شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شعرية الطيب النص، السرد، الإليغوريا
بقلم: بشير القمري (1)
(1)
يمكن الحديث عن تجربة الكاتب والروائي الطيب صالح بعدة صيغ وإمكانات نظرية ونقدية منها مقاربة أعماله السردية، في مجالي القصة والرواية، من موقع تحليلي بنيوي يتقصد البحث في بنيات نصية كبرى و/أو صغرى، في علاقتها، دون سواها، بنسق الكتابة أو بالسياقات الجمالية الإبداعية والمعرفية المعايشة لهذا النسق بالمعنى الشكلاني الضيق، ومنها أيضاً مقاربة هذه الأعمال في ضوء إشكالات محدّدة ومحدّدة تهتم بهذه البنيات النصية من منظور سوسيولوجي يتجاوز حدود النص (حدود النصوص) وانغلاقه (انغلاقها) في مرجعيته (ها) الحرفية المباشرة إلى البحث في طبيعة ونوعية ((القيم)) المترتبة عن عمليات القراءة والتلقي. كما يمكن ـ من زاوية أخرى ـ مقاربة هذه البنيات النصية وتحديد وظائفها وتأويلها بعد ذلك بالتدريج ومراعاة قيمتها في التأشير على هذا المظهر أو ذاك من مظاهر التخيل، إلى جانب تأويل دلالاتها في أفق تحليل كمي يفترض وجود تفاعل بينها ـ البنيات والوظائف ـ على أساس أن ((كتابة)) الطيب صالح نظام سيميائي ثقافي وسجل أونطولوجي ونسق رؤيوي قائم الذات ومنفصل في الوقت نفسه بالنسبة إلى كتابة (كتابات) أخرى، عربية بالخصوص، سابقة، ولاحقة، باعتبار التشكل والسيرورة التكوينيين وغير التاريخيين اللذين يجعلان هذه الكتابة ـ في تقديرنا ـ لحظة (أو ((حالة))) من لحظات (((حالات))) أخرى يجسدها كتَّاب روائيون عرب آخرون من داخل متوالية (متواليات) الرواية العربية الحديثة والمعاصرة معاً، مع ما يلزم ذلك ويلزم من استعادة ونبش وحفريات أفقية وعمودية في إشكالات هذه المتوالية على مستوى تأصيل الأشكال الروائية (السردية عموماً) وتجريبها وفق استراتيجية الحداثة والقطيعة والتجاوز باستمرار.
إن هذه المقاربات وسواها تجعلنا نتساءل ـ من ضمن ما قد نتساءل بصدده ـ عن عدة مظاهر ومستويات دفينة لم يهتم بها النقد الموجه نحو أعمال الطيب صالح وسواه من الرواد الذين رسخوا رهانات الانزياح السردي داخل متوالية الرواية العربية، لا سيما النقد منه والذي انطلق مباشرة إلى ممارسة التأويل واكتفى بما هو خارج النص (خارج النصوص) أو سقط في غواية القراءة الآثمة وشركها، أيديولوجياً تارة وأخلاقياً تارة أخرى، ولم يأخذ في الاعتبار رمزية العمل الأدبي السردي (القصصي والروائي) في البناء والوظائف والدلالات الممكنة وفي التخيل والمتخيل بعد ذلك، ومن ذلك ((نصية)) النص والتسريد أو الأليغوريا ـ مثلاً ـ والمفارقة أو تشكلات الخطاب السردي باعتباره خطاباً تمثيلياً لبنيات حاضرة ـ غائبة تعيش جدلها وجدليتها الخاصين في ثفل النص (النصوص)، وتحتاج إلى الكشف واكتشاف قوانين اشتغال نسق الكتابة، ولا شيء سوى الكتابة، قبل أي نظام آخر قد يسجن هذه الكتابة ويدجنها في سراديب القراءة (القراءات) الآثمة ويعصف بها وبجماليتها، بل يقتل فيها كينونة المتعة وسحر المعنى ويدمر فيها إغراءات الدلالة الشاردة غير المحتسبة.
