كلمة الأستاذ الطيب صالح |
وبدأ الطيب صالح قائلاً: |
بسم الله الرحمن الرحيم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد. |
فأنتم تعلمون بأن أشقاءنا المصريين (أحمد عباس صالح أظنه موجود.. وأحمد عباس صالح من أساتذتي).. |
إخواننا المصريون في الوجه البحري يؤلفون نكتاً وقصصاً على أهل الجنوب من صعايدة وسودانيين. فأحياناً يقولون إن الصعايده اشتروا التورماي، ومرات يقولون إن السودانيين هم اللي اشتروا التورماي. بعد هذه الورطة فإنني أعتقد أن السودانيين هم الذين اشتروا التورماي. |
أقول لكم كيف حصل هذا.. الأخ الوزير السفير الشاعر الدكتور غازي القصيبي رجل أنا معجب به منذ زمن، حقيقة إنني لا أطارحه ثناء بثناء.. وقد قابلته كثيراً، قابلته مرة في الدوحة وهو وزير مع ملك، وكنت من عامة الناس، وسلمت عليه وسلم علي بأحسن منها انتهت الحكاية يعني. فماذا تتوقع من وزير مع ملك وواحد من عامة الناس، ثم تحادثنا بالتليفون وهو سفير في البحرين، وتفضل وارسل لي ديوانه الجميل (العودة إلى الأماكن القديمة) وهو ديوان حقيقة أنا أحبه جداً، ولما جئت إلى لندن قال لي الأخ عثمان العمير المحرر الشاب الديناميكي في صحيفة الشرق الأوسط: إن الدكتور غازي يسأل عنك. فاتصلت بالدكتور غازي، وذهبت إليه في سفارته الجميلة وهي بناء جميل في ميدان ارستقراطي اسمه على ما أعتقد (كيرزون) ودخلت فوجدته رجلاً متواضعاً ولطيفاً ولكن هؤلاء القوم الوزراء والسفراء مهما تواضعوا فهم سفراء ووزراء، وأجلسني وجلس بجواري وسقاني القهوة وتحدث معي بطريقته الطلية الجميلة الجذابة وباعني فكرة أنني أتحدث عن المتنبي ولأنني سوداني فما لنا ومال المتنبي؟ فهذا المتنبي شاعر حواضر العربية، شاعر بغداد ودمشق والفسطاط، ونحن (محدوفين) في أطراف العالم العربي لمدة طويلة.. عملنا ممالك ودول وثورات وانقلابات ولا أحد سمع بنا.. أنا أولاً كما تفضل الدكتور الصبيحي والدكتور غازي كتبت كلمتين، والذي كتبته لم يستقر بعد في عقول الناس.. فأنا لي رواية اسمها (الهجرة إلى الشمال) فأقابل ناساً يقولون لي: والله يا أخي طيور الجنوب رواية جميلة جداً. وآخر يقول لي: (والله يا أخي موسم الفرح جميلة جداً. وأنا أسمي إلى الآن ليس بمستقر في عقول الناس، بعضهم يسموني الطيب صالح.. وآخرون يعدّلون صالح أبو الطيب. وزميل لنا في الإذاعة البريطانية قابلني وكان كتب عني مقالة في المصور فقال لي: أنت صالح أبو الطيب؟ قلت له: لا يا أخي، أنا الطيب صالح. وقلت له: لماذا. ليش.. قال لي والله قرأت مقالة عن واحد اسمه صالح أبو الطيب، قلت له: لا أنا الطيب صالح. وحتى في السودان يغلطون في اسمي، فمرة ركبت طائرة مع أخ سوداني من فرانكفورت إلى الخرطوم، والأخ كنت قد قابلته عدة مرات في الخرطوم وأعرفه تماماً، وطول الرحلة كان يقول لي: والله تعرف يا عبد الله، أنت شعرك عظيم خالص إيه كتبت آخر حاجه؟.. وهذا يذكرني بصديق موريتاني أحبه جداً رحمه الله.. حالي مع المتنبي مثل حاله، اسمه عبد الله ولد أربي، هذا الرجل كان من العلماء في اللغة، أهل موريتانيا كلهم يحفظوا الشعر العربي أما هذا كان من الحفاظ وكان أول سفير لموريتانيا في القاهرة في عهد جمال عبد الناصر. والموريتانيون مثل السودانيين طيبون وعلى درجة كبيرة من العفوية والبساطة وكان رجل بسيطاً، ركب القطار من القاهرة إلى الصعيد وهو لابس اللبس الموريتاني، فقابل مصرياً جلس بجواره في القطار، قال له: والله يا أخي أنت بتتكلم عربي كويس جداً، أنت اتعلمت العربي فين؟ قال له: درست اللغة العربية في مدرسة ليلية. بعد ذلك سأله: إنت ايش بتشتغل؟ قال له: أنا باشتغل طباخ عند سفير غانا، بعد شوية قال له: طيب يا أخي قللي شويه من شعر المتنبي قال له عبد الله يا سيدي هل سمعت عن طباخ يحفظ شعر المتنبي؟ أنا حالي كهذا. يتردد عنا نحن السودانيين بأننا في الغالب نعمل طباخين وبوابين. والواقع أن إخواننا اللبنانيين طباخون أكثر منا، ولكن الطباخ اللبناني اسمه (شيف) من طباخ، والبواب المصري يبقى (كونسيج). |
فعلى أي حال نأتي الآن إلى حكاية المتنبي، فنحن في السودان لسنا على علاقة به إطلاقاً اللهم إلا في أمر واحد وهو أنه حين خرج هارباً من كافور، ولا أقول هارباً من مصر، ركب ناقة سودانية. وقد قال في قصيدته الجميلة التي مطلعها: |
