فاتحة الديوان |
بقلم محمد رضي الشماسي
|
الشاعر فنان مبدع، وأدواته في إبداعه الكلمة، والقلم، والخيال. فكل موقف يقول فيه الشاعر قصيدة، فإنما يضع لمسة إبداعية في لوحة مسيرته الفنية التي تتحرك بحركة شاعرها. بل لا تدعه يتوقف وهو يعيش في حالة الوعي الشعري الذي يفرض وجوده على الشاعر ساعة ميلاد قصيدة، أو نظم خاطرة، أو قول مقطوعة، فأينما حل الشاعر أو ارتحل، وأي مشهد رأى، أو تخيل وجوده فإن وعيه الشعري، وهو حاسته السادسة، يتفاعل مع محيطه كما تفعل آلة التصوير، أو ريشة الرسام، فيصور هذا المنظر أو يرسم ذلك الموقف، ولكن بكلمته وخياله وقلمه. وخيال الشاعر (ورشة) عمله المبدعة التي تعكس ما وراء المرئيَّات، فيظهر العمل الأدبي ناضجًا في معانيه التي أرادها الشاعر في أي مأتى من مآتيه. |
وأدب الأسفار أو الرحلات واحد من الموضوعات الأدبية في الآداب العالمية؛ فلقد كتب فيه كثير من الشعراء والأدباء قصائد وكتبًا ومقالات، مثل رحلة ابن جبير، محمد بن أحمد الكتاني الأندلسي، في القرن السادس الهجري، ورحلة رفاعة الطهطاوي إلى باريس في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) في القرن التاسع عشر الميلادي، ورحلة أحمد فارس الشدياق في كتابه (الساق على الساق فيما هو الفارياق) في القرن التاسع عشر الميلادي. وقبل هؤلاء أبو العلاء المعري في رحلته الخيالية (رسالة الغفران)، وابن شُهيد الأندلسي ـ مُصغَّرًا ـ في (التوابع والزوابع). |
ويأتي في مسار هؤلاء الأستاذ الأديب الشاعر عبد الله الشيخ علي الجشي الذي يقدم لقرائه هذا الديوان لمجموعته الشعرية التي قالها في وقفات أسفاره إلى البلاد التي زارها؛ لذلك أسماها (ذاكرة عابر). |
وقبل هذا الديوان قدم الأستاذ الجشي إلى قرائه ديوانه (الحب للأرض والإنسان)، وكذلك رباعياته (قطرات ضوء). وهو الآن في صدد إعداد ديوان آخر، وملحمة تاريخية اجتماعية (شراع على السراب). ونرجو أن ينجز لقرائه وعشاق أدبه مطويات مخطوطاته في التاريخ والأدب. |
وأستاذنا الكبير إنسان في فكره وأدبه، مواطن صالح يعيش لوطنه، ولمواطنيه. دعوى قدمها لنا مع دليلها، هذا الدليل هو اسم ابنه (قطيف)، وابنته (يمامة) . |
اسمان منقولان من بلده (القطيف)، وبلده (اليمامة)، ولو رزق بغيرهما لدعا ـ كما حدثني هو ـ الولد بـ (رياض) والبنت بـ (يثرب). ولعله يسمي لو رزق كذلك بـ(بغداد)، و (نجف) من أسماء البلاد التي عاش فيها أو زارها. |
وعند قراءتنا في الديوان نجد الشاعر قد أعطى كل قصيدة أسلوبها الفني الذي تستدعيه. وأضفى وأفاض مسترسلاً في متابعة الصور الفنية. فقبل أن تقرأ قصيدة عن بحيرة في أوروبا مثلاً؛ فما هي المادة الفنية المتوقعة في مثل هذا الموضوع غير جمال البحر وأمواجه وزوارقه وجوِّه وشاطئه ورماله وحسانه، هذا ما تقرأه فعلاً في قصيدة شاعرنا الجشي وهو واقف على بحيرة (البلاتون) في (المجر)؛ إذ جمع جمال الطبيعة في لوحة شعرية جميلة. يقول الأستاذ (أبو قطيف): |
على الضفاف تصبتني الأغاريد |
وبادلتني بها أحلامَها الغيد |
يا من رأى الجنة العذراء وارفة |
وقد تدلت من الكرم العناقيد |
كأنما الراح في أكوابها سكبت |
وأسكرتنا وبعض السكر محمود |
إن البحيرة في أحضان جنتها |
تعيش أعيادها غاداتها الرود |
|
واقرأ مثل قوله: |
من أنزل الكوثر الموعودَ شاربُه |
بكل ما حفلت فيه الرواقيد |
وددت لو كنت فيها نورسًا مرحًا |
له على الموج تصويب وتصعيد |
|
ونقف عند قصيدة أخرى في السياق نفسه (على شواطئ الأطلسي)؛ إذ وقف شاعرنا على شاطئ المحيط الأطلسي لدى زيارته المغرب العربي. وكما قلت قبلاً: إن الأستاذ الجشي أعطى كل قصيدة أسلوبها الفني الذي تستدعيه. وفي هذه القصيدة تعود الذاكرة بصاحب (ذاكرة عابر) إلى المحيط الأطلسي، وقولته على شاطئه: (يا رب، لولا هذا البحر لمضيت مجاهدًا في سبيلك، ولو كنت أعلم بعده أرضًا وناسًا لخضته إليهم). |
يقول الجشي: |
غمست بماء الأطلسي أناملي |
وأسلمت للأحلام جفنًا معذبا |
فشاهدت فيها (عقبة) وهو يرتدي |
على صدره قلبًا من الدرع أصلبا |
يغازل ضوء الشمس ومض سنانه |
ويزجي له بين الكواكب موكبا |
يقول لأمواج المحيط تواثبي |
كما شئت حتى تجعلي الشط ملعبا |
فلو عرفت خيلي وراءك يابسًا |
من الأرض شقت في عبابك مسربا |
|
هذا الاستيحاء التاريخي البديع بما فيه من فتح، ومن فيه من شخصيات إسلامية ذات مواقف خالدة، لا تستوي وإياها مناظر مادية وإن جللتها الطبيعة بجمالها على هذا المحيط العبق بأنسام البطولات الإسلامية الرائدة. فالموضوع هنا أكبر بكثير مما رآه الشاعر على بحيرة المجر، من مناظر خلابة، تمثلت في شاطئ وزوارق وأمواج وحسان ملامح. فلقد فرضت العقيدة نفسها، وفرض التاريخ وجوده على روح شاعرنا المبدع، فأبدع هذا النص الشعري الجميل. |
ولا يفوت شاعرنا كونه مشرقيًّا يعيش على ضفاف الخليج العربي، وهو يقف على أرض وطنه الثاني؛ المغرب العربي، فيرسم بقلمه شعار الأمة الواحدة في الوطن الواحد من خليجه إلى محيطه إذ يقول: |
أناجي شراعًا في (الخليج) مشرقًا |
وأهمز مهرًا في (الرباط) مغربا |
وما كنت في شبر من الأرض فاتحًا |
وما كنت يومًا غازيًا أو مخربا |
نشرت بها دين التعاون والإخا |
وكنا سواءً عزة وتحببا |
وشدنا جميعا أمة وعقيدة |
هما توأم الدهر الذي كان منجبا |
رؤى دولة أرسى الإخاء أساسها |
وأغنى بها من كان بالأمس متربا |
|
ولكن شاعر (ذاكرة عابر) لا يلبث أن يتذكَّر ذلك الواقع المؤلم الذي صارت إليه الأمة الواحدة، والوطن الواحد من غدر وغزو وتفتت فيقول: |
رؤى دولة أبناؤها غدروا بها |
فأجدب منها كل ما كان مخصبا |
هم قدموها مغنمًا لعدوهم |
وكانوا له نابًا عليها ومخلبا |
|
إلى أن يصمت الشاعر عن بث حزنه وألمه في مقطع القصيدة رابطًا بين الماضي الأبيض والحاضر الأسود فيقول: |
فيا ذكريات الأمس ما أعذب الرؤى |
ويا واقع المأساة كم صرت ملعبا |
|
ويتكرر إحساس الشاعر بما كان لهذه الأمة من تاريخ مجيد توحدت فيه المضامين، إلى واقع مؤلم تجزأت فيه تلك المضامين. تقرأ هذا الإحساس في مثل قصيدة (طنجة)، و(حديث مع نخلة جزائرية)، و(بين قارتين). فيقول في هذه الأخيرة: |
(به صافحت (عيسى) يمينُ (محمد |
فأورثه الحب الذي كان يذخر |
نبيان للإصلاح هذا معلم |
وذلك داع للسلام مبشر |
وذلك باب للسماء مشرَّع |
وهذا منار للحياة يؤشر |
(و(مسجد) هذا عند ذاك (كنيسة |
و(بيعة) هذا عند ذلك مشعر |
هما وحّدا ما فرقته يد الغوى |
وإن عاث فيه من به كان يتجر |
|
ويقول في قصيدة طنجة: |
طنجة) يا أحلى فراديسنا) |
كم في ضميري أدمع حائرات |
بالأمس قد كانت لنا دولة |
واحدة أركانها راسيات |
(حدودها (الصين)، و(بيزنطة |
(وساحل (الأطلس) و(الخالدات |
فكيف صرنا دولاً ما لها |
من صفة الدولة غير الجبات |
خرائط العالم وضاءة |
ونحن فيها نقط باهتات |
|
ولا أريد الإكثار من الشواهد فأذكّر القارئ بآلامه في واقعه المُعاش، ولكني أقول له: لو عبرت في قراءتك للديوان على مثل قصيدة (جزر الضباب)، وقصيدة (الفن والتاريخ)، وكلتا القصيدتين قالهما الشاعر في زيارة له إلى بريطانيا؛ أقول لو عَبَرَ القارئ في (ذاكرة عابر) على هاتين القصيدتين لظهر له بوضوح موضوعية الشاعر تجاه تلك البلاد التي أعطاها حقها من اعتراف لها بتقدمها العلمي والتقني، وحيوية شعوبها، وجمال طبيعتها. كما أعطاها حقها من إنكار عليها من استبعاد الشعوب، وسرقة لقمة عيشها، وقتل سعادتها، وهكذا: (تدس لنا السم بين الرضاب)، (وكم خانت الود والعهد)، (وكم سرقت شهد الشعوب وبُرها) هذا في مقابل: (بريطانيا كم قد عشقت جمالها)، (بها الحور مثل الريم ملء مروجها). |
وفي المشرق العربي نقرأ للشاعر قصيدة (بغداد في الليل) التي نظمها عام 1942م، وهو يعيش في بلاد الرافدين، فتراه يلح كعادته في القصائد التي نظمها في بلاد المغرب العربي وأوربا؛ يلح على النظر من خلال الكوى التاريخية، أو من خلال معالم التراث للفكر العربي، كما نلحظه في هذه القصيدة بقوله: |
سل لياليها فذي أخبارها |
لم تزل في هيكل التاريخ طغرى |
وسل السُّمَّار في ناديهمُ |
أوراءَ (الألف والليلة) أخرى؟ |
ليل بغداد حديث خالد |
ليس تفنى متعة منه وذكرى |
|
فبغداد اليوم لدى الشاعر هي بغداد الأمس في روايات شهرزاد وشهريار، وجمال أمسِّياتهما الألف التي ما انفك الشعراء يحلقون في أجوائها الساحرة التي جمعت بين سخرية شهرزاد وعنفوان شهريار. |
واقرأ في القصيدة: |
طف ببغداد مساءً كي تقرا |
وترى السحر بمغناها استقرا |
كل شيء يسحر القلب بها |
كل شيء يبهر الأعين بهرا |
فكأن النهر فيها خمرة |
(شفت (شيرينُ) منها (كليوبترا |
|
ثم يعود الشاعر إلى التاريخ في ختام قصيدته ليقول: |
لكأن الدهر فيها ليلة |
من ليالي (قيصر الروم) و(كسرى) |
|
فالإشارات التاريخية، واللفتات التراثية في قصيدة الأستاذ الجشي واضحة وجميلة؛ أراد من ذلك بناء نص شعري من صورة وموسيقى ومعلومة ومفردة. هذه القصيدة بدأها بقوله: |
سامري الليل وصوغي الوحي شعرا |
واعرضيه في مجالي الفن سحرا |
ليلُك الفضُّي في بهجته |
صورة أبدعها الخالق شعرا |
كلما لفك منه حلك |
لحت فيه ـ يا عروس الحسن ـ بدرا |
|
إني لأعتبر القراءة في ديوان (ذاكرة عابر) لونًا من ألوان الرحلات الأدبية الممتعة التي يعيش فيها القارئُ بين ترف المناظر، وجمال الصور، وآفاق الخيال، وبين المعلومة التاريخية والجغرافية. |
وبهذا أعتد الديوان أيضًا واحدًا من كتب الرحلات الأدبية. وأصنفه كما ذكر قبلاً ـ مع رحلة ابن جبير والطهطاوي والشدياق وما في سنخها في الأدب العربي، إلاّ أنه شعر. ومع كثرة ما نظم الشعراء في أسفارهم ورحلاتهم؛ لم نقرأ ـ حسب علمي ـ ديوانًا واحدًا مستقلاً عن رحلات شاعر. |
محمد رضي الشماسي
|
17 رمضان 1425هـ
|
|