كلمة الأستاذ خالد القشطيني |
بسم الله الرحمن الرحيم، أبدأ بشكر معالي السفير الدكتور القصيبي على كل هذه الكلمات المشجعة التي استبقنا بها وأشكر أيضاً أخانا وزميلنا الأستاذ محمد الصبيحي على كل الجهود التي بذلها في إعداد هذا المعرض وهذه المحاضرة مما يدل على أن الجماعة الدبلوماسيين لهم لغة خاصة يستخذمونها معنا. وتأكيداً لذلك أسرد لكم طرفة تقول: إن رجلاً مسافراً في سيارته ضيّع طريقه وتاه. مرة يجد نفسه هنا وتارة هناك، ثم تاه تماماً ولم يدر أين هو أوقف سيارته وجاء يسأل أحداً من المارة في الشارع. لسوء حظه كان هذا الواحد دبلوماسياً فسأله قال: إكسكيوزمي، أين نحن قال له: أنت في سيارتك. |
هذا الجواب تستشهدون به على اللغة الدبلوماسية ليستوفي على الأركان الثلاثة من اللغة الدبلوماسية، أولاً الاختصار، فهو يقول: أنت في سيارتك. طبعاً أقل من هذا لا يمكن ثانياً الصحة، قال له: أنت في سيارتك. فهو فعلاً في سيارته، ثالثاً لم يضف للسامع أي معلومة جديدة لم يكن يعرفها مسبقاً. فقال: أنت في سيارتك. وهو فعلاً في سيارته. |
الدكتور القصيبي يستعمل معنا لغة دبلوماسية ولكن لغته الدبلوماسية تستوفي الشرطين الأولين فقط. أما الشرط الثالث فناقص لأنني حينما أذهب وأستمع للدكتور القصيبي أخرج من ذلك المكان قد استزدت علماً ومعرفةً بشيء جديد. فهذا الشرط الثالث منسوف. خذوا مثلاً هذا المثال: اليوم حضرت هنا وما كنت أعرف عن نفسي أني رجل صاحب موهبة غنية ولكن باستماعي للأستاذ عرفت المعلومة هذه. وأعترف أنني استمتعت بكل هذه الكلمات التي تفضل بها. وتمتعي هذا يذكرني بقصة الدكتور جونسون الذي كان سابقاً حين كان يلقي محاضرة فعرّف بما يستحق من الإشادة: العالم العلامة والبحر الزاخر وحيد عصره وفريد أمته إلخ.. سكت دقيقة ثم رفع رأسه وقال: تعذروني أني اضطررت أن أستعمل دقيقة من وقتكم لأني اضطررت أن أبتهل واستغفر ربي على خطيئتين ارتكبناهما الآن: الأولى، الكلام الذي تفضل به، وكل هذا الكلام غير صحيح. والخطيئة الثانية، هي أنني طلبت من ربي أن يسامحني لأني استمتعت بالكلام غير الصحيح. وأنا في الحقيقة قد تمتعت بكل الكلام الذي تفضل به الدكتور القصيبي وإني قد صابني شيء من الغرور. |
سبحان الله الذي أخرج من ذرية آدم وحواء. (وأمامنا حواء هنا نخاف أن تسبب لنا مشاكل) شعوباً وقبائل. وجعل هذه الشعوب والقبائل لا تختلف في سماتها ولغتها فحسب، بل جعلها كذلك في نواحيها الفنية والثقافية. فالإنجليز، كما نعرف، تميزوا بالمسرح. والفرنسيون تميزوا بالرسم والنحت. والألمان تميزوا برقص الباليه، والهنود تميزوا بالحكمة.. فما الذي تميز به العرب؟ بدون أي شك تمسك الأمة العربية بفنون اللغة فليس هناك افتتنت بسحر الكلمة كما افتتن العرب، سحرتنا الكلمة فجعلتنا نتصور فنون اللغة. وهذا ما قاله أبو عثمان الجاحظ في الرد على الشعوبيين. رحل السفراء بأمجادهم يتحدون العرب بأن يأتوا بأي شيء مثله. فأجاب الجاحظ في البيان والتبيين، وقال: نحن أصحاب اللسان أي أصحاب اللغة. كل ما فعله العرب ارتبط باللغة وقام عليها. إذا نقشوا مزهرية أو صينية أو زخرفوا جداراً جمَّلوا نقشهم بأبياتهم من الشعر أو آيات من الذكر الحكيم . عندما رسم الواسطي صوره الذائعة الصيت لم تكن حملت في صفوفها وألوانها الروح نفسها السافرة الظريفة التي تميزت بها كلمات المقامات كنتيجة لهذا الجري وراء اللغة وسحر الكلمة. ارتفع شأن فن الخط فأصبح سيد فنون التشكيلية العربية وأسهب العرب في الإشادة به فقال الفارابي: الخط أصيلٌ في الروح وإن ظهر في حواس لاجسد، وتكلم عبد الحميد الكاتب فقال: البيان في اللسان والبنان، يقصد بالبنان الخط. وفي عصرنا هذا أنشأت الرسامة العراقية مديحة عمر في الخمسينيات مدرسة تحويل الخط العربي إلى موضوع رسم. ومن يومها تبارى جمهورٌ غفيرٌ من الفنانين في تشكيل لوحاتهم على أسس الحروف العربية. نذكر من هؤلاء الفنان السعودي أحمد الأعرج والفنان ناصر الموسى أيضاً من السعودية. وقبل أسابيع قليلة شهدنا في هذا المكتب نماذج رائعة من أعمال الفنان المصري أحمد مصطفى، بيد أن السعوديين ركّزوا بصورة خاصة على جماليات الخط والحرف العربي. نعم لقد وقع العرب في سحر الحرف والكلمة ونجد هذه الظاهرة حتى في الموسيقى، فلا توجد موسيقى عربية وإنما يوجد غناء عربي . وهذا هو ما يسحر العرب ـ الكلمة ـ المعنى. كنت قبل أيام قليلة أستمع لأم كلثوم تغني (أنت عمري).. ولكن الجمهور كانوا لاهين في أثناء المقدمة الموسيقية، يتكلمون ويأكلون الفستق والآيس كريم ويبحثون المسألة الفلسطينية غير عابئين مطلقاً بالموسيقى. ولكن ما إن فتحت أم كلثوم فمها بغناء الكلمة حتى تكهرب الجو وجن جنون الحاضرين، إنه سحر الكلمة، كان ذلك في مصر. ولكن أجد روح العروبة الأصيلة دائماً في المملكة العربية السعودية. وفيها الظاهرة نفسها بصورة أو أخرى فالموسيقى تعزف ولا أحد يلتفت إليها. |
إنني من عشاق الأوبرا ولسنوات. سألت نفسي: ما الذي جعلني أفضل الأوبرا على السيمفونية وهي الأكثر شيوعاً تأملت في الموضوع وتوصلت إلى هذه الحقيقة، وهي أن جذوري العربية جعلتني أفضل الكلمة المغنّاة على العزف المجرد، وهذا هو الهوس بالكلمة الذي سيطر على كل الفنون العربية. كثيراً ما تسأل: لماذا لم يعبأ العرب بفن الرسم؟ الجواب في رأيي هو أنهم انشغلوا بالأدب. فهذا شيء نحسه من ملاحظاتي الخاصة في هذين المجالين الأدب والرسم، وقدر لي أن أعيشهما معاً. |
الإنسان يرسم عندما لا يجد وسيلة أخرى للتعبير عن نفسه وينظم الشعر عندما يصعب عليه التعبير عن عواطفه بوسيلة مختلفة. أي يا سادتي إما أن تكونوا رسامين أو أدباء، هذا هو السر في صعوبة الحوار مع الرسامين، تخونهم اللغة، دائماً تسألهم: ما الذي تقصدونه بهذا، فلا تحصل على جواب، أو تحصل على جواب كاذب يزيدك جهلاً وحيرة. لو كانوا يحسنون التعبير بالكلمات لما رسموا اللوحة. درسوا الرسم في خمسة معاهد للفنون وعلى يد ما لا يقل عن عشرين استاذاً أريد أن أصارحكم القول فأقول: إنني لم أجد بينهم غير اثنين أو ثلاثة أفادوني بأي معرفة، فتدريس الرسم