شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ملخص المحاضرة التي ألقاها جعفر رائد
عن ((قيس وليلى في الأدب الفارسي)) في المركز الإعلامي السعودي بلندن
وذلك في السابعة من مساء الثلاثاء 28/6/1994
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
سيداتي سادتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
يقول قيس بن الملوَّح العامري:
تعلّقت ليلى وهي ذات ذؤابة
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
لكن الشاعر الفارسي نظامي كنجوي يروي ما يلي:
كان أحد الأمراء الخيِّرين في الجزيرة العربية محروماً من الذرية وعمل المستحيل بتجربة أنواع العلاج للوصول إلى بغيته فلم يسعفه كل ذلك. فاتجه إلى بارئه تعالى وكان لنحيبه النابع من سويداء قلبه أثر بليغ. فأبصر النور في داره ولد ذكر سمّي قيساً. بهيّ كبرعم من الزهر الضاحك، فأوكل أمر رعاية الوليد الجميل إلى مربيّة حنون. وكان قيس منذ نعومة أظفاره، نشيطاً كثير الحركة والضوضاء، مغرماً باللعب، عرف بالمرح والمزاح ولطف المعشر. وفي العاشرة من عمره كان حديث المجالس بحسن جماله. وكان يفوق أقرانه في حدّة ذكائه وفراسته. فكان من الطبيعي أن يكلوا أمره إلى معلّم عالم. وأن ينتقوا صفوة من أنداده النجباء ليشاركوه تلّقي العلم والأدب. وكانت من جملة تلك الصفوة المختارة زهرة يانعة رائعة الجمال تسمّى ((ليلى)) تشع عيناها البدويّتان ببريق آخاذ يضيء القلوب. وتنفذ نظرتها الساحرة إلى السويداء، ولفت قيس منذ اللحظة الأولى انتباه ليلى فبادلته بالبسمات الودّ والاهتمام. وهكذا كان قيس أوّل من عرفته ليلى وفتحت له قلبها. وازدادت ألفة الناشئين على مرّ الأيام رسوخاً.
زملاؤهما كانوا يجدّون في الدراسة وهما كانا يجدان في السير على درب المحبة. ورويداً رويداً انتهى العشق الذي كان قد ملك على قيس فؤاده وروحه، انتهى إلى أن يسلب قيساً السكينة والعافية ويتركه مشوّش البال مضطرب العقل لا يقرّ له قرار إلى أن افتضح أمره. ويذكرّنا هذا بقول قيس:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضّي نهاري بالحديث وبالمنُى
ويجمعني والليل بالهمّ جامع
لقد ثبتت في القلب منك محبّة
كما ثبتت في الراحتين الأصابع
وكان يتحدث في كل مكان عما ألمَّ به من حبّ ليلى وافتتانه بها غير مبال بما يجرّ عليه البوح بما في ضميره. ولقد نعته أصدقاؤه بالمجنون.
وحين بلغت هذه الأخبار أسماع أهل ليلى حجبوا ابنتهم عن الناس خشية الفضيحة وجعلوها تلازم الدار لا تغادرها أبداً. فأثر ذلك في نفسيّة قيس وأجرى سيلاً من كل هدب من أهداب عينيه. كان المجنون يختفي كل مساء في حيّ حبيبته وينشد الأشعار في مصيبته. وفي كل صباح يهرول حافياً إلى البريّة ويرسل القبلات من هناك إلى دار ليلى ويفرح بالنسمة التي كانت تهب من صوب ليلى. أو كما يقول قيس نفسه:
إذا الريح من نحو الحمى نسمت لنا
ووجدت لمراها ومنسمها بردا
على كبد قد كاد يبدي بها الهوى
ندوباً وبعض القوم يحسبني جلدا
وكان يكرّر ذكر ليلى ولا يرغب في أي كلام آخر. ومن كان يتحدّث عن غير ليلى ولم يكن ليرغب في حديثه أو ليصغي إليه.
وهذا مأخوذ من شعر قيس نفسه:
وشغلت من فهم الحديث سوى
ما كان منك فإنه شغلي
وأديم لحظ محدّثي ليرى
أن قد فهمت وعندكم عقلي
كانت دار ليلى تقوم على سفح جبل وبات المجنون يسكن في ذلك الجبل يفزع من أي صوت يطرق مسمعه ويندفع إلى ناحية ذلك الصوت على أمل أن يكون صوت الحبيبة. كان يتأوه بكبد حرى مع كل زفرة تخرج من صدره ويصرخ: ليلى ليلى: كما يقول قيس:
كأن فؤادي في مخالب طائر
إذا ذكرت ليلى يشدّ بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم
عليّ فما تزداد طولاً ولا عرضا
كان يغازل النسيم الذي يهبّ من حيّها ويحسد ماء الجدول الذي يمرّ بدارها وكان يناشد الجدول والنسيم أن يبلغا ليلى لواعج غرامه. ويذكرنا هذا بقول قيس:
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى
وفاضت له من مقلتي غروب
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه
يمرّ بواد أنت فيه قريب
يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى
إليكم تلقّى طيبكم فيطيب
وفي أحد الأيام الجميلة المشرقة، اتجه المجنون مع نفر من الأصدقاء يشاطرونه الأسى، إلى حيّ الحبيب وهم ينشدون الشعر والغزل. كان قيس طائر اللبّ لا يعي شيئاً فجعل دار ليلى وجهته وانطلق نحوها مهرولاً متعثراً، يكبو ويستمر في الجري فرحان جذلاً لا يلوي على شيء حتى إذا ما بلغ حيّ ليلى فقد السيطرة على عقله وروحه وقادته قدماه دون وعي إلى خباء ليلى. فأزاح ستار الخباء فوجد ليلى جالسة قد خلت بنفسها وانطوت على وحدتها كحوريّة سماوية فوقف قيس أمامها فاقد العقل يشتعل حباً وغراماً.