بهذا الاقتناع المبدئي يمكن المراهنة ـ في ((حالة)) كتابة الطيب صالح ـ كمقترب أولي تمهيدي على رهانات الشعرية باعتبارها نظرية للأدب والتخيل الأدبي من داخل إكراهاتهما وممعناتهما، وتسعى من جانب آخر إلى بلورة مقولات تعيّن على الإمساك بهوية النص (العمل) الأدبي ووحدته وتنوعه ككيان متعال يفترض فيه وجود خطاب أدبي ـ موضوع، يشكل من جهته الذاتية نصاً معطى بمستوياته في التأشير على المعنى والإيحاء بدلالة مفترضة من داخل شبكية وحداته الصغرى وعلائقها المتبادلة، ويؤدي في النهاية إلى إدراك التشكلات ضمن معادلة ((الأدب، النص، الخطاب))، على أن الشعرية ـ من زاوية نظرية منهجية تجريبية أخرى ـ تنتقل بهذا البعد في البحث عن البناء والتكوّن والأسلوب والتعبير إلى اعتبار النص ـ أي نص ممكن ضمن هذه الشروط ـ تمظهراً لخصائص تقود إلى البحث في إشكال وصيغ تنظيم الخطاب، وبذلك تنفتح الشعرية وتستوعب علوماً أدبية إجرائية أخرى منها السرديات والسرديات السيميائية وسوسيولوجية النص وهي تعتني بالنمذجة ودراسة تمفصلاتها. ويفيدنا، في مستوى آخر، إلى جانب ما تعرضنا له بإيجاز مختصر، اعتبار الشعرية منفذاً لمقاربة تجربة الطيب صالح عندما تقتنع أنها تسعى ـ من ضمن ما تسعى إلى تحقيقه ـ إلى إدراك مجموع المبادئ الجمالية التي توجه كتابته وتتحكم فيها وتخلع عليها صفة فرادة ممكنة انطلاقاً من مجموع متنه النصي أو من نص بعينه دون غيره أو أكثر من نص واحد يشترك مع قرين ـ أو يختلف عنه ـ في هذا المظهر أو ذاك. فما هي إذن خصائص ومكوّنات شعرية الطيب صالح وشعرية كتابته السردية بصفة خاصة؟
(2)
كثيرة هي المستويات والبنيات النصية التي تستوقفنا في تجربة الكاتب والروائي الطيب صالح، ونستطيع التمييز داخلها ـ في ضوء مقترحات الشعرية ـ بين إمكانين نظريين يبدوان مستقلين ولكنهما يتقاطعان ويتداخلان: الإمكان الأول توفره اقتراحات شعرية عامة نتصور من خلالها كلية نصوص الطيب صالح في ضوء مسألة التشكل النصي في علاقته (علائقه) بمفاهيم القصة والرواية لديه في علاقتها بدورها بنظرية الرواية والقصة أجناس، أما الإمكان الثاني فتوفره اقتراحات شعرية صوب شعرية النص وشعرية السرد والخطاب إلى جانب شعريات جزئية وفرعية أخرى منها شعرية الشخصية الروائية وشعرية القضاء الروائي.
بهذا المعنى نجد أنفسنا مطالبين باستعادة ما قد يكون لا مفكراً فيه إلى حد ما بالنسبة إلى قضايا كتابة الطيب صالح عبر كل محطاتها وأدوارها وتشعباتها وامتداداتها الذاتية والموضوعية باعتبار مواثيقها الجمالية التي دشن بها إقباله على هذه الكتابة واختياره لها، في جنسين أدبيين محددين هما القصة والرواية. ومما يثير الانتباه في هذا السياق هو ذلك التوتر السردي الذي جعل/يجعل نصوص الطيب صالح متوزعة بين قطبين متصارعين داخلها وفي أغلب تمظهراتها، فما يتخذ لَبوس ((قصة قصيرة)) ـ كما هو الأمر في ((دومة ود حامد)) يمتلك كثافة روائية مثيرة تجعل كل نص قصصي ينشد الروائية ويتوق بل يجنح إليها في متعالياته، وما استوى في شكل ((رواية)) ـ ((موسم الهجرة)) أو ((ضو البيت: بندر شاه)) مثلاً ـ تخترقه مواثيق القصة القصيرة شذرياً، بحيث تنعدم الحدود وتتراجع إكراهات النص وتتجاوز الإمكانات اللغوية وتتحاور الممكنات السردية فيما بينها لتعبِّر عن هذا التوتر السردي وترسخه، وبقدر ما يتحقق هذا في تجربة الطيب