من أصعب المهن، لأن الرسام لا يدري كيف يشرح للآخرين فهمه للفن، وفي بغداد الدرس الوحيد الذي فهمته من فائق حسن كان في استعمال المراحيض الإفرنجية كانوا قد بنوا مراحيض إفرنجية في معهد الفنون الجميلة؛ فأساء الطلبة استعمالها، فاضطر فائق حسن إلى تجميعنا وإلقاء درس علينا في كيفية استعمال هذه المراحيض. الكلمة الوحيدة التي علقت في ذهني خلال كل السنين التي قضيتها معه كانت في تلك المناسبة عندما قال اهدأ يا ابني لم تستعمل المرحاض اهدأ. وفي لندن كان هناك درس على يد دانيل سنتر، وأتذكر أنه نظر إلى أول لوحة رسمتها هناك، فنظر عليها وقال: (نوت يا نوت باد) (Not bad). |
فماذا كان يقصد الأستاذ دانيل؟ |
معظم فنانينا لا يستطيعون أن يكتبوا سطراً واحداً باللغة العربية وأقول ذلك عن تجربة ومعرفة شخصية. لقد وقعوا جميعاً تحت هيمنة الفن الغربي، ولسوء الحظ أن الجيل الحاضر من الفنانين العرب عاصروا الفترة التجريبية من الفن الأوروبي الحديث لهذا جاءت أعمالي منصبة في إطار ما يسمى بالأسلوب العام. إنهم يدافعون عن هذا بقولهم بأن التجديد هو فن العرب. |
الثقافة العربية هي عمل هندسي وهو على الأكثر عملٌ لوني اعتباطي. |
التجديد في الفن العربي المعاصر يرتبط بالتراث العربي وليس بالأدب العربي، ولكننا مع ذلك نجد في السنوات الأخيرة اتجاهين سائدين في الفن العربي المعاصر يستلهمان عنصر اللغة في الشخصية العربية: الأول هو التركيز على الخط العربي الفنان السوداني عثمان وقيع الله يعبر عن هذا التزاوج بين الخط العربي والأدب العربي والصوفية الإسلامية. ويرى العزام في رسم معلقاته السبع في سبع لوحات، وشاكر حسن يرسم لوحاته على أساس شفاهية الكتاب، والرسام السعودي أحمد الأعرج يدمج الحروف. |
وفي الواقع لا يوجد جلد عربي الآن لم يرغم الفنانين بهذا الاستعمال أي استعمال الحروف العربية كمنظر أساسي في لوحاته ورسومه حتى تبلور التيار وأصبح مدرسة فنية كاملة تعرف بالحروف. وتدفق هذا الفن. وغمر أيضاً شرائح من علوم الفن هناك الآن فنانون، حتى في اليابان، يستعملون الحروف العربية كموضوع لأعمالهم التجريبية. وفي باريس أصبح فن الخط العربي مادة تدرس ضمن جامعة ويقوم بالتدريس فيها الفنان عبد الغني وتخرج على يديه خطاطون فرنسيون وأجانب يخطون اللوحات العربية بأروع ما يمكن من الجمال والإتقان دون أن يفهموا كلمة واحدة مما يكتبونه من اللغة العربية. ومن هؤلاء أذكر خطاطة فرنسية. ولربما نلاحظ أثناء تجولنا وتسوقنا في الأسواق والشوارع البريطانية كثيراً من الفتيات يستعملن ويلبسن ويتزين ويلبسن الثياب المزيقة بالحروف العربية ليس، ففي القرون الوسطى كان كثيراً ما ينقشون الكلمات والحروف العربية على أقمارهم وخشباتهم، وأيضاً دون أن يعرفوا معانيها. وزاد ذلك الاتجاه فنجده شائعاً عند الأسبان. |