يقول الشاعر نظامي هنا:
كانت ليلى قد أسدلت، بدلال، شعرها على كتفيها والمجنون قد وقف كالعبد الوفيّ مطرقاً أمامها فحملت ليلى في كفّها قدحاً من الخمر تضوَّعت رائحته كالمسك.
والمجنون ثمل من عرّفْها، لا من الخمر. ونظر كل منهما إلى الآخر مأخوذاً. كان المجنون فرحاً شغوفاً بما وصل إليه. وكانت ليلى سعيدة بهذا اللقاء الذي لم يكن في الحسبان وقد تبدّدت كل همومها وما هي إلاّ لحظات وقد انتشر الخبر في الحيّ بأن ليلى والمجنون قد التقيا؛ فكانت ذريعة لتشديد الحصار. فمنعوا المجنون بتاتاً من التردد على حيّ ليلى وأوجعوا قلبه الكسير كأشدّ ما يكون الوجع.
ولم يثن كل ذلك المجنون عن سبيله، وازداد تعلقاً بليلى، ولم يعبأ بأن يقول الناس في حقه ما يقولون، وافتضح أمره أكثر من ذي قبل وحديثه على كل لسان. وكان يحمل نفسه كل يوم إلى حيّ ليلى وهناك يتغنى شعراً بحب ليلى ثم يهوي إلى قميصه فيشقُّ جيبه مولولاً صارخاً باكياً. وعلم والد قيس بهذه الأخبار واستشار الأصدقاء فاتفق رأيهم على أنّ العلاج الوحيد لداء المجنون هو إيصاله إلى حبيبة القلب والروح إلى ليلى، وحين اقتنع الأب بأن الدواء في تلاقي العاشقين الوالهين. يمَّم شطر دار ليلى مع نفر من الأقارب والأصحاب. لكن الأب الشفيق اصطدم بالصدّ والرفض من جانب والد ليلى الذي رمى قيساً بالجنون والأنانيّة وطرد ضيوفه دون أن يستجيب لرجائهم الحار. فعاد الأب المشفق منكّس الرأس حزين الفؤاد إلى ابنه قيس محاولاً أن يهدّئ من روعه. وتكلّم كل من الأب وأصحابه وأقاربه عن بنات أخر في الحي يفقن ليلى جمالاً وبهاءً وتألقاً عسى أن يقلع قيس عن هوى ليلى ويتعلق بأخرى ويضع حدًّا للمهانة التي يقاسي منها أبوه. أمّا المجنون فبعد أن أصغي إلى كل ذلك كان رده عليهم برنّة ألم باكية كما يقول نظامي:
أيها الجاهلون لدائي وآهاتي
قوموا عني ودعوني لسبيلي
إنني ضائع فلا تبحثوا عني
واتركوا التحدّث إلى الضائعين
وفي هذا المعنى يقول قيس:
وقالوا لو تشاء سلوت عنها
فقلت لهم وإني لا أشاء
هذا الكلام ما إن خرج من فم المجنون حتى أشعل النار في أفئدة الحاضرين. كان المجنون، وقد خرج من طوره وآذاه تقريح العواذل، يبكي بمَرارة كالثكلى. ولقد ارتطمت سفينة هيامه بصخرة الصدود وتحطّمت عليه وظهر وذاع ما كان خافياً من أمره. لقد رماه قوم بالجنون وعزا آخرون ما به إلى السكر والغواية. وفئة قليلة اعتبرته عاشقاً مجنوناً وعابداً لصنم. وقيس نفسه غير آبه بهم. كان يبكي ويئن وينشد:
يا راحة روحي أين أنت؟
من المحال أن يتخلّى الفؤاد عن حبّك
بكى المجنون وبكى حتى أغمي عليه، التف حوله الأصحاب والألم يعصر قلوبهم وأخذوه إلى بيته واعتنوا بأمره.
وحين شاهد الأب أن الابن يزداد هياماً يوماً بعد يوم، وتعمّ الفضيحة مع اشتداد الغرام، لم ير علاجاً للمشكلة إلا السفر. فعقد العزم على الحج إلى بيت الله الحرام واصطحب قيساً معه وقال له أبوه: ((تعلق بأستار الكعبة واسأل الله أن يعافيك من حب ليلى ولكنّه قال حينذاك: ((اللَّهم زدني لليلى حبًّا وبها كلفاً. ولا تنسني ذكرها أبداً)).
كانت قصة حب قيس وليلى على كل لسان. وكان أقرباء ليلى يتألمون من هذه الفضيحة ويحارون في أمرها. والجاهلون لحقيقة العشق كانوا لا يفتأون يهاجمون قيساً سرًّا وجهراً، وينتقدون أقواله وأفعاله ويلومون أهل ليلى بسبب سكوتهم على موقف ليلى الممالئ المحرج. وقد ضاق صدر المجنون بكل ذاك الأذى وأضرّ به البعد والوجد، فنأى بنفسه عن خلق الله وترك الدار والأهل والعشيرة وأخذ يجوب كل مكان في طلب ليلى واختار بناية مخروبة سكناً له وانقطع عن الناس واحتضن رأسه بين ركبتيه وانخرط في بكاء متواصل. وقد استبدّ القلق بالأب من ضياع قيس وأخبر أصحابه بما يجيش في صدره، وانطلق الجميع يبحثون عن قيس هنا وهناك.