صالح، بقدر ما تتحاور داخلهما ـ القصة والرواية ـ إمكاناتهما الشكلية في استقطاب العناصر نفسها الخاصة بالتخيل والمتخيل واللغة، بل إنهما تستقطبان مواد التشييد الحكائي نفسها إذ تعبر إليهما عناصر الحكي الشفوي واستثمار الذاكرة التراثية والشعبية في التعبير والرمزية والتشخيص والرؤية: ألا يمكن القول بأن الأجواء والمناخات والشخصيات والفضاءات التي تهيمن في بعض نصوص مجموعة ((دومة ود حامد)) توجد أصلاً في النص ـ النواة ((موسم الهجرة))؟
إننا ـ عندما نقارب هذين النصين ـ نحس بحوارية قصوى بين ((نخلة على الجدول)) (قصة مجموعة ((دومة ود حامد))، ص7/ص18). و ((حفنة تمر)) (قصة، نفسه، ص 19/ص 52، و ((دومة ود حامد)) نفسها (قصة، نفسه، ص33/ص 52)، وبين ((موسم الهجرة)). كما أن نصوصاً مثل ((رسالة إلى إيلين)) (قصة، نفسه، ص 26/ص32) و ((إذا جاءت)) (قصة، نفسه، ص 53/ص 68). وأقصوصة ((خطوة إلى الأمام)) (ص 85/ص86) تخترق عوالمها عوالم ((الموسم)) في بعض تفاصيلها التيمية.وهو ما يؤكده أيضاً نص ((لك حتى الممات)) (أقصوصة، نفسه، ص 87/88) الذي يذكرنا بإلحاح بمغامرات مصطفى سعيد، بطل ((الموسم))، خاصة من موضوع اللقاء في الحفلة والتعارف والرقص وهكذا دواليك. أما نص ((ضو البيت: بندر شاه))، ومعه ((مريود)) (الجزء الثاني منه) فإن الحوارية بينه وبين ((المواسم الهجرة)) لا تنضب ولا تتوقف، ولا سيما عندما نأخذ في الاعتبار التخيل السردي ومكوّناتها في تمثل الحياة البدوية البسيطة بمرجعيتها والمركبة بملحميتها، غير أن كل هذا التشاكل الذي قد يبدو تكرارياً معاداً بين نصوص الطيب صالح لا يمنع من تصور استقلالية ذاتية وذاتية مستقلة لكل نص بمفرده على حدة في مواجهة كل (أي) نص آخر. ويتأكد ذلك عندما نتجه شعرياً نحو تركيبة هذا النص أو ذاك بنيوياً وعلى مستوى ما نسميه بنية المحكي، فإذا كان نص ((موسم الهجرة)) يجنح نحو عمودية تصاعدية (عودة مفترضة للسارد،غوص في عالم شخصية مصطفى سعيد، نهاية شبيهة بنهايته في النهر إلى حد التماهي)، فإن نص ((ضو البيت: بندر شاه) ـ مثلاً ـ يخلخل هذه العمودية ويعوضها بتسريد متداخل ومتواتر بين عدة ((أصوات)) سردية تتناوب الحكي والتلفظ بعيداً عن أحادية لسارد الواحد والوحيد إلى حد يتحول معه هذا النص إلى رواية ذات جيوب سردية متعددة ومتراكبة، أو كما يسمى في التحليل البنيوي التقليدي ((التضمين)) الذي تصب فيه مقابل التسلسل في ((موسم الهجرة)) إلى حد ما. وهكذا يتلوّن البناء الشكلي للنص الروائي على يد الطيب صالح ولا يثبت على حال، لكنه في الآن نفسه يؤسس ـ وكان يؤسس دائماً ـ لأفق انفتاح هذا البناء على إمكانات التسريد التي منحها له في البداية ـ منذ ((موسم الهجرة)) ـ رهان الحداثة بالمعنى الوظيفي الذي لم يفقد لنص أصالته الذاتية. فالنص يتنامى تنامياً هيكلياً عضوياً ويعكس إيقاعاً واعياً بالتركيب إلى حد الشعور ـ أثناء قراءة متن الطيب صالح ـ بنوع من التركيب السمفوني الممهود باسترسالية متولدة عن انسجام وتناغم داخليين بحسب التوزيعات والطفرات والوقفات كما يمثل ذلك نص ((موسم الهجرة)) بامتياز، في حين يميل نص ((ضو البيت: بندر شاه)) إلى الصيغة الإنشادية الجماعية وكأنه كونسيرتو موحد بين أصوات متعددة تراوح بين القوة والبطء والتسريع والتوالد، أما نصوص مجموعة ((دومة ود حامد)) فتكاد تكون سونيتات مستقلة.
