمٍ |
وما يزال إلى الإبداعِ يبتدر |
(ببعلبكَّ) يظل الفكر منبهرا |
لما تخلده الآثارُ والسِّيرَ |
تكلم الصخر وانثالت خواطره |
حتى كأنَّ به الآبادَ تُختصر |
إذا تحدَّث كان الصمت منطقه |
وإنْ تطلع فالإيحاء ينهمر |
به الأساطين والتيجان شامخة |
كمنْ له في السماوات العلى وطر |
تهلُّ منها أساطير وأخيلة |
توحي، ومن حولها الأحداثُ والذكر |
مرَّت عليها من الأجيال ما عجزت |
عن عدِّها صحف أو وصفها زُبُر |
كم أبدع الفنَّ إزميلٌ، وكم نُسجت |
من الصخور حياةٌ شأوها الظفر |
ترى العقولُ بها للفن معجزة |
والمعجزات لدى لبنان تُبتكر |
*** |
وفي (جعيتا) دُنىً إبداعها عجَب |
لها فنونٌ بها الألباب تنبهر |
تبدو التماثيلُ والأشكال رائعة |
تُطلُّ فوق مياه جريها خدر |
وللصحافة في لبنان منطلق |
عطاؤه الفن والآداب والفكر |
حريةُ الرأي فيه سر ثروته |
فالفكر من دونها يَبلى ويندثر |
تُثري الحضارةُ حيث الفكر منطلق |
وحيث كل نشاط فيه مُقتدِر |
وإذ تكون قوى التجديد واعيةً |
وحيثما عنصرُ الإبداع ينتصر |
لا يبلغ المجد شعب ما له هدفٌ |
وإنَّّ مَن يسجن الأفكار ينتحر |
ويُسحق الشعبُ إن هانت عزائمهُ |
ومن يَهن ما له في عصرنا أصر |
فكلُّ شعب وديع سوف تسحقه |
جيوشُ مستعمر للغزو تبتدر |
قد كان (جنكيز) فينا قصةً نُسيت |
لكن أُعيدلنا (جنكيز) و(التتر) |
*** |
لبنانُ ما خطرت لي قبلُ خاطرة |
أن الحياة بكل العنف تنتحر |
كنتَ الحضارة والإبداع مزدهرا |
تعطي وتأخذ لم يغدرْ بك البطر |
فكيف صرتَ لنهر الموت منحدَرا |
ورحتَ رغم أماني المجد تُحتَضَر |
لم يبقَ للعقل في دنياك مرتفق |
وصار مجدكَ كالأحلام ينحسر |
كلُّ الزعامات صارت فيك آثمة |
لم يثنها النصحُ والإرشاد والعبر |
قد تاجروا بك كي تثري جيوبهم |
فعاث فيك الغريب المعتدي الأشر |
ألقوك في بؤر النيران صاخبة |
كأنما أُضرِمت في جنة سقر |
فهم سراع إلى الإثم الذي اقترفوا |
ليقبضوا ثمن المجد الذي هدروا |
باعوا لأعدائهم أوطانَهم نزقًا |
وأرخصوا مُثلَ الأجداد واحتقروا |
إذا دُعوا لسلامٍ بينهم نكصوا |
وإن دَعوا لوئام فيهم غدروا |
كم طفلة رُوِّعت في مهدها سحرًا |
وكم فتاةٍ نعاها الفجر والسحر |
وكم ألوفٍ من الفتيان قد صُرعوا |
على الركام وفي أحشائه طُمِروا |
وكم تهدم مستشفىً فأصبح في |
عداد من قُتلوا فيه ومن جُزروا |
حتى المعابدُ لم تسلم شوامخها |
ترى المحاريب فيها النارُ تستعر |
وفي المعاهدِ أبهاء محرَّقة |
وبعضها صار ذكرى ما له أثر |
يا ويح من شحَذوا للموت منجله |
وهدَّموا كل ما أجدادهم عمروا |
وقطَّعوا صلة القربى فما تركوا |
وشيجة دون أن ينتابها وضر |
*** |
أما لهذا الجنون الأهوج الأشر |
أن ينتهي ويُلَمَّ الشمل والأصر |
ألا يعودون للعقلِ الذي نبذوا |
ويذكرون صلاتٍ بينهم بتروا |
إن الطوائف أورادٌ قد اختلفت |
لونًا وشكلاً ولكن عَرفها عطر |
عاشت على أرض لبنان وقد شربت |
من مائهِ واحتوت أفنانها جذر |
فهل يرفُّ بها السلم الذي فقدوا |
وهل يعود لها الأهلُ الأولى هجروا |
الدين لله والأوطانُ أجمعها |
لمن يعيش بها، والذنب يُغتفر |
*** |
من أجل لبنان دمعي كلُّه حُرَق |
هل تطفىء النارَ نارٌ كلها شرر |
أيُخمد الشعر نارًا أحرقت وطنًا |
وهل يزول بحسنِ النيَّة الضرر |
ما أهون الشعر في سوق يروج بها |
كلُّ الذي يفسد الإنسانَ أو يزر |
*** |