يقول الشاعر نظامي هنا:
لقد أجهش جميع أهل بيته بالبكاء
حين لم يعثروا على أثر له
اتجهوا نحو كل جانب في طلبه،
وجدّوا في البحث لكنهم لم يجدوه
وأخيراً تعرّف أحد الناس على قيس حيث شاهده قد جعل من بناية مخروبة ملاذاً له ولا ينفك عن البكاء والأنين. لقد انجذب الرجل عابر السبيل نحو قيس؛ وأعجب بشبابه وهيامه وجماله. ولمّا عرفه أخبر عشيرته عنه وعن سكنه ومأواه، فحمل الأب المسكين نفسه وأسرع نحو قيس، فتعلّق هذا بأذيال أبيه وقال:
انظر ما بي واتركني وشأني وكل امرئ إلى قضاء الله وقدره. فإني أشعر بالخجل منك وأعترف بذنبي وخطيئتي.
فانتحى الأب ناحية من البناية المهدّمة، ينظر إلى ابنه العريان ويبكي لحالته البائسة. ولم يترك الأب الحنون تلك المخروبة حتى اصطحب فتاه معه. ولم ير قيس بداً من الانصياع والذهاب مع أبيه إلى البيت. لكن قيساً لم يستطع على الجلوس في البيت صبراً. ولم يهدأ أنينه وتألّمه. وبعد بضعة أيّام غادر الدار وانطلق نحو البريّة. وليلى كانت تقبع في إحدى زوايا دارها وقلبها يدمي بذكر قيس. وتعبّر عن نار حشاها وحرقته بلسان الشعر وكانت تكتب نجوى فؤادها الكسير على وريقات وتسلّم تلك الوريقات إلى الريح من فوق سطح منزلها فكانت السابلة التي تعلم حقيقة حب ليلى تلتقط تلك الوريقات وتقرأها وتبكي هنيهة ثم تحمل الوريقات إلى المجنون. كانت ليلى تقول في رسائلها:
نفسي فداؤك، لو نفسي ملكت إذاً
ما كان غيرك يجزيها ويرضيها
صبراً على ما قضاه اللَّه فيك على
مرارة في اصطباري عنك أخفيها
وهكذا كانت الرسائل أو شبه الرسائل تتبادل بين الحبيبين لقد أمضيا نحو عام على هذه الحالة قانعين بالخيال.
وحدث أن يمّمت ليلى في أحد الأيام نحو الروض عسى أن تطفئ أزاهير الروض وأشجارها نيران فؤادها. فكان أن رأى شاب باسم ((ابن سلام)) ذلك البدر الطالع فشغفته حبًّا وأسرع يبحث عن وسيلة للوصول إليها، فأوفد إلى أبيها صديقاً يثق به ليخطبها له من أبيها وحين لمس من الأب استعداداً للقبول، قفل راجعاً إلى دياره ليعدّ العدّة للأمر المروم. وحين علمت ليلى بالخبر المفجع انفطر قلبها واهتز كيانها وجانب الرقاد جفنيها. وهذه الرواية تختلف عن رواية زواج ورد منها التي اعتمدها أمير الشعراء أحمد شوقي في مسرحيته.
وكان المجنون تائهاً في البراري يوم لمحه ((نوفل)) فأشفق هذا الرجل الشهم على قيس حين نظر إلى حالته الرزيّة وأصغى إلى قصته الشجيّة فعقد العزم على أن يسهّل له وصال ليلى. فطرق نوفل كل باب لبلوغ هذه الغاية، فلمّا أعيته الحيلة جمع رجاله الأشاوس وهاجم قبيلة ليلى حتى يذعنوا لطلبه. لكن قيساً الذي كان في جيش نوفل، لم يكن يعير اهتماماً للجرحى من قبيلة ليلى، كان يتودد إليهم ويطبع قبلاته على أيديهم وأرجلهم، ولم يكن ليهتمّ قط بالقتلى والجرحى من رجال نوفل، وحين شاهد أحد قادة جيش نوفل هذا المنظر خاطب المجنون مستهزئاً به:
نحن نقتل أنفسنا لأجلك أيّها المجنون وأنت تعين خصومنا وتحنو عليهم؟ فردّ قيس قائلاً: إذا كان الحبيب هو الخصم فلا شأن لي بالسيف.
إن قلبي الودود يحنّ إلى هناك. وأينما يكون قلبي فروحي هناك.
وأخيراً أقبل أبو ليلى إلى حيث كان يقف نوفل فتمسك بذيل ثوبه وقال:
((لو أمرت بأن أهب ليلى لأحد عبيدك لما ترددّت في ذلك. ولكنّه عار لي أن أسلِّمها إلى مجنون كقيس)).
ولم يكن يملك نوفل جواباً لأبي ليلى. فخلّى سبيله وانصرف عن الحرب وأصدر أوامره إلى مقاتليه بأن يعودوا من حيث أتوا. والروايات العربية لا تشير إلى وقوع أي قتال بين نوفل وأهل ليلى. وهام المجنون من جديد على وجهه في الصحراء. وفي الطريق، التقى صياداً كان قد صاد ظبية فوهب له فرسه على أن يطلق سراح الظبية. والرواية العربية تقول: وهب شاة أو قلوصاً، فقبل الصياد العرض ففك قيد صيده فانطلقت في البرية لا تلوي على شيء. وانطلق خلفها قيس حتى يوصلها إلى مكان آمن بعيد عن أعين الصيادين. وكان لها رفيق الدرب وأنيساً وحامياً إلى أن بلغت وسط البريّة.
كان يطبع قبلاته على عيني الظبية متغزلاً. بأن هذه العين وإن لم تكن عين الحبيبة لكنّها قد استعارت سوادها منها وهذا يذكرنا بالأبيات التالية لقيس:
باللَّه يا ظبيات القاع قلن لنا
ليلاي منكن أم ليلى من البشر
وأيضاً يقول:
أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني
لك اليوم من وحشية الصديق
ويا شبه ليلى لو تلبثت ساعة
لعلّ فؤادي من جواه يفيق
تفر وقد أطلقتها من وثاقها
فأنت لليلى لو علمت طليق
أمّا ليلى فإنّها كانت قد استبشرت بالقتال الذي خاضه نوفل ورجاله، ولمّا سمعت بعودتهم تحطّم قلبها الكسير.
كانت تتوجع في الخفاء وتخفي آلامها الممضة عن أبيها.
إلى أن جاء يوم عاد فيه ابن سلام وأقام حفلة الخطوبة وأجلس عروسه في هودج مزدان بأجمل زينة ويممّ شطر قبيلته وداره.
لكن ليلى لم تولِ ابن سلام أيّ اهتمام. وكان ابن سلام قد سمع بقصة قيس فارتأى أن يراعي شعور ليلى ويداريها حتى يهدأ روعها وتلين عريكتها. وساعة أحسّ بالعجز عن ترويضها، حاول أن يقضي وطره منها فصدّته بقوة وعنف. وهنا يقول الشاعر نظامي عن لسان ليلى.
(قسماً بربّي الخالق
الذي أحسن صنعي وصاغ جمالي)
(أنك لن تنال غرضك مني
ولو أرقت بسيفك دمي)
وهذا يختلف عن رواية الأغاني هذه: مرّ المجنون بزوج ليلى وهو جالس يصطلي في يوم شات، وقد أتى ابن عم له في حيّ المجنون لحاجة، فوقف عليه ثم أنشأ يقول:
بربك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلّت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلى
رفيف الأقحوانة في نداها
فقال: اللَّهم إذ حلفتني فنعم. قال فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر فما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه وسقط الجمر مع لحم راحتيه وعضّ على شفته فقطعها فقام زوج ليلى مغموماً بفعله متعجباً منه فمضى.
وكان المجنون جالساً بفيء سنديانة كبيرة إذ مرّ عليه من عاتبه قائلاً:
((إنك في جهل تام عمّا يجري في الدنيا ومستغرق في عبادة الأصنام ولا تعلم أن الأصنام لا وفاء لها. حتى عشيقتك قد نقضت العهد وسدّت أذنيها عن سماع زفراتك وأنينك وها هي تعيش مع شاب آخر في ضمّ وعناق)).
ولقد أظلّمت الدنيا في عيني قيس أثر سماع هذا الحديث. واشتعلت النار في قلبه. ومزّق ثوبه البالي ونطح برأسه الصخرة الصمّاء وظلّت عيناه شاخصتين مسمّرتين في السماء لا يرمش له جفن. فاضطرب الرجل وبادره بالمعذرة قائلاً:
((لقد جرحت قلبك بكذبتي، فاعلم أن الأب ـ في حقيقة الأمر ـ قد أكره ليلى بأن تذهب إلى دار ابن سلام. لكن هذا لن يصيب منها وطراً لأن قلب ليلى متعلق بك وليلى لا تقيم لابن سلام أيّ وزن.
ولم يسكن روع قيس واستمرّ يتغنّى كما:
إنني قد اشتريت حبّك بقلب
ولكنّك قد اخترت حب غيري
فأرجو ألاّ يلقى بي في زوايا النسيان
إذا ضمّك مكان بغيري
وظلّ المجنون هائماً في البراري والوديان واختطفت يد المنون أباه وحدث بعد ذلك أن مرّ أحد الصيادين بقيس في إحدى الليالي وقسى عليه في العتاب قائلاً: ((لهجت بذكر ليلى ليلاً ونهاراً ونسيت أباك، وها هو قد استراح من جهلك وتوسّد تراب القبر، ولا زلت ماضياًٍ في غوايتك دون أن تذهب وترمي بنفسك على تربة أبيك وتمرّغ خدّك فيها وتعتذر عمّا بدر منك إليه)). وقد نزل نعي الأب على قيس كالصاعقة فانطلق لا يلوي على شيء حتى وصل إلى قبر أبيه فسقط هناك مغشياً عليه وبعد أن استعاد وعيه، احتضن القبر وقال بنشيج يقطّع نياط القلب:
(لم أجرّب من قبل فقدان الأب
وها أنا أجربّه وأتجرّع مذاقه المرّ)
(أبي لقد كنت قاسياً عليك وكنت حانياً علي
وكان منّي الجفاء وكان منك الوفاء)
أمضى قيس أياماً عند قبر أبيه ينتحب وينشد قصائد الرثاء. وبعد أن أنهى فترة الحداد عاد إلى منطلقه تائهاً في البراري والأودية والجبال يعاشر الوحوش ويأنس بهم. وغدت الحيوانات تحت تأثير سحر العشق كالأرقاء في خدمة المجنون. شغفت به حبًّا وأقامت ملاذاً له أقلعت الطيور الجوارح كالعقاب والصقر والبازي عن طبيعتها الكاسرة. وكفّت الأسود عن أن تنشب في الحمر الوحشيّة أنيابها وأظفارها. وسالمت الذئاب الأغنام، والكلاب الأرانب. وربّت اللبوات صغار المها بحليبها واجتمع شملها جميعاً حول المجنون. كان الثعلب يكنس بذيله بيت المجنون. وكان المجنون يضع رأسه على فخذ بقر الوحش ويغفو. وحين يستيقظ من النوم يتكأ على رقبة حمار الوحش ويأخذ مجلسه.
