شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة فضيلة الشيخ الدكتور سلمان العودة))
إن الحمد لله ونستغفره ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلّي ونسلّم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرة خلقه، سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وشكر الله لصاحب السعادة الأستاذ عبد المقصود خوجه على هذه الدعوة المباركة وعلى هذا التكريم الذي ليس هو بغريب على أخلاقه الجميلة وعلى اهتماماته الواسعة بالعلم والأدب والثقافة ولقد رأيت من مطبوعات هذه الاثنينية وإنتاجها ما يبهج ويدهش فجزاه الله خيراً وجزاكم الله جميعاً خيراً على حضوركم.
أحبتي الكرام: لعل من جميل المصادفة أن يكون الموضوع الذي أحببت أن أشير إلى طرف منه في هذا اللقاء موضوعاً يتعلق بالحوار وفي طريقي إليكم صارحت نفسي وقلت إني أتحدث عن هذا الموضوع منذ زمن بعيد فأول محاضرة ألقيتها في أدب الحوار كانت عام 1410 تقريباً أي قبل أكثر من ستة عشر عاماً، فقلت لنفسي هذه المواعظ التي ألقيها للناس وهذه الدروس والآداب الجميلة التي نتحدث عنها من إشراقات الكتاب والسنَّة أين نحن منها؟ ربما الكثيرون يتحدثون نظرياً في خطبة أو محاضرة أو كلمة أو جلسة عن أدب الحوار أو عن الأخلاق الفاضلة لكن السؤال المفترض أن يطرح نفسه علينا ما مدى تحقيقنا عملياً لهذا الكلام الجميل الذي نتحدث عنه؟ بالتأكيد نحن في حاجة إلى من يُجلي لنا أصول وضوابط الحوار، لكننا أشد حاجة إلى من يقدم لنا نماذج عملية واقعية وقدوة وتجربة ومشاهدة لهذه الآداب، وقد يتحدث أحدنا عن الحوار الموضوعي وعن الهدوء وعن الصبر وعن الحلم ولكن بمجرد ما يوجد مثير أو محفز أو موقف يستفز أعصابه فإن هذا الإنسان قد ينسى الكثير مما يقول وأعتقد أن واقعنا اليوم مليء بالمحفزات وعوامل الاستفزاز ولعلي أيضاً أتذكر بهذه المناسبة الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ الذي كان علماً من علماء الدعوة ومصباحاً من مصابيح الهدى وكان عنده حرقة واضحة في قلبه ولسانه ولغته على واقع هذه الأمة وتطلع للإصلاح، ويبدو لي أن الشيخ ـ رحمه الله ـ كان من حوله من المتلقين والموافقين والمخالفين من قد يقع له منهم بعض الاستفزاز، وربما كان في طبع الشيخ بعض الشدة فكنت تجد أحياناً في بعض كلماته الجميلة أنه قد يستدني نواصي بعض هؤلاء، كوسيلة إيضاح وقد يغلظ عليهم في القول مما يجعل ثمة نوعاً من الجفوة أو البعد عن الاستفادة والانتفاع بهذا العلم، وهذا الكلام قريب منه قيل عن الإمام ابن تيمية رحمه الله، كما نقل غير واحد من الذين كتبوا عن ابن تيمية وأشاروا إلى أنه كان بحراً في علمه وغزارته وتمكنه ولكن كان في طبعه حدة وهذا ما يميز شخصية كشخصية الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في درسه وكتبه ومعالجاته.
أقول إننا في أمسّ الحاجة إلى تطبيقات ونماذج عملية لموضوع الحوار، وقد أحببت ألا أكثر من تكرار الآداب والضوابط والأصول المتفق عليها وأن أقف عند بعض الدلالات وبعض المعاني القرآنية، فثمة مجموعة من الحقائق قد تكون نحواً من ست أحاول أن أمرّ عليها بسرعة ولا أطيل. أولاً: الحقيقة الأولى المهمة في موضوع الحوار، أن الاختلاف واقع لا مفر منه وقدر نافذ لا مندوحة عنه، والنصوص في هذا كثيرة جداً، ويكفي منها قوله سبحانه: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ (هود: 118 ـ 119) فذكر الله تعالى اختلاف الناس وأن هذا هو المصير وهذه هي العاقبة التي يكونون إليها أن يختلفوا لأن الله تعالى خلق فيهم آلية تجعلهم مختلفين، وهي اختلاف عقولهم وألسنتهم وألوانهم وأذواقهم ومشاعرهم ونظراتهم ومفاهيمهم وبالتالي ينتج الاختلاف لا محال، وهذا سر من أسرار الصنعة الربانية.
الإنسان يختلف حتى مع نفسه.. فأنت أمس غيرك اليوم، وأنت غداً شيء آخر مختلف، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو المعزز بالوحي كان يقول: إني والله لا أقسم على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفَّرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ولعلي أشير في هذه النقطة إلى مسألة مهمة جداً وهي أن أطروحات الصحوة الإسلامية في فترة من الفترات فيما أعلم لم تكن أطروحات متطرفة ولا غالية ولا إقصائية بل ربما هي التي تعرضت لقدر من الإقصاء وقدر من الإبعاد وقد يكون فيما يُطرح أمس أو فيما يُطرح اليوم آراء واجتهادات قابلة للخطأ والصواب ويُفترض أن نُراجعها بمعنى أنه ليس أشد بؤساً على الإنسان من أن يظن في أي فترة من الفترات أنه وصل وانتهى، بينما الله سبحانه وتعالى يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر: 99)، فيفترض أن يكون الإنسان في تدرُّج وترّقٍّ وبحث دائم ودؤوب لا يظن مهما تقدم به العمر واتسعت له المعارف وزادت تجربته أنه قد وصل إلى مستوى يقول هاهنا مستقر قدمي، وإنما هو يطمح إلى مزيد من التحصيل والمعرفة والعلم والتصحيح وإذا كان الإنسان مطلوباً منه أن يقبل ما يصحح له الآخرون حتى لو كانوا أقل قدراً منه وأن يأخذ الحكمة من كل أحد فأولى وأفضل وأخلص وأصدق من تقبل منه الحكمة والتصحيح والنصيحة هو أنت ذاتك، ولهذا الحوار مع النفس هو من أوضح جوانب الاختلاف الذي جُبِل عليه الناس، أن يختلف الإنسان مع نفسه فهذا أمر عجيب، ليس فقط بين الأمس واليوم، بل في اللحظة الواحدة يكون عند الإنسان أكثر من خيار ويكون عند الإنسان أحياناً تردد وقد يقول لك قلبك شيئاً ويقول لك عقلك شيئاً آخر، إذاً الاختلاف جبلة وطبيعة.
رأينا الاختلاف بين الملائكة وهم المنزهون عن الهوى، وهكذا تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كما في الحديث المتفق عليه، وبين الأنبياء كما اختلف موسى وهارون، وموسى والخضر، وسليمان وداوود ومحمد صلى الله عليه وسلم مع موسى وغيره كما في حديث الإسراء والمعراج، والصحابة كما في قصة بني قريظة والعلماء والأئمة إذاً يجب أن نخرج من هذا السرد بنتيجة مهمة وهي أن الاختلاف أمر قدري لا مفر منه بحال من الأحوال.
بعض المتحمسين أحياناً يريدون من الناس أن يتبعوهم وأن يكونوا معهم، بينما لا يمكن أن يكون هذا، لأن الناس لم يتفقوا على رسل الله وأنبيائه حتى أصحابهم رضي الله عنهم اختلفوا وتنازعوا حتى بحضرة الأنبياء وفي حياتهم، إذاً فكرة أن ننادي نحن أحياناً بالوحدة والتقارب ونحن نقصد أن يتقارب الناس وأن يتحدوا على رأيي وعلى اقتناعي وعلى اجتهادي فهذا أمر متعذر، وإنما يمكن أن يجتمع الناس على محكمات الشريعة وعلى قواعدها الكلية وعلى مسلماتها وضرورياتها التي اتفق عليها سلفاً هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، أما مجرد أن يكون دليلي فيما أقول وفيما أذهب إليه هو الحماس، فهذا الحماس قد يكون حماساً بحق وقد يكون نوعاً من تلبس الهوى والتعصب للرأي الذي يدرك الإنسان أنه قبل غيره مطالب بمراجعته وتحقيقه. إذاً الحقيقة الأولى والمهمة في موضوع الحوار أن الاختلاف بين الناس أمر فطري وطبيعي.
الحقيقة الثانية: وممكن أن أعبّر عنها بمسألة الموقف من الآخر، وأود أن أقول إن كلمة الآخر كلمة لغوية مطلقة وفضفاضة ليست محددة من المقصود بالآخر؟ قد يكون الآخر هو المختلف معك دينياً، وقد يكون مختلفاً معك حضارياً وثقافياً، وقد يكون هو المختلف معك طائفياً، وقد يكون المختلف معك مذهبياً أو سياسياً، إذاً كلمة الآخر ليس لها تحديد دقيق، فهي ليست مصطلحاً دقيقاً يمكن أن نحدد من المقصود بالآخر. ولكن أصبح يطلق هذا كثيراً على المخالف لنا في المبدأ والحضارة والثقافة والمنهج والدين فنقول الآخر ونقصد به مثلاً الحضارات والأمم الأخرى غير الأمة الإسلامية.
وهنا الموقف من الآخر يحتمل كلمة أستخدمها كثيراً وأسمعها أيضاً وهي كلمة الاعتراف بالآخر، هل الإسلام يعترف بالآخر؟ نعم الإسلام يعترف بالآخر، ولكن ما معنى الاعتراف؟ الاعتراف لا يعني أن الإسلام أو أن المسلم يقول إن الآخر هو على حق أيضاً، لأن هذا لو كان لكان تناقضاً، فأنا حين أعتقد أن دين الإسلام هو الدين الحق بطبيعة الحال لا يمكن أن أتصور أن ما يناقض هذا الدين هو حق أيضاً، إذا الاعتراف بالآخر لا يعني الاعتراف بأن الآخر هو على حق في أصول القضايا التي أخالفه فيها، نعم قد يكون على حق في جوانب من معالجات أمور الحياة والمعرفة والعلم والتقنية وغير ذلك لكن المقصود في أصول المبادئ والهِدايات الربانية، لا إنما الاعتراف يعني الإقرار بوجود الآخر وهنا تجد أيضاً في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (يوسف: 103)، وآيات كثيرة جداً في هذا السياق قد يقول البعض إذاً أنتم فقط تقررون أمراً واقعاً أو هو تحصيل حاصل، إنكم تقولون الآخر موجود، الكل يعرفون أنه موجود، فأقول لا الأمر أبعد من ذلك، الإسلام لا يعترف فقط بوجود قابل للزوال أو قابل للانتهاء، الإسلام يعترف لهؤلاء بوجود مستمر حتى إلى قيام الساعة، ولهذا نجد الآيات القرآنية الكثيرة التي تؤكد بقاء الاختلاف بين الناس، بل الأحاديث النبوية الصريحة الصحيحة التي تؤكد أن حتى الشرك وحتى الكفر بالله عز وجل باقٍ إلى قيام الساعة وأنه لا يزال موجوداً في الناس، إذاً هي قضية باقية ومستمرة، إذاً ما فائدة هذا الاعتراف؟ فائدته أنه يخفض ويسكِّن من ثورة الغضب ومن نزعة الاستئصال والإقصاء التي قد تجدها عند كثير من الديانات والمذاهب، الشيوعية مثلاً كانت تعد الناس بجنة موعودة تسيطر فيها وتهيمن على الدنيا كلها، والرأسمالية أيضاً نحن نجد في بعض أطروحات المفكرين كما في كتاب ((نهاية التاريخ)) لفوكوياما الذي يتحدث على أن الديمقراطية بنمطها الغربي هي تشكل نهاية التاريخ، وهذه النظريات أو المذاهب من شأنها أن تخلق عند الإنسان الذي يؤمن بها نزعة استئصالية أو إقصائية أو عدم الاعتراف بالآخر، لأنهم يعتبرون أن وجوده وجود عابر ووجود مؤقت، بينما عندنا في الإسلام قضايا مسلَّمة منها أن الله سبحانه وتعالى أذِن ببقاء هذه المذاهب وهذه الديانات وهذه الاتجاهات وهذا الاختلاف حتى إلى قيام الساعة بل هي في تنامِ وفي ازدياد. وهنا تجد أن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله في حسم وضبط قضية التعامل مع الآخر يقول: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ (الممتحنة: 8) فيأمرنا الله سبحانه وتعالى بأمرين البر والإقساط، ويعزز ذلك بقوله أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة: 8)، فيبين الله عز وجل أن المطلوب مع المخالفين لنا في الدين ممن لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا هو أن نبرَّهم وأن نقسط إليهم، وإذا كان القسط يعني العدل فإن البر يعني الفضل والإحسان، وهنا أقرن هذه الآية الكريمة بآية أخرى في كتاب الله عز وجل وهي قوله سبحانه يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ.. (الحجرات: 13) لم يقل لتعاركوا أو لتحاربوا وإنما قال: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13)، وآية ثالثة يقول الله سبحانه وتعالى فيها: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (المائدة: 8) فيأمر الله تعالى بالعدل مع الأعداء المخالفين ويأمر بذلك ويجيبه ويقول سبحانه وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (المائدة: 2) فيأمر الله عز وجل على التعاون على البر والتقوى وهذا أمر عام بمعنى أن التعاون مع كل الناس الذين يمكن أن نتعاون معهم فيما فيه مصلحة للبشرية كما في الآية التالية: أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ (الممتحنة: 8) البر هنا مطلوب، والآية الأخرى وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى (المائدة: 2) إذاً الإسلام دين لم يجعل علاقته مع المخالفين له قائمة على أساس المفاصلة المطلقة والحرب والقتل وإنما جعل أنماطاً وصيغاً وأساليب كثيرة جداً للتعامل.
الحقيقة الثالثة: من حقائق القرآن المجادلة بالحكمة، والحوار هو أحد المفردات القريبة من مفهوم المجادلة وقد استعرضت الآيات الكريمة الواردة في القرآن في هذا الموضوع فوجدت آيات تتحدث عن المخاصمة والخصومة، والخصام وآيات تتحدث عن المجادلة، وآيات تتحدث عن الحوار، وآيات تتحدث عن المحاجّة وكل هذه الآيات متقاربة، وأكثرها استعمالاً هو لفظ الجدل في التاريخ الإسلامي والفقه والمناظرة أيضاً ومع ذلك هذا اللفظ لم يرد في القرآن الكريم إلا في مقام الذم إلا أن يكون مقروناً بصفة مثل أن يقول: وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: 125) وإلا فإنه في الغالب في مقام الذم، وذلك إشارة إلى غلبة الانتصار للرأي على كثير من المتجادلين، وارتفاع الأصوات وغياب روح البحث عن الحق والتجرد والإنصاف والتحري، وجدت أن كلمة الحوار وإن لم ترد في القرآن بهذه الصيغة إلا أنها وردت في أكثر من موضع: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ (الكهف: 34) والموضع الثاني في قوله سبحانه: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا (المجادلة: 1) إذاً هو لفظ قرآني وهو لفظ الحوار جميل من حيث حروفه ففيه الحاء والواو والراء وهي ألفاظ جميلة وحروف جميلة ليس فيها شِدة ولا ثِقَل على اللسان، زِد على ذلك أن الحوَر لون جميل، وكثيراً ما تغنى به الشعراء والحور العين هو صفة نساء الجنة، لفظ الحوار يدل على معانٍ كثيرة تجعلنا نرشحه من بين الألفاظ الأخرى المرادفة له لهذا المعنى أو المفهوم، أولاً من ألفاظ أو دلالات الحوار أن الحوار يدل على الرجوع ولهذا نقول حار فلان: أي رجع، إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (الانشقاق: 14) يعني أن لا يرجع إلى ربه وإلى الدار الآخرة، حار الشيء: أي رجع عليه، ومن هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم من قال لأخيه يا كافر وليس كذلك إلا حار عليه أي رجع عليه، إذاً الحوار من معانيه الرجوع، وهذا يدل على أن المتحاورين يبدي كل واحد منهم استعداده للرجوع إلى الحق، وعدم التسلط على الرأي أو الإصرار عليه أو الامتناع لأن الحق هو ضالة المؤمن، فهذا معنى لطيف في كلمة الحوار، أيضاً كلمة الحوار تدل على الدوران حول شيء معين، يعني يحورون حول هذا الأمر أو يدورون حوله تدل على أن الحوار والحديث والمناقشة تدور حول موضوع معين وليست منطلقة، الكثير من الحوارات التي تقع اليوم في الإنترنت مثلاً أو في القنوات الفضائية أو حتى في بعض المجالس تجدها كما يقال كحوار ((الطرشان)) تنتقل من قضية إلى قضية وتقفز من موضوع إلى موضوع ويتداخل فيها الموضوعي بالشخصي بالقضايا الشرعية الدينية بالقضايا السياسية الاجتماعية والاقتصادية، الثقافات، العادات، التقاليد، أمور متداخلة ولهذا يبدأ الناس يتحاورون وينتهون وهم أشد ما كانوا اختلافاً، وأشد ما كانوا تباعداً وأشد ما كانوا كرهاً بعضهم لبعض لم يفد فيهم هذا الحوار تقريباً، لماذا؟ لأنهم لم يحددوا نقطة معينة يدورون حولها ويعودون إليها وإنما انطلقوا في فضاء واسع دون أن يكون ثمة نقطة يرجعون ويحورون إليها.
أيضاً من معاني كلمة الحوار: الإرجاع، أي إنك تأخذ الميكرفون لتتحدث ثم تعيده إلى الطرف الآخر ليبدي وجهة نظره، وهذا معناه أن يكون ثمة نوع من التنازل ونوع من الاجتماع وألا تكون الغلبة والحجة والإفحام وأخذ الحديث هي الفكرة المسيطرة على الجميع، كثيراً ما يُقال عن العرب أن أحدهم يتكلم والآخر ينتظر دوره، ولا شك أن هذا أمر ليس بالجيد، ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم كان يستمع إلى خصومه من المشركين وقد جاؤوه يوماً من الأيام يعرضون عليه عرضاً غريباً يا محمد إن كنت تريد مالاً أعطيناك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك، وإن كنت تريد زوجة اخترنا لك أجمل بناتنا حتى تتزوجها وإن كان الذي يأتيك رَأْياً من الجن طلبنا لك الطب حتى تُشفى منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ذلك منصتاً حتى انتهوا ثم قال: أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، فقرأ عليه شيئاً من القرآن الكريم، إذاً الحوار يدل على أن المسألة ليست نوعاً من السيطرة على المجلس بالحديث والغلبة وإنما هي أن أستمع بقدر ما أتحدث، وأتحدث بقدر ما أستمع، وبكل حال فكلمة حوار أو جدل أو خصام أو حجة أو مناظرة أو مناقشة كلها كلمات متقاربة في المعنى، والمهم الأكبر في كلمة حوار عندي أن تؤكد أنها تؤكد على مقصود الحوار وأن المقصود فيه ليس هو القوة أو الحصول على المزيد من التصفيق أو المزيد من المؤيدين لمجرد الزيادة في العدد، وإنما المقصود في الحوار هو البحث عن الحق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على هذا المعنى وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (البقرة: 269) وكان بعض السلف يقولون ويروون هذا مرفوعاً ولا يصح (الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها)، من الحكمة أن يكون عند الإنسان نوع من سرعة البديهة في الكلام، ويروى أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ذهب إلى ملك الروم فسأله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم وموقفه مع خصومه ومقاتليه أهو يَغْلُب أم يُغْلَب، فقال: يَغلُب تارة ويُغْلَب تارة، فتعجب وقال: أنبي يُغْلَب!! فقال له حاطب وقد أُلْهِمَ الحكمة والبديهة فوراً أبِنِ الله يُصْلَبْ؟ وكانوا يقولون المسيح ابن الله.
وكذلك نجد القصة الأخرى المشهورة وهي قريبة من هذا المعنى للإمام الباقلاني الذي يُروى أنه ذهب إلى ملك الروم ورأى أنه قد جمع له الأساقفة وزعماء الكنيسة فسلَّم عليهم وصافحهم وقال لهم: كيف حالكم وكيف حال الأهل وكيف حال الأولاد؟ فنظروا إليه شذراً وقالوا له: أنت تعلم أننا لا نتزوج ولا نُنْجِبْ ! فقال: كيف تنسبون إلى ربكم عز وجل ما تنأون وتنزهون أنفسكم عنه؟ فأُعجبوا ببديهته وذكائه، إذاً من الحكمة ومن الحوار قدرة الإنسان على الجواب الحاضر المُسكِتْ البديهي المفحم الذي يكون أحياناً قوياً في الحجة، ومن المجادلة بالحكمة أيضاً القدرة على فرز الخطأ من الصواب، فإن من أعظم الأشياء التي يشاهدها الذين يقرؤون حوارات الناس أن كثيراً من الناس ما عندهم غير أبيض أو أسود، خطأ أو صواب، فإن قبلوا قَبِلوا كل شيء، وإن ردّوا ردّوا كل شيء، وهذا من أعظم أسباب اللجج في الجدل والخصومة أحياناً ولهذا تجد أن العلماء والفقهاء والأصوليين كثيراً ما ينظرون في مواطن الخلاف فيقولون فيه تقصير، ويقولون إن هذه المسألة إن كان المقصود فيها كذا فهو حق، وإن كان المقصود كذا فهو خطأ أو حلال أو حرام، بمعنى أن المسألة قد يكون فيها قدر من الالتباس وقد رأيت بنفسي واستمعت إلى الكثير من الشباب فوجدت أنهم قد يكونون متحمسين لقضايا حين تسأل هذا الشاب عن حقيقة القضية التي يناقش فيها تجد أنه لا يعرفها وإنما سمع من الشيخ أو قرأ في موقع إلكتروني أن الأمر الفلاني خطأ، أو أن فلاناً يقول كذا وكذا وهذا غلط، وصار يردده فإذا سألته ما هو الفرق بين هذه الأقوال فوجدته أنه لا يتقنها ولا يحسنها وكثير من سبب رد الحق هو هذا الإجمال وعدم التفصيل، والله تعالى علَّمنا في القرآن من الحكمة مثلاً كما في قوله عز وجل مثلاً: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (البقرة: 219)، فبيَّن الله سبحانه وتعالى مع تحريمها والإثم الكبير فيها ما يوجد من منافع للناس، وهكذا تجد أن نبياً من أنبياء الله يستمع إلى الهدهد: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ . إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (النمل: 22 ـ 23) ولهذا أقول إن كثيراً من الحوارات تحتاج إلى نوع من الفرز ونوع من التفصيل حين نتحدث على سبيل المثال عن الحضارة الغربية كمنتج إنساني بشري هذه الحضارة هي عبارة عن قرون من العمل والإنجاز والإبداع والابتكار والخطأ والصواب والخير والشر فالبعض ربما يلغون هذا الإنجاز كله بجرَّة قلم ويعتبرون أن هذه حضارة منحطة ولا يقرؤون أو يفهمون منها إلا جانب مثلاً ضعف القيم الأخلاقية أو جانب التفسخ أو جانب عدم الترابط الاجتماعي، أو بعض الجوانب السلبية الموجودة فيها ويعممونها وقد تجد آخرين على النقيض ينظرون إلى الحضارة الغربية كما لو كانت هي النموذج الذي يجب استنساخه في كل بلاد العالم على نمط ((نهاية التاريخ)) ونحن نذكر من الأدباء من كان يقول يجب أخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرِّها وحلوها ومرِّها، ولا شك أن تناول القضايا بمثل هذه الروح التعميمية خطأ كبير ولا يمكن أن يُفرز إلا المزيد من الاختلاف، ولكن عندما ننظر نظرة أكثر جزئية وأكثر تفصيلاً نجد أن في هذه الحضارة أولاً آثاراً لحضارات إنسانية كبيرة فهذه الحضارة ورثت حضارات الرومان واليونان وورثت الحضارة الإسلامية والحضارات الفرعونية وغيرها واستفادت من كل ما سبقها وأضافت إليه، فقدمت للإنسان بما يتعلق مثلاً بالجوانب المادية وجوانب التقنية وجوانب الاختراع والابتكار ودراسات كثيرة جداً هي عبارة عن تراث إنساني ليس ملكاً لشعب من الشعوب ولا وقفاً على فئة من الفئات وفي مقابل ذلك أخفقت في جوانب أخرى هي موجودة عند أمم وشعوب أخرى ينبغي أن تحافظ عليها وأن تقدمها، فنحن نقول إن لدينا من القيم الأخلاقية والإيمانية ومعاني الترابط العظيم، الشيء الكثير الذي ربما نحن جنينا عليه بعدم القدرة على تمثله تمثلاً حقيقياً في هذا العصر وعدم نقله إلى العالم أيضاً وإرسال هذه الرسالة وهذا الصوت إلى البشرية، فالإسلام كما يقال محجوب بمساوئ أهله، إذاً ينبغي أن ندرك أننا أمام كثير من القضايا التي في حاجة إلى نوع من الفرز ونوع من عدم التعميم في الأحكام، لا قبولاً ولا رفضاً وهنا يدخل ما يسمى بالمصطلحات، فنحن نجد اليوم أن الكثيرين يتحدثون عن مصطلحات ضخمة جداً سواء في مجال السياسة كمصطلح الديمقراطية مثلاً أو في مجال الاقتصاد، أو في مجال الاجتماع، أو في العلوم، أو في غيرها، كثير من هذه المصطلحات يكون مصطلحاً سيالاً مصطلحاً عاماً، مصطلحاً محتملاً وأعتقد أن من المهم جداً السعي إلى تحديد المصطلحات وتحريرها وضبطها وأن يكون الإنسان حين يقبل أو يرفض مصطلحاً أن يكون عنده نوع من الحكم المفصل، حين نتحدث عن الديمقراطية كمصطلح في مجال العمل أو في مجال النظام السياسي، البعض قد يرفض الديمقراطية ويقصد بالرفض أنه لا يمكن القبول بنظام لا يقر بمرجعية الشريعة الإسلامية، وأعتقد أن هذا الرفض بحد ذاته مبرر، بمعنى أننا جميعاً يجب أن نحتكم إلى شريعة الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (الأحزاب: 36) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ (النساء: 65) لكن حين يُقدِّم إنسان آخر المفهوم الديمقراطي على أنه نوع من الإجراءات ونوع من العمل ونوع من التمثيل في مواقف الناس وآرائهم وقناعاتهم ومن يمثلهم في قضايا الحياة وشؤون المجتمع والأمور المسكوت عنها وهي أمور كثيرة جداً مما لم يرد في نص فأعتقد أن هذا المعنى ينبغي أن يكون معنىً مقبولاً وأن يكون هو أحد الخيارات التي يُستفاد منها سواء سُميت بالديمقراطية أو سميت بأي اسم آخر.
الحقيقة أو النقطة الرابعة هي قضية الغلبة ونهاية الحوار، الغلبة قد تكون بالإقناع والوصول إلى الحق وهذا هو ما ينشده المسلم من دخوله في الحوار أصلاً ولهذا يقول في النهاية الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ (البقرة: 71)، وأعتقد أن الإنسان حين يشعر بأن قلبه أو نفسه تغيرت وأن الحوار اتجه عنده إلى الإفحام أو الخصام أو التغلب أو الإطاحة بالآخر أو الازدراء به عليه أن يعالج نفسه سريعاً وأن يتوقف، وهنا قد يكون التوقف أو تكون الغلبة بالصمت وهذه قمة الانتصار أن يسكت الإنسان أو يترك الجدل ونحن نجد نماذج راقية الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ كان يقول مثلاً: ((ما ناظرت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه))، أي مستوى من العظمة والتجرد والشفافية تجده في نفس هذا الإمام العظيم الذي هو بحق حكيم وفيلسوف الإسلام، ((ما ناظرت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه)) وأيضاً من كلماته المشهورة في هذا الباب ((كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب))، فجعل أن القضية كلامنا فيما هو مختلف فيه فنحن لا نتجادل في قطعيات ولا محكمات وإنما في مسائل اجتهادية هي قولي ورأيي الذي هو صواب لأنني أعتقد أنه صواب ولو لم أعتقد أنه صواب لم أقدم ولم أجادل حوله، ولكن عندي باب مفتوح للرجعة عنه والرجوع والأخذ بالصواب الذي يتبين لي، وقد كان من طريف ما حدث تاريخياً أن الشافعي تناظر مع إسحاق بن رهوية في مكة المكرمة في جلود الميتة وهل تطهر بالدباغ أو لا وما انتهت المناظرة حتى رجع الشافعي لقول إسحاق، ورجع إسحاق لقول الشافعي، مما يدل على مستوى التجرد الذي كان يتميز به السلف رضي الله عنهم، وأيضاً من الكلمات والجمل الحكيمة للشافعي ما نقله عنه أبو علي الصدفي أنه ناظر الشافعي أو خالفه في مسألة قال فلما خرجنا أخذ بيدي وقال لي: يا أبا علي ألا يمكن أن نكون أخوة وإن لم نختلف وإن لم نتفق في مسألة، يمكن أن نكون إخواناً وإن كان بيننا اختلاف لأننا إذا جعلنا الأخوة مرهونة بوجود اتفاق كامل فمعنى ذلك أننا ربطنا الأخوة بأمر مُحال لأن الخلاف لا بد منه بين الناس، وأنت تختلف حتى مع نفسك كما ذكرنا.
أيضاً من قضية الغلبة التي يلجأ إليها كثير من الناس أنهم قد يظنون أن الغلبة هي برفع الصوت، وهذا كثيراً ما نجده في قنواتنا الفضائية وحواراتنا المباشرة والمواقع الإلكترونية والمجالس التي يعتبر البعض أن الصخب والصوت المرتفع واللجاج والإصرار وأيضاً حشد الكلمات التي قد تكون كلمات ساخنة أو مؤذية أو فيها شتم وسب وتعيير أنها هي النجاح، وكثيراً ما أسمع أخوة يقولون لي مثلاً فلان قدَّم برنامج والله ما شاء الله قوي، ولم يكتب لي أن أسمع هذا البرنامج لكنني أصبحت أعرف معنى كلمة قوي، فقلت له: كيف قوي؟ قال: والله إنه كان ما شاء الله متحمساً وأطاح بالخصم وتركه ورماه أرضاً ووطأه بالقول القوي البليغ حتى إنه أحرجه، بينما لو أتيح لك أن تسمع إعادة لهذا البرنامج لوجدت أن فيه شدة وفيه غلظة وفيه حماساً وفيه انفعالاً وفيه اندفاعاً ولكن عند العلماء ليست هذه هي القوة، ولهذا أجمع العلماء كما ذكره ابن تيمية والإمام الغزالي وابن القيم والشاطبي وغيرهم أجمعوا على كلمة مؤداها أنهم يقولون لو كانت الغلبة وكانت القوة بالصياح والسباب ورفع الصوت لكان الجُهَّال والسُّفهاء أولى بتحصيلها !! وإنما القوة هي بالحجة، ولهذا غلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام الرجل الذي كفر بالحجة وقال إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب، قال الله تعالى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ (البقرة: 285) هنا مسألة رفع الصوت أقف عند قول الله عز وجل في ذكر وصية لقمان لولده حين قال له: وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (لقمان: 19)، فوجدتُ عجباً، أن الله تعالى يشنّع ويحذر وينهى الناس عن رفع الصوت لأن أنكر الأصوات هي أصوات الحمير ولذلك يدعوه إلى الغض من صوته، نحن نعرف الغض من البصر ولكن ربما الكثيرون منا لم يكادوا يستمعوا إلى الغض من الصوت أن يكون صوتك خفيضاً، وقد كان أبو بكر وعمر يتكلمان عند النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمعهما حتى يستعيد منهما الكلام ويطلب منهما أن يرفعا أصواتهما في ما يقولان بعدما سمعا تأديب الله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ (الحجرات: 2) وقال سبحانه في آخر سورة النور: لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً (النور: 63) إذاً مسألة رفع الصوت ليست علامة على النجاح والقوة حتى لو سكت خصمك، وهنا سؤال أيضاً خطر في بالي ولم أُراجع فيه كتاباً ولكني اجتهدتُ في تفسيره، في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب علا صوته واشتد غضبه كأنه ينذر جيشاً يقول صبّحكم ومسّاكُمْ، فكيف نفهم حديث جابر هذا؟ ورد عندي فيه ثلاثة أوجه من التفسير، الأول: أن يكون قوله علا صوته بالقياس على المعتاد من صوت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر كان ذلك غالباً في مناسبات الاجتماع العامة، كالجمعة والمناسبات التي يحتشد لها الناس ويكثرون ولهذا يكون رفع الصوت حاجة ماسة حتى يسمع الجميع ما يقوله عليه الصلاة والسلام، هذا معنى، أما عن الثاني أن ذلك في الخطبة والموعظة فقط، وهذا أيضاً معنى صحيح وواضح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر وخاطب الناس وعلا صوته واشتد غضبه إنما يأمر الناس بحق لا شك فيه أو ينهاهم عن باطل لا شك فيه، وإنما يقرأ عليهم القرآن ويحذرهم من الذنوب والمعاصي والخطيب مطلوب منه ذلك حين يتكلم الخطيب مثلاً عن قضايا الإيمان بالله عز وجل، أو حين يتكلم عن قضية بر الوالدين أو الأخلاق الفاضلة أو ارتكاب المحرمات والتحذير منها، فإن الانفعال وتحريك العواطف هو جزء من نجاح الخطيب حينئذٍ وهو لا يتحدث عن رأي مجرد يخطئ ويصيب ولا يتحدث عن وجهة نظر، وليس في مقام المناظرة، والحوار وإنما هو في مقام البلاغ والحجة والبيان.
المعنى الثالث: أن المقصود بالنهي في الآية الكريمة وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (لقمان: 19) أو المقصود بالأمر هو فيمن جعل رفع الصوت تعويضاً عن فقد الحجة وهذا واضح جداً، فبعض الناس حين يحرج أو يعجز أو ينقطع فإنه لا يسوغ له ولا ترضى له نفسه وأنانيته أن يسكت أو يستسلم أو يقول أتأكد من الموضوع لأنه لا يريد أن ينهزم أمام الآخرين وهناك من يصفقون له ويهتفون له وقد يكونون كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي، ولكن مع ذلك هو لا يريد أن يفقد هيبته وأن يفقد جاهه عندهم، فربما يصرّ ويعوّض عن فقد الحجة برفع الصوت، إذاً الغلبة ليست برفع الصوت بل واغضض من صوتك، أيضاً الغلبة ليست بالقوة المادية والتسلط فقد يكون الإنسان قادراً بقوَّته أو بماله أو بجاهه أو لأي اعتذار أن يحسم القضية لصالحه ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (البقرة: 204)، ثم قال سبحانه: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (البقرة: 205 ـ 206) إذاً هنا القوة ليست بكون الإنسان يخصم أو يفرس خصمه ويتغلب عليه وإنما القوة بالحجة كما ذكرنا.
الإمام مالك ـ رحمه الله ـ كتب ((الموطأ)) وظل يصححه ويراجعه كما في بعض الآثار أربعين سنة، ولذلك وُجِد أكثر من ثمانين رواية للموطأ ولعل الشيخ أدرى بهذه التفاصيل، ومع ذلك لما أراده الخليفة في هذا الكتاب المتقن المضبوط لما أراده الخليفة على أن يعمِّم هذا الكتاب على الناس وأن يكون دستوراً في الأمصار الإسلامية قال يا أمير المؤمنين: إن الناس قد سيقت إليهم أقاويل، وفي كل بلد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أخذ الناس عنه العلم، ولا يمكن حمل الناس على أمر واحد، ترى هذه قصة نتداولها وعندنا أنها سهلة ولكن لو تأملت لوجدت أن هذا هو سر العظمة والنجاح عند جيل السلف رضي الله عنهم وأرضاهم في مسألة الحوار، يعني إنسان السلطة تقول له نحن نريد أن نعتمد كتابك كمقرر، ليس فقط مقرر مدرسي وإنما مقرر في الحكم والفتية والقضاء والتعليم والإعلام ومرجعية، وهو يعتقد أن ما كتبه صحيح ومع ذلك يكون من تجرده وإنصافه أن يقول إن الناس عندهم أقاويل وآراء واجتهادات وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اختلفوا ولا ينبغي حمل الناس على قول واحد، وهذا يدل على أن عندنا نماذج راقية في تاريخنا من هذا القبيل، بينما نحن نجد أن كثيراً من الناس في العصر الحاضر ربما أنه قد يكون مثقفاً يتحدث بالرأي ولكن حين تتبناه السلطة مثلاً أو تعطيه فرصة فإنه قد يشتد على خصومه بالوشاية بالسعاية بالإقصاء بالتهميش وربما لا يسمح لو استطاع لإنسان يختلف معه في الرأي أن يبرز أو يكون له حضور أو تأثير حتى حدثني أمس أحد الشباب وهو في مؤسسة إعلامية في إحدى دول الخليج العربي وقال لي: إن فلاناً قد أُبعِد عن هذه القناة ولم يسمح له بالمشاركة فيها قط لماذا؟ لأنه تكلم أو استشهد مرة من المرات بأحد المشايخ والعلماء الذين لا يتم قبولهم في تلك القناة، فهنا تجد روح الظلم كما يقول المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن
تجد ذا عفة فلعِلّة لا يظلِمُ
وأيضاً هنا أذكر كلمة لأبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي ذكرها صاحب الفروع ابن مفلح في كتاب ((الطهارة)) يقول: ((رأيت الناس لا يمنعهم من الظلم شيء ـ ويقصد كثيراً من الناس ـ إلا العجز لا أقول العامة وإنما أقول العلماء والفقهاء)) ثم قال: ((إنني وجدت أن الشافعية لما كان لهم صولة وجولة وعلاقة بالحاكم استطالوا على الحنابلة ومنعوهم من التدريس في المساجد ونبذوهم بالتجسيم وعيَّروهم واستطالوا فيهم بالوشاية والسعاية فلما دالت دولتهم وصارت الدولة إلى الحنابلة استطالوا على خصومهم الشافعية بالقيل والقال والوشاية والسعاية وأبعدوهم ومنعوهم من القنوت في صلاة الفجر))، قال وهل هذه إلا أخلاق الجنود أخلاق العسكر، يستغلون السلطة في أيام دولتهم ويلجئون إلى المساجد ويظهرون التزهد في أيام ضعفهم وزوال دولتهم.
إذاً هنا مستوى في قضية الغلبة والارتقاء عن قضية التغلب بالصوت أو التغلب بالأذية أو التغلب بالقوة وأن يكون الإنسان لديه من الصفاء والوضوح والشفافية القدر الكبير.
النقطة الخامسة: ما يتعلق بموضوع أزمات الحوار، والحوار لا شك يعيش في العالم الإسلامي أزمات يُخْشَى أن تأتي عليه إذا لم يتنادى المصلحون لهذا الأمر، منها أزمة الاستماع، والاستماع مبدأ عظيم جداً، بل هو فن له أصوله وله تقنياته التي يجب أن يتعلمها الجميع قدرة الإنسان على الاستماع على أن يضبط أعصابه حتى حين يسمع لو افترضنا شتيمةً أو سباً:
لم يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا
حتى يزلّوا وإن عَزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة
لا صفح ذُل ولكن صفح أحلامِ
أيضاً الاستماع للكلام الذي يُقال، ليس فقط أن تستمع حتى يسكت لتتحدث وإنما تستمع بإنصات وتُلقي عقلك وقلبك وهنا تجد المعنى القرآني والتعبير القرآني العظيم إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (ق: 37) لاحظ إلقاء السمع الإنصات، يعني لا يكاد يفوت الإنسان شيء هذا المعنى المهم جداً ينبغي إشاعته أقول مسألة السكينة أقول إن الحوارات التي تُدار اليوم سواء في القنوات الفضائية أو في المؤسسات الحكومية أو في المجالس وغيرها أو في الإنترنت، هي تفتقر إلى معنى السكينة هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ (الفتح: 4) ليس صحيحاً أن الغيرة تجعل الإنسان يفقد صوابه، لماذا ليس صحيحاً؟ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أشد الناس إيماناً بمبادئهم وأشد الناس إخلاصاً لها، وأشد الناس دعوة إليها، وكانوا يواجهون أقواماً يكذبونهم، ويفترون عليهم وكان النبي يسمع من يقول له أنت ساحر، أنت شاعر، أنت كذاب، أنت كذا أنت كذا، ولم يكن الأنبياء يفقدون صوابهم، ولا يصدر منهم بادرة لا تليق بحقهم ومقامهم، ولقد كان لنا ولكم فيهم أسوة حسنة، كانوا يرمون بالأكاذيب المتناقضة فمثلاً مسألة شاعر أو ساحر أو كذاب هذه أمور متناقضة لا يمكن أن تجتمع أو مجنون أحياناً، كيف يكون ساحر والسحر يتطلب ذكاء وتخطيطاً وعقلاً، وبالمقابل يوصف بأنه مجنون، أو يوصف بأنه سحر مستمر، والسحر لا يمكن أن يكون مستمراً، والمستمر لا يمكن أن يكون سحراً، ومع ذلك كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دائماً في حالة من السكينة، حتى قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ . وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ . الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ . وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ . فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً . فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (الشرح: 1 ـ 8)، فالعبادة تعطي الإنسان سكينة وطمأنينة وتسحب الغيظ والانفعال والحرارة الزائدة المفرطة في القلب وتجعل الإنسان يعود إلى اتزانه.
أيضاً من الأزمات قضية أزمة الفهم، والكثير من الناس يخلطون ويتدخلون في ما لا يحسنون ويتكلمون وكم وجدنا من الكتب وما يسمى دراسات أو نظريات وخصوصاً تلك التي تعالج الهم الشرعي، ومن أقوام هم غير متخصصين في الشريعة وغير متخصصين في اللغة العربية وغير محيطين بمعانيها وغير ملتزمين بمحكماتها، ومع ذلك هم لا يعالجون جزئيات أو فرعيات أو مسائل اجتهادية وإنما يخوضون في الجذور واللُّباب والأصول ويخرجون بنظريات ليس لها ذكر في تاريخ الإسلام كله وليس لها حظ من النظر عند المحققين من أهل العلم وما أوتوا إلا من الفهم:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم
أيضاً قضية النقل، والله سبحانه وتعالى يوصي بالتثبت في النقل وكذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا (الحجرات: 6) وفي صحيح مسلم من حدّث بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين كفى بالمرء كذباً أن يُحدّث بكل ما سمع كثير من الناس يتسرعون في النقل وينقلون أقوالاً ولو سألته أنت متأكد؟ قال: أنا والله سمعتْ، يُقال، وإذا أبلغ في العزو قال والله هذا موجود في الموقع في الإنترنت مثلاً، أو سمعته من فلان ابن فلان، دون أن يتأنى أو يتثبت، وقلت يوماً من الأيام لبعض الأخوة إذا جاءك الليلة خبر عنك، أن أناساً تناولوك في المجلس وقالوا فلان بن فلان وسبُّوك تحزن؟ قال: فعلاً هذا حصل ليلة من الليالي والله ما نمت حتى أذان الفجر، قلت: حين كان السهم أصاب قلبك أدركت حرارته ومرارته، ولكن ربما بعد ذلك بأسبوع تحدَّث الناس في مجلس عن شخص آخر وتناولته بمثل الكلام الذي وصلك عمن تناولوك دون أن تدرك حرارة وأثر هذا الكلام على من تحدثت عنه، وهذا دليل على قلة التحري وقلة الإنصاف.
أيضاً موضوع أزمة الأخلاق، وهي أزمة عميقة جداً والحديث فيها يطول، الصبر مثلاً، حين نسمع كثيراً من الأذى وكثيراً من السب والشتم والازدراء والتَّنقُّص هذا يجب أن لا يفقدنا صوابنا وأن يجعلنا محافظين على سكينتنا وهدوئنا، أجد أن المجتمعات الإسلامية المجتمع السعودي مثلاً أو الخليجي الكويتي أو أي مجتمع آخر فيه أطياف متعددة واتجاهات وتيارات وفئات وطوائف، والأمر المشكل هذه الأشياء موجودة والله تعالى أذن بوجودها وابتلى بعض الناس ببعض كما قال: لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ (محمد: 4) الأمر المؤلم أن يكون هناك نوع من التزاحف والتحضير للمصادرة والقضاء، وأن يكون بمجرد حصول أي انكشاف كما وقع أو كاد يقع في العراق أن يكون كل طرف كأنه يزحف ليُقصي الطرف الآخر، وأن تجد أن كل طرف الآن حين لا يملك السلاح إلا أنه يملك سلاح اللسان، فهذا يرمي هذا بأنه متطرف وأصولي ومن أصحاب العنف والتفجير وغير ذلك من الألفاظ دون أن يكون متأكداً أو متثبتاً مما يقول، والآخر قد يرمي الطرف الآخر الثاني بأنه علماني أو ليبرالي أو منافق أو غير ذلك دون أن يكون متأكداً أو متثبتاً، والواجب أن يكون هناك تأنٍ وتثبت وأن يشعر الإنسان بأن الكلمة التي يقولها محسوبة عليه مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (ق: 18) وأن يكون متثبتاً أو يؤجل النطق بالحكم ليس باللازم عند قاضٍ عام، لا تنطق بالحكم في هذه الجلسة أجِّله إلى جلسة أخرى، هذا إذا سلَّمنا على سبيل الدعابة بأنك قاضٍ وإلا فأصل الإنسان لا يلزم أن يصدر أحكاماً على الناس، والإنسان العاقل ربما يفوت الكثير من القضايا دون أن يعطي فيها حكماً نهائياً.
أيضاً قضية الحلم في الأخذ والعطاء، والمناقشة قضية مهمة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لأجش عبد قيس: فيك خصلتان يحبهما الله الحلم والأناة والحلم: بالتَّحلُّم، أيضاً كما في الأثر المرفوع عند الخطيب البغدادي وغيره أن يتعلم الإنسان الحلم والصبر، حتى حين يتحاور مع زوجته مثلاً أو مع ولده أو في المدرسة أن يكون الإنسان عنده قدر من الحلم، العفو والتسامح بين الناس وحسن الظن وألا يستحضر الإنسان الأخطاء التي وقعت في حقه وفلان قال كذا، وفلان رمى كذا، وفلان رآني وتجاهلني إلى غير ذلك، بل يكون المبدأ هو مبدأ حُسْن الظن والعفو والتسامح.
قضية الإنصاف، ((ولم تزل قلة الإنصاف حائلة بين الرجال ولو كانوا ذوو رحم))، وفي صحيح البخاري عمّار يقول: ثلاثٌ من جمعهن فقد استكمل الإيمان.. وذكر فيها الإنصاف من نفسك، أن تجعل نفسك في مقام الطرف الثاني، وقد جربت هذا فوجدت أنه مفيد جداً، نحن حين نزن الآخرين لا نملك إذا كان لنا رأي خاص إلا أن نضع إبهامنا على طرف الكفة، ولكن لو حاول الواحد منا أن يضع نفسه في مقام الآخرين لكان أكثر اعتدالاً وأكثر إنصافاً.