وكل نجاة بجاوية |
خنوف وما بي حسن المشى |
|
(بجاويه) هذه تخصنا نحن السودانيين وتجدونها في الدواوين مكتوبة (بوجاويه)، هي في الأصل بجاويه.. فهناك قبائل في شرق السودان اسمها قبائل البجا أو البجة. ولهم جمال اسمها (البشارية) فالمتنبي خرج بناقة سودانية من مصر وأحياناً ينسبون كافوراً إلينا، وفي النهاية القضية هي الشعر، قال المتنبي: |
وكل نجاة بجاوية |
خنوف وما بي حسن المشي |
ولكنهن حبال الحياة |
وكيد العبيد وميط الأذى |
ضربت بها التيه ضرب الخما |
ر أما لهذا وأما لذا |
إذا فزعت قدمتها الجيا |
د وبيض السيوف سمة القنى |
فمرت بنخل وفي ركبها |
عن العالمين وعنه غنى |
وأضحت بخيرنا بالنقا |
ب وادي المياه ووادي القرى |
قلنا لها أين أرض العراق |
فقالت ونحن بقربان ها |
|
هذه القصيدة المهم فيها إنها تحتوي في رأيي على أمرّ هجاء قاله المتنبي في كافور المسكين.. وقد تناولت هذه القضية منذ البداية حتى أخلص منها أي حكاية كافور هذه. |
المتنبي في هذه القصيدة التي خرج بها من مصر بعد أن وصف معاناته بالليل؛ ومعاناة المتنبي كما نعلم ليست سيراً من مكان إلى آخر: قال: |
فلما انخنا ركزنا الرماح بين مكارمنا والعلا |
وبتنا نقبل أسيافنا ونمسحها من دمار العدا |
لتعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم إني الفتى |
وإني وفيت وإني أبيت وإني عتوت على من عتا |
وما كل من قال قولاً أتى وما كل من سيم خسفاً أبا |
ومن يك قلب كقلبي له يشق إلى العز قلب التوا |
|
أما أستاذنا العميد الدكتور طه حسين رحمه الله فقد وجد في ما ظنه تذبذب المتنبي في مدح كافور وسيف الدولة وابن العميد، وجد فيه حجة بأن يرفض المتنبي كله قلباً وقالباً جملة وتفصيلاً، ومن ضمن ما قاله في كتابه (مع المتنبي)، قال: ((ظن نفسه حراً ولم يكن إلا عبداً، عبداً للمال، وظن نفسه أبياً، ولم يكن إلا ذليلاً للسلطان، وظن نفسه صاحب رأي ومذهب ولم يكن إلا صاحب تهالك على المنافع العاجلة التي كان يتهالك عليها أيسر الناس أمراً وأهونهم شأناً)). هكذا كان المتنبي في نظر أستاذنا الجليل عميد الأدب العربي وهو رجل عظيم ومحترم، ولكل جواد كبوة كما يقولون. |
القضية أن الدكتور طه حسين دخل إلى المتنبي عن كره وقال لنا منذ البداية: إنه لا يحب هذا الشاعر. ولا يوجد شيء، في رأيي المتواضع، ولا توجد عاطفة تعمي الناقد عن حقيقة المبدع مثل الكراهية. (فإن لم يكن يحبه فليتركه) لأنه كتب عن أبي العلاء المعري قبل أن يكتب عن المتنبي يمكن بحوالي 16 سنة، وأحب أبا العلاء المعري وأطنب في مدحه. ولما جاء للمتنبي كرهه. طيب يا أخي إذا كان أبو العلاء، كما نعلم، كان يعشق المتنبي وكان يهيم به حباً وكان متأثراً به، فكيف تحب محب المتنبي ولا تحب المتنبي؟ هذا لا يجوز. |
أبو العلاء في (رسالة الغفران) يدافع عن المتنبي حيث قال: |
((وما زال الناس يقولون ويقصرون عن المكرمة فلا يطولون وإنهم عما أذل متثاقلون)). |
وطلاب الأدب في جباله واقلون (أي صاعدون) |
من انفرد بفضيلة أثيرة فإنه يتقدم بمناقبة كثيرة في قضية مدح كافور حلها أبو البقاء العكبري حيث يقول: ((إنه سأل شيخه أبا الحرم مكي ابن ريان الماكسي وكان قد قرأ عليه الديوان، لماذا نجد شعر المتنبي في مدح كافور أجود من مدحه في عضد الدولة وأبي الفضل بن العميد؟.. فقال له الماكسي: كان المتنبي يعمل الشعر للناس لا للممدوح، وكان أبو الفضل ابن العميد وعضد الدولة في بلاد خالية من الفضلاء، وكان بمصر جماعة من الفضلاء والشعراء، فكان يعمل الشعر لأجلهم وكذلك عند سيف الدولة ابن حمدان كان يعمل الشعر لأجلهم ولا يبالي بالممدوح)). |
فالقضية الكبيرة فيما أرى ليس كونه مدح كافوراً ولا مدح فلاناً أو علاناً، فإن المشكلة الكبيرة هي علاقته بالملوك والحكام والأمراء. ويستغرب المرء: لماذا كان المتنبي مشغولاً بالملوك؟ فشعراء العرب كانوا كما يتضح مقسمين إلى ثلاثة أو أربعة أقسام: القسم الكبير منهم يمدح الملوك ويبتعد عنهم، والمتنبي من هذا القسم. وتصبحون علي خير. |
وفي نهاية السهرة تكلم الدكتور غازي القصيبي فشكر الأستاذ الطيب صالح باسم الحضور وباسمه وكانت أمسية متميزة.. بكل المقاييس. |
|