على شاطىء (الدَّانوب) داعبتُ أوتاري |
ووقَّعت أنغامي، ورتلت أشعاري |
إذا ما الصحاري خشَّنتْ من طبائعي |
ففي لجج (الدانوبِ) أغرقت أوزاري |
بُعِثتُ وليدًا في شواطىء جنة |
يُرضِّعني في حجرها خمرُها الجاري |
قطعتُ بكل الموجعات علائقي |
وأسلمتُ (بوادبستَ) روحي وأفكاري |
وعدتُ بعمري القهقرى لأعيشه |
ولو بخيال واهن الحسن خوَّار |
وكنتُ شهيدًا في حياتي كأنما |
أزيلَ زمانٌ من صحائف آثاري |
قضيتُ بأرحام الضياع شبيبتي |
فما ليَ من عمر سوى عمر أوطاري |
وما ليَ أرجو البعث بعد منيتي |
وها أنا في الفردوس أقطفُ أثماري؟ |
*** |
لأجلك (بوادبستُ) لوَّنتُ ريشتي |
وحبَّرتُ أقلامي وأرهفت قيثاري |
ونشَّرتُ أوراقي لأرسم صورة |
يعيش بها فكري وفني وتذكاري |
كأن خطوطًا أبدعتها أناملي |
شرانق وحيٍ مترف اللون زهَّار |
وكنتِ بها الروحَ الذي من خلاله |
تفيض حياة في خطوطي وأسطاري |
*** |
(بدابستُ) يا بنت العصور وإن يكن |
شبابك يسري في عروقي كتيَّار |
ويجري حياة ما يزال ربيعُها |
يطوف بأحلامي ويوقظ أسحاري |
أرى الأمس مثل اليوم كلٌ بعشقه |
يباهي كأن العشق أرْيٌ لمشتار |
غرفنا ولم يُنِقص من الحب غرفُنا |
كأنا نزيد الحب حبًّا بمقدار |
بكل رصيف عاشقٌ وحبيبة |
وهمسُ غرام ناعم الجرس سحَّار |
إذا قَطفت عيني ابتسامةَ غادةٍ |
وهبتُ لها قلبي المكلَّل بالغار |
*** |
وطافت بنا (الدانوب) أحلى سفائنٍ |
كباقاتِ ريحان، وأسراب أطيار |
يكاد يجسُّ الماء منها حيازمًا |
وما بلَّ منها غير صفحة مسمار |
تغنيه أحيانًا بلحن بلابل |
وأخرى تناجيه بأحلام بحَّار |
وددتُ لو ان عُمِّدتُ في طهر مائه |
لأقضي حياتي بين حاناتِِ أطهار |
*** |
حنانيكِ (بودابست) أيَّةُ جنَّةٍ |
أقامت على الشطينِ مطلعَ أقمار |
بها أكتحلت عيني فما عاد خافيًا |
عليَّ من اللذات همسة سمَّار |
إذا كان شعري أمسِ إنجيلَ راهب |
فشعري منذ اليوم مزمور خمَّار |
*** |
أيا متحف التاريخ فكرًا وروعة |
وفنَّ بناء خالد منذ أعصار |
لقد بهرتني بالفنون شوارع |
تلوح مبانيها كتحفةِ معمار |
تماثيل غاداتٍ حسان بجنبها |
زخارف حيوانٍ وأشكال أشجار |
إذا عشت فيها راهبًا متبتِّلاً |
ففي الفن محرابي وللحب أذكاري |
*** |
أحبكِ (بوادبست) حبًّا لو انه |
يقسَّم لم يقسم هوايَ لأشطار |
بلاد الأخلاء الذين ترفعوا |
عن الدعوات المغريات بإصرار |
همُ بشٌر لكنَّهم بصفاتهم |
يفوقون الآفًا من الناس أشرار |
لقد صدقوا مع نفسهم ثمَّ أصدقوا |
سواهم وإن النار تورى من النار |
خلائقهم كانت منابعَ لطفهم |
وهل تنضح الأزهارُ إلا بأعطار |
لأهلكِ (بوادبست) أحنيتُ هامتي |
وما كنتُ أحنيها لأية جبار |
وقدَّست فيهم كل نبل وعفة |
عن الغش، من أهل وجار وزوار |
وكم كان إكباري لهم فوقَ طاقتي |
وقد آثروا طفليَّ أيَّة إيثار |
يلاقونهم بالرفقِ في بسماتهم |
وكم حملوهم بين أذرع أبرار |
كأنهم أبناؤهم أو بناتهم |
بلى إنهم أبناؤهم غب اقراري |
فما الود محتاج لعطف أبوةٍ |
وكم من أب ساوى بنيه مع الجار |
ذكرت على الجسرين (بغدادَ) فانبرت |
خواطر في نفسي تحن إلى الدار |
وكم ليَ في (بغدادَ) أهل ورفقة |
ولكن (ببودابست) قلبي وأسراري |
تنَازعني ماضٍ عزيز وحاضر |
شهيٌّ، فماذا تصطفي ليَ أقداري؟ |
*** |