تقودنا هذه الخصيصة إلى اعتبار شعرية النص الروائي لدى الطيب صالح شعرية إنجازية تترك التجريب جانباً على مستوى البناء وتراهن على دينامية الاغتراف من الموروث الشفوي الشعبي، وكان الأمر يتعلق بسعي ضمني إلى ترسيخ شكل بديل للكتابة الروائية نابع من ضرورة مطابقة هذا الشكل لذاتية الكاتب والقارئ المتلقي على السواء. وبهذا المعنى يكون الطيب صالح قد قدم أجوبته الخاصة عن أحد إشكالات الصنعة الروائية العربية في التجريب والتأصيل وممارسة الكتابة، وخصوصاً عندما نسترجع هذه الإشكالات خلال ما يقارب ثلاثة عقود ونيف منذ استبداد الأشكال الروائية العربية المتداولة، خاصة منها الأشكال الكلاسيكية التي لم تتجاوز حدود الرواية المجتمعة الفطرية أو الرواية الأوتوبيوغرافية أحياناً، بعد نماذج من الرواية التاريخية والإنتوغرافية، إلى جانب نماذج من الرواية الواقعية بمختلف سجلاتها. ويتأكد البديل لهذه الأشكال في تجربة الطيب صالح عندما نقارن بين متنه الروائي ومتون أخرى هيمنت في العقد الخمسيني والعقد الستيني وخلقت ما يشبه تحصيل حاصل في استواء الشكل الروائي وتصلبه، مما يثبت انتماء هذه التجربة إلى لحظة قد نسميها لحظة المخاض الحدائي واعتمال أفق التجريب مع ضرورة الخروج من الانسداد إلى أفق أرحب هو أفق البحث في الذاكرة السردية العربية الإسلامية الموروثة واستجلاب ممكناتها الشفوية والمكتوبة والمروية، وربما يكون الطيب صالح في هذا الباب أحد واضعي حجر الزاوية في حداثة الرواية الغربية المعاصرة كمتخيل وتقنيات وأساليب سردية ولغوية وبلاغية وتوليفات موضوعاتية، بل حتى كشخوص وفضاءات وتشكيلات رمزية في الوصف والتأشير والصوغ المرجعي الثقافي.
(3)
من بين العناصر الشكلية الأخرى التي يمكن في ضوئها قياس شعرية كتابة الطيب صالح عنصر اعتبار الشكل لحظة استيعاب واستقطاب لبنية حكائية نستطيع اعتبارها الأبرز داخل جموع البنيات الأخرى، وهي البنية الحكائية الأسطورية على مستوى البناء والتركيب والتكوّن والنفس السردي. وهكذا يتشيد النص الروائي لدى الطيب صالح وكأنه رغبة وجودية ذاتية وأنطولوجية في تطويع الشكل الروائي وجعله قريباً من ((الخرافة)) و ((الحدوثة)) و ((الأمثولة)) أو ما قد نسميه الإليغوريا التي يتصور فيها الكاتب نفسه ((راوياً)) (أو ((رواية))) والمتلقي مستمعاً في جلسات سمر متتابعة أو مقام قبل أن يكون ـ هذا المتلقي ـ مجرد قارئ نموذجي مستهلك للورق والبياض. من ثم يقوى عنصر الإيهام وإشراك المتلقي في أجواء تمثل العالم المتخيل وكأنه ضرب من ضروب أسطرُته. وهذا ما تؤكده بإلحاح كبير أغلب نصوص الطيب صالح القصصية والروائية، ولا سيما ((موسم الهجرة)) و ((ضو البيت)) و ((عرس الزين))، وهي النصوص التي تحكي عن ((واقع)) ما، بمعنى ما، لكنها تحتفظ لنفسها بسلطة ادخار شحنات أسطورية كامنة في تجاويفها وتجاويف متخيلها المكثف والمركب كأنه طبقات جيولوجية بعيدة الغور والتشكل والإيحاء والترميز.