فملوك الطوائف الأسبان كانوا يزينون أعلامهم وشعاراتهم بصور الأسود والدببة أما المسلمون فقد زينوا أعلامهم وأنديتهم لا بالوحوش وإنما بالكلمة الكلمة لا غالب لسحرها وهو طبعاً التقليد الذي واصلته المملكة العربية السعودية عندما زينت علمها بكلمة (لا إله إلا الله) هناك الكثير بين الخطاطين والنقّاد من يعطي كل حرف من الحروف العربية كلمةً أو رسماً محدداً هذا موضوع أوسع من أن أستطيع الإشارة إليه في هذه المحاضرة وربما إذا حضرتم معنا في يوم آخر نعرف شيئاً عن سبب خلطهم التراث الأدب العربي باللغة العربية. والاتجاه الثاني هو اتجاه غربي، وكما نعلم أنه يقوم على فكرة التحليل النفسي ونظريات دوف. ولكن هذا فتح الأبواب لعنصر وهو قبل كل شيء فن يعتمد على الأفكار وهذا ما يفسر لنا ما كيف أن الغربيين تخلّوا عن اليسارية لمدة طويلة ولكننا ما زلنا نتمسك بها وننظم الشعر في أفكارها اليسارية، توجد الآن في بلاد العرب أصداء لذلك الوله في بعض أعمال الفنان السعودي عبد الحليم. وكما قلت نسبة السريانية بينه. حتى أننا أصبحنا نطلق هذا الوصف على كل نوع من أنواع الفن الحديث. ومن الملفت للانتباه أن نلاحظ غلبة الصفة الأدبية والفكرية وحلولها محل الصفة النفسية اللاشعورية في أعمال الفنانينن. أي إننا نجد لوحاتهم محملة برموز أدبية نفهمها فهماً مباشراً، بدلاً من أن تكون هذه الرموز لا شعورية في شحنتها العاطفية. بيد أن هناك نقصاً واضحاً في شحنة الاتجاه الأدبي من الطفل العربي المعاصر. وكما نعلم استوحى الفنانون الأوروبيون في عهد النهضة المعاصرة جل أعمالهم من مصدرين: الأول الإنجيل والتوراة، والثاني الأساطير. |
ولكننا لم نتصل فنياً بأوروبا في هذا القرن وأواخر القرن المنصرم، أي في الفترة التي تخلت فيها أوروبا عن الاهتمامات الأدبية وانصرفت للون والشكل ونحو ذلك من الأمور غير المجدية. وهذا ما جعل كل فنانينا يديرون ظهرهم للتراث الأدبي العربي كأساطير قيس وليلى، ومغامرات عنترة العبسي. |
إن العراق عندما سعى إلى توثيق الفتوحات الإسلامية على سبيل المثال في معركة القادسية، اضطر إلى الاستعانة بفنانين من كوريا. ما الذي يضمره المستقبل للفن العربي؟ أعتقد أن الفنون التشكيلية ستضاعف مرحلة مزدهرة. الدافع الرئيس لاعتقادي هذا هو أننا سنواجه التماساً في الجانب الأدبي، وحيث ستختفي الكلمة ستحل محلها الصورة وسيحدث الالتماس في عالم الكلمة، لأن الشعر، وهو ديوان العرب، أخذ يتلاشى بسبب المدافع التي أبعدته عن تناول حصته كما أن انحسار الفكر السياسي والاجتماعي وما اتصل بذلك من الخيبات السياسية والفكرية أخذ يقلل من اهتمام الجمهور بالكلمة المسحورة. وأخيراً لا بد أن تتساءلوا: أين أقع أنا؟ إنني حسمت الإشاعة بين عنصر الفن وعنصر اللغة منذ مدة طويلة من انسحابي من عالم الفنون التصويرية والتوجه إلى عالم الفكر والأدب. من الواضح أنني وجدت التحقيق عن أسباب ومشاعر الكلمة يؤثر علي. |
والحقيقة أنني أعطيت حتى في عالم الفن الغلبة لعنصر الأدب وذلك في التوجه إلى التصحيح المسرحي في إطار هذه العلاقة بين الأدب المسرحي وفن الرسم التي وسترون نماذج كثيرة منها في هذا المعرض. |
أحب أن أشكر الأستاذ محمد عبده والسيدة أم كلثوم والأخ الصبيحي. |
|