مرّت سنة على هذه الحالة والمجنون يكتوي بنار حبّ ليلى إلى أن رأى ذات يوم غبرة ترتفع من وسط الصحراء ثم انكشفت عن فارس شيخ اقترب منه وحيّاه وقال:
((كنت ماراً في بعض الطرق فلحظت جميلة تجلس على قارعة الطريق. كانت عيناها السوداوان الحالمتان كعيون النرجس تذرفان درر الدمع. سألتها عمّا بها فأدمى ردّها قلبي حين أنشدت بصوت حزين تقول:
كنت ليلى في يوم من الأيام
ولكني اليوم أشدّ جنوناً من ألف مجنون
وفؤادي يسيل دماً
لأني لا أعلم كيف يقضي حبيبي حياته دوني
وحين سمعت ذلك عاهدت نفسي بأن أوصل رسالتها إليك.
طار المجنون فرحاً وتسلّم رسالة ليلى فوضعها على عينيه وشمّها وقبلّها ثم فضّها. لقد سكر المجنون كالمخمور بعطر ليلى وإشراقة خطّها وشعر بأن رسالة الحبيبة ترقص نشوانة بين أصابعه.
أخبرته ليلى في رسالتها عن حبّها وولهها. ووصفت فضيحته بأنها برهان على عشقه الصادق وشكت محنتها وشرحت تعلّقها الشديد به.
يصف الشاعر نظامي هذا الموقف بما يلي:
يا من ختمت على قلبك بالوفاء لي
ثق بأنّي لم أنكث وفائي لك
لا يدخل الحزن إلى قلبك بأنّك وحيد في هذه الدنيا. أنا لك، ألا يكفيك هذا.
وطلب المجنون من الشيخ النبيل أسباب الكتابة ودبّج كتاباً للحبيبة بث فيه لواعج قلبه ومزج نفثات صدره بقطرات ناظريه وقدّم الكتاب إلى الرسول ليحمله إلى ليلى. وقرأت ليلى بعين باكية الكتاب الذي لم يكن يحوي غير حديث الغرام والهيام. عاتب المجنون في كتابه ليلى بأنها نقضت عهده وجلست في خلوة مع غيره. وغمز قيس في كتابه لحبيبته بأسلوب لا يخلو من تقريع ودعا بالصحة والعافية لابن سلام. ويشرح الشاعر نظامي هذا الموقف بالبيتين التاليين:
إن كان فراقك قد أمضنّي وأسقمني
فعسى ألاّ يبتلى من يقاسمك العيش بالفراق
أية هامة لا تتطأطأ لإطاعة أمرك
فلتقطع ولترمى تحت أقدامك
ولقد ألمّ المرض بليلى من جرّاء التعلق الشديد بالمجنون وباتت حبيسة أحزانها. لكن ابن سلام الذي كان يسعد برؤية ليلى قد أحاطها بحلقة محكمة من المحافظين والمراقبين. كان يتفانى في خدمتها لكن قلب ليلى ظل في شغل شاغل عنه. واغتنمت غفلة الحرّاس في إحدى الليالي وخرجت من الحي والتقت الفارس الشيخ وسألت عن حال المجنون وتأكدت أنّ مجنونها هو المجنون في الحب حقاً لا يفكر إلا بليلاه، حين تأكدت من ذلك انتزعت قرطها المزيّن باللآلىء ودفعته إلى الرسول وقالت له خذ هذا القرط هدية لك وأجمعني بالمجنون لألقي عليه نظرة ولو عن بعد ولأسمع عن لسانه القصائد التي صاغها وكأنّها منبعثة من لهيب قلبي أنا. وكان الرسول الأريب من الواقفين على أسرار العشق ومن المحبذين له في قرارة نفسه. فما إن عرف رغبة ليلى حتى انطلق إلى قيس والتقاه وقال له حسب رواية الشاعر نظامي:
(لقد مضى عليها زمن طويل لم تر محياك
ولم تستمع من لسانك إلى بديهة ما)
(وقد قرّ قرارها الآن بأن تراك لبعض اللحظات
وتجلس معك وجهاً لوجه)
لقد طار المجنون فرحاً ويمَّم شطر حيّ الحبيبة. وقد أخبرها الرسول بأن الحبيب على الباب، وما إن وقعت عين ليلى على المجنون حتى ارتعش قلبها وتسمَّرت في مكانها وقالت للشيخ:
((خليّك معي فإن شمعة روحي تشتعل وسأحترق تماماً إن تقدمت خطوة إلى الأمام)).
والمجنون حين رأى طلعة حبيبته كالبدر في كبد السماء.
أنشدها وهو واقف بعيداً أشعاره وحكى لها قصة أحزانه التي لا آخر لها.
أشعاراً تفيض بأحاديث الهوى والجوى. ولواعج الشوق وآلام الفراق. وتمنّى فيها ما يلي:
ليلة قمريّة كالنهار المضيء.
أنا وأنت وحدنا في وسط الحديقة.
ما أسعدها من ساعة حلوة بهيجة حين يستبد بي السكر هناك.
وأشبك أصابعي بخصلات شعرك المنسدلة.
وكان يعيش بجوار دار ليلى عاشق آخر اسمه زيد وكان هذا أيضاً يعشق حبيبة زفّت إلى غيره وكان زيد هذا يصوغ أبياتاً تعتصر القلوب. ثم صار صديقاً لليلى وموضع ثقتها رويداً رويداً. وقد تلاقت أحزانهما وبات زيد عاقبة الأمر رسولاً لليلى إلى قيس بعد أن عرف ما بها من وجد وحرمان فكان يحمل إلى قيس كل يوم تحياتها المفعمة بالوداد والإخلاص ثم يعود بخطاب من قيس ملؤه اللهفة والهيام.
وقال زيد في يوم من الأيام لقيس كمن ينتقده إنك متمكن من قصائد الغزل فماذا يدعوك إلى أن تسكن البيداء؟ ثم نصح قيساً بأن يلبس لبوس السكينة ويخلّد اسمه بالشعر والقصيدة فردّ عليه قيس غاضباً.
((إنّ ما بي من عشق هو غاية عناية الخالق بي.
أين أنا من عبادة الأصنام الأخرى.
إنني حطّمت أوّل ما حطّمت صنمي الذي كنت أعبده في داخلي.
كانت ليلى في قيد ابن سلام ولم تكن تملك أيّ مفرّ من ذلك. فحين كانت وحدها في البيت كانت تجري دمعاً شيمته الكبر. وحين كان يعود الزوج إلى داره كان يعاودها الهدوء.
وابن سلام الذي بقي محروماً من وصل ليلى، ألمّ به المرض ثمّ اشتد به المرض وأنهك قواه ولم يلبث أن مات. وقد احترمت ليلى تقاليد القبيلة وأعلنت الحداد على ابن سلام لكن قيساً لم يسرّ بموت غريمه وسجّان حبيبته.
وفي هذه اللحظة الفيّاضة بالعواطف الجيّاشة لحظة الانهيار والدهشة، اتجه المجنون بكليته إلى المعشوق الأبدي الحقيقي إلى معبوده وباريه وناجاه بحرقة وضراعة داعياً بإخلاص بأن يأخذ بيده. يقول هنا الشاعر نظامي:
(إنني ضائع في هذه الليلة الليلاء
ليلة تحرق العالم بنيرانها الملتهبة)
أين النهار يا رب
لينهي هذه الليلة التي تبدو كأن لا نهار وراءها
إلهي أرني السراج المنير
فقد اكتويت بنار الحبّ
ونزلت السكينة على قلب مجنون ليلى بعد أن أقبل على حقيقة العشق وأشرق قلبه بنور الحبّ الإلهي.
عادت ليلى إلى بيت أبيها وأزاحت اللثام عن حبّها المكنون دون وجل أو مبالاة. ونادت زيداً وقالت له:
((ابحث لي عن قيس. وآت به هنا إلى بيتي فإني تواقّة لوصاله ولا أطيق صبراً على الانتظار)).
وقد أعدّت ليلى أفخر الملابس لقيس وأخذت هي كل زينتها وجلست على أحرّ من الجمر في انتظاره وأغلقت الباب على نفسها دون الجميع. واهتز قيس ورقص شوقاً عندما زفّ إليه زيد بشرى قرب رؤية الحبيبة. توضأ من نبع المحبة والتفّ برداء العشق واتجه جذلان فرحاً نحو حيّ الحبيبة. وحين بلغ باب الدار وقف متأدباً حتى يؤذن له وكانت ليلى قد شمّت عرقه فهرعت إلى استقباله وفتحت الباب. ويصف الشاعر نظامي هذه اللحظة كما يلي:
سقط الحبيبان ودخلا في غيبوبة لا يعيان ولا يسمعان شيئاً
وظلاّ مرميَّين على قارعة الطريق حتى منتصف النهار
ولقد رشّ زيد وجهي الحبيبين بالعنبر وماء الورد حتّى استعادا وعيهما.
ثم أمسك كل منهما بيد الآخر ودخلا البيت وحمدا ربهما بأنّ عشقهما لم يكن ملوَّثا ًبهوس أهل الدنيا وظل نقياً كطهر الملكوتيين ثمّ احتضن العاشقان بعضهما بعضاً وخرّا صعقين من جديد.
تناولا خمرة الخلود من الساقي الأبدي وسكرا من شهد الوصل لكنهما أطبقا شفتيهما واستغرق كل منهما في التملّي برؤية الآخر. وكانا يتحدثان بقلبيهما أحاديث ذات شجون. كان الفؤادان ينطقان بلغتهما الخاصّة وكانت العينان تبصران بالنور الإلهي، لقد امتزجت حسرات كبديهما ببعضها، كانت ليلى بإشارات جفنيها القاتلين توزّع النكت البديعة بديهة. وكان المجنون يعبّر بعبراته الساخنة عن قصة حبّه الحزينة وآلام فراقه المفجعة وهنا يقول الشاعر نظامي عن لسان المجنون:
أنت بصري ولكن لست بصراً لا نور له
وكيف يمكن لباصر أن يبتعد عن بصره
لا يوجد هنا أنا وأنت فأنا أنت وأنت أنا
ومذهبنا يرفض الثنائية
وامتزج القلبان المترعان بالصفاء والمحبة، فانسكبتا قطرتين في كأس الوحدة واتحدتا. لم يبق هناك أنا وأنت ولا نحن وأنتم. ورفع العشق بكل عظمته راية التوحيد. لم يكن في البين قيس ولم يبق لليلى أي تجلّ هناك.