هناك دائماً في هذه النصوص وقائع تتميز بالغرابة والغموض والعجائبية والغرائبية، ولا شيء يدرك سلفاً وعن طواعية على مستوى الوقائع والأحداث الملغزة التي تجري وكأنها حلقات مسترسلة في سلسلة طويلة من تواريخ عجيبة لا تنتهي، تجسدها الشخصيات والفضاءات، هذه الشخصيات غير مغلقة وإن كانت تبدو مكتملة الملامح والسمات في بعض تفاصيلها وتحمل في ثناياها نهاياتها الحتمية أو المحتومة؛ فمصطفى سعيد مثلاً في ((موسم الهجرة)) يطوح بنا بعيداً، وفي أعقابه سارد يتعقبه كظله وامتداده ويقيس تغريبته، ويجعلنا نحس بملحمية يجسدها بسطاء في عالم أرضي مباشر، ولكنه يتحول ـ عندما نبحث في ما وراء النص والحدث ـ إلى عالم سحري يتحول بدوره إلى دلالة ثانية، أو إلى ما قد نسميه عالماً إليغوريا قائماً على الاستعارة والمجازية بالمعنى الذي نكون فيه إزاء خطاب ذي حدين: حد ظاهر هو ((الحكاية)) التي تروى، وحد باطني خفي هو الحكاية (القناع) التي تظل نيئة وقابلة لعدة تأويلات بعدة درجات لا يمكن أن نكتفي بها بمجاز واحد أو صورة واحدة هي إعلان الصراع بين الشرق والغرب مثلاً، أو التقابل بين هذين الأقنومين على مستوى الذات والمجتمع والدين والجنس والثقافة، بل تنمو داخل هذه الحكاية (القناع) منظمات أخرى لعلّ أقربها إلينا في تصور أولي ذلك الانتظار الذي نحسه داخل كيانات الشخصيات ـ ومنها شخصية مصطفى سعيد ـ سواء بسواء ودون تفضيل، حتى لا تبقى الشخصية الواحدة هي المستبدة بالتأويل والمستحوذة على اهتمامنا وانتباهنا.
شخصيات الطيب صالح في نصوصه شخصيات مركبة وتحمل في دواخلها نقائضها إذ تعلن عن وجه وتخفي وجهاً آخر قد لا تقود القراءة العمودية الخطية إليه بسهولة. وما قد نقوله في هذا الصدد عن مصطفى سعيد يمكن أن نقوله أيضاً عن السارد، وعن ((نساء)) مصطفى سعيد، وعن حسنة بنت محمود؛ فمن كان يصدق تحول هذه الشخصية إلى قاتلة لود الريس؟ بل من كان يصدق أن مصطفى سعيد نفسه، مصطفى سعيد الفتى الطيب المهذّب والمجدّ، سيؤول إلى تلك النهاية المفجعة؟
شخصيات الطيب صالح شخصيات ((تعمل)) و ((تفعل)) بالمعنى الأرسطي، وتقدم لنا حكايتها ثم تنسحب إلى الخفاء، بل إنها تختار مصائرها بنفسها وتتحكم فيه إلى مدى بعيد وإن كانت تعجز عن إكمال دورتها. ومما يفجر مثل هذا التكوين هو ذلك التركيب الكرنفالي المحكوم بالتحول والمفاجأة والشيء ونقيضه مما يخلع على أطروحة النص صفة الجدالية والأخذ والرد. وبقدر ما يتجه الخطاب السردي هذا الاتجاه في أغلب نصوص الطيب صالح ـ خصوصاً ((موسم الهجرة)) و ((ضو البيت)) ـ بقدر ما ينزع أحياناً إلى الكثافة الرمزية على مستوى الرؤية التي تبدو فيه الشخصيات مستقلة عن الكاتب إلى حد الشعور بأن هذه الرؤية غير مكتملة أو ذات احتمالات رؤيوية متعددة وهذا ما يؤكده الملفوظ الروائي على غير صعيد واحد. يقول سارد نص ((ضو البيت)) في هذا المعنى، وكأنه يتحدث بلسان متعال ويترجم بعض نوايا المؤلف دون سقوط في تبعية مباشرة لرؤيته للعالم ودون حياد تام في الوقت نفسه يقول:
((إذا كان الأمر قد بدا لي كما حدثتكم في تلك الرحلة، فلعله يشفع لي أنني لم أتعمد تضليلكم. كان جدي كما ذكرت لكم. وكانت علاقتي بجدي تبدو لي في ذلك الوقت، وبعده بسنوات طويلة، كما ذكرت لكم في تلك الرحلة. ثم وقعت في البلد تلك الواقعة التي لا يحيط بها وصف، لا في رحلة واحدة، ولا في رحلات عدة، ولا حتى في العمر بأسره. فجأة اختل ذلك التناسق في الكون. فإذا نحن بين عشية وضحاها لا ندري من نحن وما هو موضعنا في الزمان والمكان، وقد خيل لنا يومها أن ما وقع وقع في الزمان والمكان، وقد خيل لنا يومها أن ما وقع وقع فجأة، ثم تكشف لنا رويداً رويداً ونحن في ذلك الخضم المتلاطم بين الشك واليقين أن ما حدث كان مثل سقف البيت حين يسقط. لا يكون قد سقط فجأة، ولكنه يظل يسقط منذ أن يوضع في محله أول مرة)).
يجسد هذا المقطع السردي الصغير ويختزل جملة من قيم الكتابة والتخيل التي سعى الطيب صالح دائماً في تجربته إلى الأخذ بيدها وجعلها تتقدم متفاعلة فيما بينها لتمنح المتلقي (القارئ) سلطته وقدرته على الإسهام في إنتاج المعنى الذي يريده والدلالات التي يراهن عليها، ومن ذلك القيم الرمزية التي ألمحنا إليها قبل قليل في تصور طبيعة الحكاية ومستوياتها البسيطة والمركبة التي تكتفي بتشكيل العالم المتخيل دون استبداد من لدنه ككاتب ومنتج للنص بالمعنى المادي المباشر، وبما أن الأمر كان يتعلق باستمرار برهان الكتابة وتجريبيتها، فإن الطيب صالح يحتفظ بنصيب وافر من تقديم عالِمَ نصوصه السردي في شكل بنية حكائية أسطورية بعدة ((شكلية)) و ((تيمية)) منسجمة مع الكثافة الأليغورية التي يبنيها ويتركها مفتوحة للتأويل.
من ثم نتحدث عن بوليفونية النص لدى الطيب صالح وتوزعها على الأقل بين صوتين أو ثلاثة أصوات يذوب فيها صوت المؤلف ويغدو وجهة نظر من ضمن وجهات النظر الواردة.
أما على المستوى الشكلي، فها نحن نلاحظ ـ انطلاقاً من المقطع السردي الوارد أعلاه ـ مدى قوة الزخم الأليغوري الذي يجعل هذه الحكاية ويجعل الملفوظ السردي ضمنياً يتجاوزان تخوم النص ويحولان عزلته وانغلاقه إلى حلبة تتقاطع فيها الأبعاد الإنسانية والثقافية والوجودية التي لا تسجن نفسها في رؤية مونولوجية تجاه العالم المعروض على لسان السارد كما جرت العادة بالنسبة إلى الرواية العربية في مجمل نماذجها وأشكالها وأنماطها المتداولة عندما تسقط في شرك التعبير السردي بإلحاح كبير على الرؤية الواحدة، رؤية المؤلف ـ الكاتب وحده بمعزل عن العالم وعن الذوات المحلقة فيه.
هكذا إذن تتميز تجربة الطيب صالح بنوع من الفرادة الروائية السردية التي دشنها في (موسم الهجرة) في وقت كانت فيه الرواية العربية المعاصرة عموماً تتجه صوب الواقعية المنغلقة على العالم المحيط بها، ولم يكن منتظراً من كاتب يعيش خارج مدارات التمركز الروائي في مصر والشام أن يحدث كل الرجة التي نحياها ونحن نقرأ ونقرأ نصوصه ونكتشف جزراً وعلامات جغرافية سرية أخرى.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2628  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 62 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج