العلاقة التاريخية بين مصر القديمة والجزيرة العربية |
د. أحمد عثمان |
ملخص المحاضرة التي ألقاها الباحث المصري د. أحمد عثمان بمركز الإعلام السعودي في لندن يوم الثلاثاء 29 ذي القعدة (الموافق 10 مايو 1994) برعاية سفير خادم الحرمين الشريفين في بريطانيا معالي د. غازي عبد الرحمن القصيبي. |
أظهرت الاكتشافات الأثرية الأخيرة في كل من مصر والجزيرة العربية أن العلاقة بين مصر القديمة وبين شعوب الجزيرة العربية كانت علاقة وثيقة منذ بداية العصور التاريخية حوالي 3200 عام قبل الميلاد. والمعروف أن عصور ما قبل التاريخ في مصر القديمة قد انتهت في تلك الحقبة عندما تم اختراع الكتابة الهيروغليفية، في الوقت نفسه الذي تمت فيه ((وحدة الأرضين)) في عهد الملك مينا. |
وهناك دلائل عديدة تشير إلى أنه ـ منذ أقدم العصور ـ كانت هناك علاقة تجارية بين مصر وسكان شمالي وجنوبي وغربي الجزيرة العربية. كما تبين من نتائج الحفريات التي تمت مؤخراً في مناطق عديدة من المملكة العربية السعودية ـ والتي سبق أن تحدث عنها الدكتور الأنصاري في لندن قبل بضعة شهور ـ وجود بقايا مصرية أو ذات طابع مصري سواء في المناطق الشمالية من المملكة أو في منطقة الفاو التي تقع في قلب الجزيرة العربية. ولكن الاكتشافات الحديثة لبقايا عصور ما قبل التاريخ قد أظهرت حقائق جديدة لم نكن نعرفها من قبل عندما أكدت اشتراك بعض القبائل العربية في تكوين الاتحاد المصري منذ بداية التاريخ. |
وكان الباحثون منذ القرن الماضي قد احتاروا في تفسير ما ورد من ذكر قبائل مدين على أنها كانت موجودة داخل شبه جزيرة سيناء ـ كما جاء في قصة موسى سواء في القرآن أو في التوراة، بينما تدلنا مصادر تاريخية عديدة على وجود قبائل مدين في شمال غربي الجزيرة العربية، خارج سيناء شرقي خليج العقبة. كما وأن هناك بعض المصادر التوراتية التي تتحدث عن مدين باعتبارها تعيش في ((مصرايم))، مما حدا ببعض الباحثين الألمان إلى القول بأن المقصود بمصرايم هذه التي خرج منها بنو إسرائيل، ليست ((مصر)) ولكن المنطقة الواقعة غربي الجزيرة العربية، وهو الرأي الذي تبناه مؤخراً الباحث اللبناني كمال صليبي. |
ولكن الاكتشافات الأثرية الحديثة قد جاءت لتحل هذا اللغز وتبين لنا معناه الحقيقي. فلقد أظهرت الحفريات التي قامت بها بعثة الآثار المصرية في سيناء في العام الماضي، وجود بقايا مدينة قديمة عند منطقة الإسماعيلية، يرجع تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ، أي إلى الوقت الذي كانت فيه مصر لا تزال تعتبر أرضين مختلفتين لم يتم اتحادهما بعد. كما عثر مؤخراً على ست قرى وكهف أثري تحت رمال جبل ((شعيرة)) برأس النقب بسيناء يعود إلى 15 ألف سنة قبل التاريخ. وكان الأثريون الإسرائيليون قد قاموا بعمليات حفر أثري في معظم أجزاء سيناء في الفترة التي وقعت فيها تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب حزيران (يونيو) 1967، وكشفوا عن وجود العديد من المدن القديمة التي يرجع تاريخها إلى فترة ما قبل التاريخ في العديد من المناطق. وهكذا تبين لنا أن منطقة سيناء كانت تسكنها أقوام ذات حضارة متقدمة يعرفون الرعي والزراعة منذ فترة ما قبل اتحاد الأرضين في مصر. |
وبينما تم العثور على العديد من البقايا الأثرية التي ترجع إلى الحقبة نفسها من حقب ما قبل التاريخ في صعيد مصر، من أسوان إلى منخفض الفيوم، فإنه ـ بخلاف منطقة ((بوتو)) الواقعة شمال غربي مدينة طنطا ـ لم يتم العثور على مستوطنات في الدلتا ترجع إلى فترة ما قبل التاريخ، بل إن معظم المدن التي تم بناؤها في الدلتا لم تبدأ منذ الألف الثانية قبل الميلاد، أي بعد ألف سنة على الأقل بعد وحدة الأرضين. والسبب في ذلك هو أن الدلتا ـ التي تكوّنت كل أرضها من طمي النيل حيث كانت جزءاً من البحر قبل ذلك ـ كانت لا تزال مكوّنة من أرض طينية رخوة ومستنقعات وأحراش في تلك الفترة. |
وهكذا فإن الاعتقاد السابق بأن ((وحدة الأرضين)) كانت تعني وحدة الصعيد مع الدلتا، أصبح غير مقبول الآن حيث إن الدلتا لم يكن بها أي مدن في تلك الحقبة لتتحد مع الصعيد. هذا في الوقت نفسه الذي تؤكد لنا كل الدلائل على أن شبه جزيرة سيناء أصبحت جزءاً من الوحدة المصرية منذ بداية التاريخ في عصر الملك مينا، وهي كما رأينا كانت تحتوي على العديد من المدن في الشمال والجنوب والشرق والغرب. |
والاستنتاج الطبيعي في هذه الحالة هو أن ((وحدة الأرضين)) التي يتحدث عنها المصريون، لا بد وأنها كانت تعني وحدة وادي النيل ـ من البحر الأبيض إلى أسوان ـ مع سيناء، خاصة وأن المصريين أنفسهم كانوا يطلقون على الأرضين اسم ((كميت)) وهي الأرض السوداء الخصبة واسم ((تشرت)) وهي الأرض الصحراوية الحمراء. |
وهناك ما يدل على أن القبائل التي كانت تسكن سيناء في تلك الحقبة ـ لم تكن قبائل عربية جاءت من شمال الجزيرة العربية فحسب ـ بل إنها كانت تسكن على جانبي خليج العقبة، داخل سيناء وخارجها، وهذا هو السر في أن أرض مدين التي كانت تعتبر جزءاً من مصر كانت في الوقت نفسه تعتبر جزءاً من غربي الجزيرة العربية. ومما يؤكد هذا ما تم العثور عليه من أشكال للأسد محفورة على الصخور وفي مداخل الكهوف في شمال الجزيرة العربية، ويبدو أن الأسد كان يعتبر بمثابة شعار (طوطم) لقبائل شمال الجزيرة العربية، ونحن نعرف عن قبائل بني الأسد، كما وردت العديد من أسماء وصفات هذا الحيوان في الأشعار العربية القديمة. |
ونحن نجد أن الأسد كان كذلك رمزاً لشبه جزيرة سيناء ـ كما ورد في العديد من الكتابات المصرية القديمة ـ وكان المصريون يطلقون عليه اسم ((عر))، وقد يكون هذا هو أصل كلمة ((عرب)) والتي قد تعني ((بني أسد)) في اللغة المصرية القديمة. |
ثم أننا نجد أن الرمز الذي أقامه المصريون القدماء لوحدتهم كان هو أبو الهول الذي يتكوّن من جسد الأسد ورأس الملك، وما كان الأسد رمزاً لأي من المدن المصرية القديمة إلاّ في سيناء. ويؤكد لنا الاسم الذي أطلقه المصريون على (أبو الهول) هذا المعنى، فهم قد أسموه ((شيس با عنج)) أي ((شيس الحي)) وكانت شيس هي الكلمة التي يطلقونها على مواطني سيناء. |
كل هذا يشير إلى أن وحدة الأرضين التي منهما تكوّنت مصر ـ لم تكن هي وحدة الصعيد مع الدلتا كما ساد الاعتقاد ـ وإنما بين وادي النيل وسيناء، وإن أهل سيناء الذين قدموا من شمال الجزيرة العربية أصبحوا جزءاً من الشعب المصري منذ بداية التاريخ. |
|