لقد نسي كلاهما وجودهما واستسلما للعشق والمحبة.
والنار التي كان يرتفع أوارها في تلك الساعة قد أحرقت كل ما كان غير نقيّ ولم تبق إلا على اللطف والصفاء في تلك اللحظات التي كانت تمرّ كالحلم وكانت تتدفق عليها تجليات أنوار الوحدانية.
وفي نهاية المطاف، شاهد المجنون وهو مأخوذ مبهوت بجمال حبيبته الرائع شاهد بغتة تجلّي الأنوار الإلهية في سيماها. فحملقت عيناه مبهورة وأطلقها صرخة مدوية من أعماق قلبه فانطلق يجري نحو البراري والسهول والجبال لا يلوي على شيء. نسي كل شيء وكل أحد. يقضي الليل والنهار وحيداً يترّنم بأناشيد العشق ويرسل الدمع من عينيه كالسيل. وفي مسرحية أحمد شوقي ليلى تموت قبل زوجها وقبل قيس نفسه وفي رواية أخرى يرويها صاحب (الأغاني) أن شيخاً من بني مرّة وجد جثته ميتاً في واد كثير الحجارة خشن وأن أهله احتملوه فغسلوه وكفنوه ودفنوه. ويظن أنّه مات قبل أبيه وهو شاب. وتبع زيد العاشق الواله الآخر قيساً يسير على خطاه في الهضاب والوديان ويصرخ ويشيد بذلك العشق السماوي الطاهر قائلاً بحسب تعبير الشاعر نظامي.
العشق مرآة من النور سامقة
والشهوة أبعد ما تكون عن حقيقة العشق
والعشق العرضي (غير الجوهري) لا بقاء له
ولا يجدر بالإنسان أن يقبل على العشق العرضي
وليلى التي كانت قد احترقت بنار حب المجنون. ليلى هذه قد أسلمت بدورها إلى النسيان كل ما كانت تعرف عن العدم والوجود وسلّمت نفسها إلى طوفان الحب السرمدي. لقد أفقدها التملّي بتجلّي الحبيب قوّة التحمل، فلزمت فراش المرض وذابت كالشمعة وذهبت روحها إلى جوار الروح الأبدي. لقد مزقت سجوف الخيال وطارت على أجنحة المحبّة إلى ملكوت العشق. واتصلت بالبحر وغدت بحراً. كانت شاهدة على العشق فأصبحت شهيدة العشق. تخلّت عن الوجود والتحقت بالعدم فحلّقت في سماء الخلود وارتوت بالخمر الأزلي:
رقّ الزجاج ورقّت الخمر
فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر
وحين علم قيس بما حلّ بليلى وكيف ذبلت تلك الزهرة اليانعة وتساقطت وريقاتها، أهوى على ثوبه فمزّقه فغاب عن نفسه وكاد ينجع نفسه حداداً على ليلى. ولم يرح نفسه ليلاً ولا نهاراً وانطلق يطوي بطون الوديان والصحارى ويتسلق التلال والجبال وينشد لنفسه أشعار الغزل حتى بلغ في نهاية الأمر المكان الذي استشهدت فيه ليلى فضرب خيمة العشق بجوارها واستغرق مع الحبيبة الغائبة في حديث ذي شجون يطفح بالعشق والهيام كما يروي الشاعر نظامي:
يا وردة ما إن تفتحت حتى هاجمها الخريف
ذهبت عن هذا العالم، دون أن ترى هذا العالم
لقد غادرت هذه الخربة فنجوت
وإنك الآن في محفل الأنس في جنة الأرم تسعدين
وجدير بالذكر أن الشاعر نظامي ومن اقتفوا أثره من شعراء الفارسية والتركية الذين نظموا قصة قيس وليلى سموا بهما إلى ما يشبه مرتبة القديسين.
كان المجنون مخلوع الفؤاد طائر اللب مهتاجاً كالسكارى يوصل نهاره بالليل وليله بالنهار ولا يجري على لسانه إلاّ اسم ليلى وينشد لها الأناشيد لأنّه قد رأى نور الخالق في سماه. وكان قد انقطع عن جميع الناس إلا عنها، كانت ليلى له المرآة الصافية التي كان يتجلى فيها النور المطلق والجمال الأسمى وببركة هذا التجلّي قد فتح الله عينه ليرى ربّه الكريم وفي هذه الحالة من الهياج والدهشة والعذاب النفسي رجا المجنون بارئه تعالى أن يأذن له بالصعود إليه وأن يذيقه لذّة الوصال فاحتضن تربة الحبيبة وناداها باسمها ثم فاضت روحه.
لقد شدّ المجنون الرحال من هذا العالم
وارتاح من ملاحقة العذول في هذه الدنيا
لقد غسلوه بدموع العين الصافية الطاهرة
ومزجوا تربة الحبيبة بتربته
لقد شقوا جانباً من الحفرة التي كانت ليلى تتوسد ترابها ووضعوه إلى جنبها هناك.
لقد ناما نوم الهنا إلى يوم القيامة.
