أطلَّ على البسفورِ شيخ موقَّر |
تطوف به الأجيال من حيث يخطر |
تغضن منه وجهُهُ وجبينه |
وتوجَّه شيب من الفجر أنضر |
بعينيه أسرار الدهور تجمعت |
فمنها مسر للقلوب ومضجر |
وفي فمه من حكمة قدُر عقله |
وما العقل إلا خبرة وتفكر |
إذا مدَّ كفيه إلى الشرق أينعت |
بما فيه من علم يضيء ويزهر |
وإن مال للغرب الجديد طموحُه |
تناول منه ما يطيب ويثمر |
هنا تلتقي الأجيال من كلِّ أمة |
فثمَّ حضارات تشع وتبهر |
به صافحت (عيسى) يمينُ (محمد) |
فأورثه الحبَّ الذي كان يَذخَرُ |
نبيان للإصلاح هذا معلِّم |
وذلك داع للسلام مبشِّر |
وذلك باب للسماء مشرَّع |
وهذا منار للحياة يؤشِّر |
و(مسجد) هذا عند ذاك (كنيسة) |
و(بيعة) هذا عند ذلك (مَشْعَرُ) |
هما وحَّدا ما فرقته يد الغوى |
وإن عاث فيه من به كان يَتْجُر |
وما البعث إلا أن تعود رسالة |
يراد بها الإصلاح أيان يَصدر |
اذا مصلح مَّا جاء من بعد مصلح |
فدعوة ذا في بعث ذاك تكَرَر |
*** |
هَبي لي (اسطنبول) منك زنابقًا |
تَأرَّج بالحب الطهور وتزهر |
اليك بلاد الطيبين تحية |
يُباركها شوق نقي مطَهَّر |
أحنُّ إلى التاريخ فيك متَّوجًا |
وأهفو الى الآثار وهي تُعمَّر |
ففي كلِّ تلِّ منك ذكرى شذيةٌ |
وفي كل جون منك نصر مؤزَّر |
واني لأصغي والسنين تعيد لي |
حديثًا شهيًًّا بالمباهج يقطر |
إذا ما انتشت روحي فلست بآثم |
ففي السكر إرهاف لها، وتحرُّر |
*** |
بربِّكِ (اسطنبول) كم قد تردَّدت |
وشقت سجوَف الليل (الله أكبر) |
مآذن مدَّت للسماء رؤوسها |
فتوَّجها مجد من الله خَيِّر |
وهبَّت قِبابٌ أبدعتها مواهب |
لها في سجلِّ الفن نهج مطوَّر |
ولاحت محاريب تباهي بقدسها |
مهابط وحي بالطهارة تزخر |
جوامع خير للمحبة أُسِّست |
بها يشمخ الفن العظيم ويفخر |
جوامع ظلَّت تُحفةً ذاتَ روعة |
يُؤنِّقها ذوق رفيع ويَعمر |
وقد أصبحت بعد (التأورب) ثروة |
تُغالي بها الأجيال أيَّان تُذكر |
*** |
بلادَ (السلاطين) العظامِ تحدثي |
بما أنفقوه في الفتوح وبعثروا |
وقُصِّي لنا أمجادهم وانتصارهم |
بما أرخصوه من دماء وأهدروا |
فما شَيَّدوا فيك الصروحَ رفيعة |
بغير الذين استعبدوهم وسخَّروا |
لقد بنوا التاريخ من حيث يزدرى |
بهم واستبدُّوا بالشعوب وأجبروا |
وقد دمَّروا فيه كرامة شعبهم |
فليس له صوت، ورأي، ومفخر |
إذا قام (خاقان) لهم هتفت له |
ملايين ممن جَهَّلُوهم وأفقروا |
وأغراهم أن (الأئمة) سبَّحوا |
بتمجيدهم قبل الصلاة، وكبروا |
ولو أنهم لم يقحموا الدين واكتفوا |
بأن يتركوه للدعاة ، ويؤثروا |
ولو بشَّروا بالدين تبشير مرشد |
لكان لنا شيخ (بروما) ومنبر |
وأصبح للإسلام دين ودولة |
وكانت (أروبا) بالشهادة تجهر |
وكان (بفاتيكانهم) من بنيهمُ |
فريق على نشر المحبة أقدر |
*** |
حنانيكِ (اسطنبول) كم عرف الهوى |
على شاطىء (البسفور) ذكرى تُعطَّر |
عواطف كالمحَّار في كل شاطىء |
تُزان بها خُلجٌ حسان وأبحر |
ففي اللج حوريات بحر كأنها |
بُدورٌ على وجه المياه تخطِّر |
ورفَت على الشطآن أضواء مَشرق |
كأن مجرات بها تتحدر |
وتنثر الضحكات في كل جانب |
كأنغام أوتار تطول وتقصر |
اذا الشمس ألقت قرصها في مياهها |
تَسَّرب منه لون ورد معصفر |
وتعبر من فوق الشواطي نسائم |
تغازل أجفان العذارى وتسكر |
أحبك (إسطنبول) حبًا لو انه |
يصورُ لم يوجد به ما يحوّر |
تَجدر في قلبي فرقت عواطفي |
وفاضت بشعري أغنيات تُشّهر |
يشيخ الفتى لكن غرام شبابه |
يظل ُّ فتيًا لا يشيخ ويُدثر |
عبرت إليك (القارتين) فقصَّرت |
خطاي مسافاتٌ بها الشوق يُبدر |
هو الحب إعجاز يكاد وجوده |
يفجر في نفسي قوىً لا تفجر |
إذا أنا لم أبلغ من الحب غاية |
فحسبيَ منه بعض ما أتصور |
يظل هوى العشاق في القلب صامتًا |
وحبي (لإسطنبول) حب معبرِّ |
*** |