وخلت طريقهما من أشواك الملامة.
والسلام..
قال لي محمد أحمد نعمان (ويصادف اليوم الثامن والعشرون من شهر يونيو/حزيران الذكرى العشرين لاستشهاده) قال رحمة الله عليه حين كان وزيراً للخارجية في الجمهورية العربية اليمنيّة وقد قدّمت له ألبوماً تفنن الصناع الإيرانيون في تزيين دفتيه: إنني كلما نظرت إلى سجّادة إيرانية فكرت في مبلغ ما صرف عليها من جهد وما أعمل فيها من ذوق وما استنفد من طاقة وصبر وما استلهم من خيال.
فالسجادة يمكن أن تعتبر عنواناً لشخصية الشعب الإيراني. فهذا الشعب يستعذب من الأعمال أجملها. وانطلاقاً من هذه النزعة انجذب هذا الشعب في الأدبين الإسلامي والعربي إلى ما هو أشد إثارة وأوسع مجالاً لتحليق خياله والإبداع في صياغته من جديد وعرضه بصورة جميلة تهز المشاعر وتخلب الألباب مثل قصة يوسف وامرأة العزيز في القرآن الكريم. وحكاية قيس وليلى في أدب العصر الأموي. وأوّل من اهتم من الإيرانيين بما نقل عن مجنون بني عامر، كان المؤرخ المعروف صاحب (كتاب الأغاني) أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصبهاني المتوفى عام 356هـ ـ 967م. لقد جمع أخبار هذا العاشق التاريخي في كتاب سمّاه ((أخبار مجنون بني عامر)).
وكان أوّل شاعر إيراني عني برواية قصة قيس وليلى هو الشاعر نظامي من مدينة ((كنجه)) وهي تابعة حالياً لأذربيجان المستقلة المنسلخة من الاتحاد السوفياتي السابق. وجدير بالذكر أن حيدر علي أوف الرئيس الحالي لجمهورية أذربيجان ينتمي إلى مدينة كنجه.
ويعرف الشاعر نظامي باسم ((نظامي كنجوي)) واسمه الياس وكنيته أبو محمد ووالده يوسف بن زكي وقد توفي والده وهو صغير. وتبعته الأم بعد فترة وجيزة وكانت كرديّة الأصل. وينقل إنّه تربى في حضانة أحد أخواله وقد درس التصوف وتأثر أدبه بذلك. ويعتبر نظامي كنجوي رائد القصة الشعرية في اللغة الفارسية. وقد نظم حكاية المجنون وليلى بحسب رغبة بعض ملوك زمانه. والإيرانيون ينطقونها ((ليلى ومجنون)) يبدو أن كلمة ليلى أسهل نطقاً لديهم من اسم ((مجنون)) ولنظامي كنجوي قصص أخرى منظومة لا نتطرق إليها لأنها ليست موضوع بحثنا.
إن قصة ليلى والمجنون، هي من أروع الآثار الشعرية الفارسية وقد مضى عليها نحو ثمانمائة عام وما زال العالم مفتوناً بها. وقد سعى إلى أن ينسج على منوالها واحد وخمسون شاعراً تركياً وفارسياً على أقلّ تقدير في رقعة من الأرض مترامية الأطراف تضم إيران وتركستان والمناطق التابعة للخلافة العثمانية وشبه القارة الهندية.
وكانت هذه القصة النادرة مصدر إلهام للشعراء والكتّاب والرسامين والخطباء. واقتدى بها بعض كبار شعراء اللغة الفارسية مثل أمير خسرو دهلوي وعبد الرحمن جامي ومكتبي شيرازي وعبدي بيك شيرازي وعبد الله هاتفي. وتأثر بها بعض عمالقة الشعر الفارسي مثل سعدي الشيرازي والعطار ومولانا جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي.
وقد نقلت القصة إلى النشر الفارسي مرات عديدة قديماً وحديثاً أكثرها جيّد وبعضها سقيم.
وهذه القصة المنظومة للشاعر نظامي عن قيس وليلى تزيد على أربعة آلاف بيت.
وكان يأتي قبل الشاعر نظامي كنجوي ذكر المجنون وليلاه لماماً في الأدب ـ الفارسي وكان لا يعرف بأخبارهما إلا المتابعون للأدب العربي وذكر ناصر خسرو الشاعر الفارسي الإسماعيلي في رحلته أنه اطَّلع في الجزيرة العربية على المكان الذي كان فيه حيّ قوم ليلى.
ويبدو أن العرب اكتفوا بنقل أخبار قيس وليلى ورواية أشعارهما ولم يفكروا في إنتاج أثر مستقل عنهما حتى العصر الحديث حتى انبرى أمير الشعراء أحمد شوقي ونظم مسرحيته مجنون ليلى عن هذين العاشقين العربيين ويعتقد الدكتور محمد غنيمي هلال (مدرس الأدب المقارن في جامعتي القاهرة وإبراهيم) في كتابه القيّم (ليلى والمجنون في الأدبين العربي والفارسي) أن شوقي في مبادرته تلك كان متأثراً بالأدب الفارسي عبر الأدبين التركي والفرنسي. وملخّص القول: إن الشاعر نظامي كنجوي استطاع بقوّة قريحته الوقادة وشاعريته الفذة أن يصنع من مادّة الخام التي كانت بتصرفه عن المحبين البدويين قيس وليلى رائعة خالدة سارت بها الركبان على أجنحة اللغة الفارسية شرقاً وغرباً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2163  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 111 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.