أيضاً قضية العدل مع الموافِق والمخالف والمحِب والمبغض والقريب والبعيد والتي أمر الله تعالى بها حتى مع المخالفين له في أصل الانتساب وأصل الديانة.
قضية الرحمة التي لا تنفك عن العلم، فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (الكهف: 65).
قضية التواضع، وبُعد الإنسان عن الكبرياء والغطرسة والألفاظ الفخمة تجد طالباً في مقتبل العمر يقرأ في كتب أهل العلم، فيقلدهم ويقول وعندي أن الأمر كذا وكذا، يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عنده، أو يقول إذا نقل كلام الأئمة قال: قلت، والصواب كذا وكذا، بينما مثل هذه الأشياء لا تصح ولا تنبغي إلا للأكابر من أهل العلم الذين طالما اغبَّرت أقدامهم في الطريق.
أيضاً من قضية الأزمات موضوع تفعيل الاختلاف بين الناس، يعني أننا نجعل الاختلاف هو الذي يحكم علاقاتنا، بينما لو فعّلنا جانب الاتفاق لوجدنا أننا متفقون على أشياء كثيرة جداً، وعظيمة جداً وما من إنسان إلا بينك وبينه قدر من الاتفاق يمكن أن تنطلق من خلاله إلى آفاق أوسع وأرحب من التعاون من الخير من البر من المعرفة إلى غير ذلك.
أيضاً قضية ولهذا أجد في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً (الكهف: 22)، مراءً ظاهراً: يعني كم عددهم وصفاتهم وأشكالهم والكهف أين يوجد هذه قضايا ليس فيها جانب معرفي محض، وإنما القضية فيها نوع من الظن ولهذا الله تعالى نهى عن المراء فيها إلا أن يكون مراء ظاهراً، بعض الناس لا يمارون في القضايا التي تستحق إلا مراء ظاهراً لنقص معرفتهم وآلتهم، فإذا جاءت القضايا الصغيرة والقضايا الثانوية والقضايا الجزئية ماروا فيها مراء ظاهراً ومراء عميقاً وخالفوا وجادلوا ووالوا وعادوا وفاصلوا بينما وضعوا هذا الأمر في غير محله.
النقطة أو الحقيقة السادسة والأخيرة قضية إشاعة الحوار وكيف يمكن أن تتم، لعل مما ينبغي الإشارة إليه، أولاً تسهيل سبيل اللقاء بين المختلفين، ونحن نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكل الأنبياء بُعِثُوا بالتصحيح وكانوا يأتون إلى أقوامهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى عكاظ ومجنة وذي المجاز وسمعة العرب وفي البيت الحرام وفي غيرها، وكان يغشاهم في نواديهم، وفي المدينة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم حتى إلى بيت مدراس اليهود وذهب إلى الأنصار في حقلهم وزرعهم وفي أماكنهم غشيهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله عز وجل، ولهذا أقول من الخطأ أن تتحول مجتمعاتنا الإسلامية والعربية والخليجية إلى جزر متعارضة، نحن نعيش في بلد واحد وفي مدينة واحدة وبيوت متجاورة أحياناً ومع ذلك كل مجموعة عبارة عن جزيرة يأنف بعضهم أن يزور بعضاً أو يلتقي ببعض أو يجالسه أو يستمع إليه لا يأتي إلا ناصحاً، سبحان الله النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري دعاه يهودي من يهود المدينة إلى طعام فاشترط عليه النبي صلى الله عليه وسلم شرطاً، ما هو؟ قال وهذه وأشار إلى عائشة أن أحضرها معي، قال: لا، ما عندي إلا طعام يكفي واحداً، قال: لا، ورجع مرة ثانية يا محمد هَلُمَّ إلى طعامي، قال النبي صلى الله عليه وسلم وهذه، قال: لا، قال له النبي صلى الله عليه وسلم لا، في المرة الثالثة جاء فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم وذهب هو وعائشة يتدافعان حتى أكلا عنده، هنا الزيارة كانت تطبيقاً لمبدأ إنساني في التواصل والزيارة والاستجابة للدعوة وهي تحقق هدفاً عظيماً من أهداف الدعوة ولو لم يتخللها في ذلك المجلس وعظ أو تذكير أو دعوة ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يدخل في الإسلام مثلاً حتى يلبي دعوته أو يجيبه إلى طلبه وسؤله، أعتقد أن المسلمين في حاجة إلى التواصل فيما بينهم حتى حين يكونون مختلفين، بل أقول أبعد من هذا هم أحوج إلى التواصل فيما بينهم حين يكونون مختلفين لأن التواصل بين المتفقين قد يكون تحصيلاً حاصلاً ولكن أن يتواصل الناس الذين بينهم قدر من الاختلاف مع تقديم حُسن الظن والنصيحة فيما بينهم أعتقد أن هذا لا بد منه.
النقطة الثانية مسألة مراكز التدريس والتعليم فإن المدارس من الابتدائي فالمتوسط فالجامعة فما بعدها ينبغي أن تكون حقولاً للتربية على الحوار ومن الخطأ الكبير أن تنحاز مدارسنا إلى الجانب المعرفي الأكاديمي المحض على حساب البناء التربوي وعلى حساب تربية الخبرات والمهارات التي منها مهارة الحوار.
النقطة الثالثة قضية مراكز الأحياء التي نراها الآن في المملكة في كل مكان يجب أن يكون من ضمن أهداف هذه المراكز أن تُربي الشباب على الحوار فيما بينهم، وأنا أذكر أن علاَّمة القصيم الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ كان يقسم طلابه إلى مجموعتين ويجعل كل مجموعة تنتحل رأياً فقهياً في مسألة من المسائل ثم يتناظرون فيما بينهم حتى يتدربوا على قضية استخراج الحجة وعلى الاستماع وعلى الوصول إلى الحق إلى غير ذلك.
قضية وسائل الإعلام، سواء كانت مسموعة أو مقروءة كالصحف والمجلات أو مرئية كالقنوات الفضائية أو مواقع الإنترنت، وهذه تضطلع اليوم بدور كبير جداً في الحوار، ولكن يؤسفني أن أقول إن هذا الحوار في غالبه يميل إلى السلبية، حوار يعتمد على الإقصاء يعتمد على الاتهام يعتمد على الإطاحة بالآخر، وجدته حين يكون عندي مثلاً موقع إلكتروني، أو عندي زاوية في جريدة أو عندي قناة فضائية أو برنامج فأنا أعتبر أن هذه ملكية خاصة لي، وأن من حقي أن أقوم من خلالها بالهجوم على الآخرين الذين لا أرتضيهم أو لا يتفقون معي، بينما ربما لا أسمح لهؤلاء أن يعبروا عما لديهم من الرأي وقد يكون الرأي صواباً على طريقة الإمام الشافعي كما قلناه.
حسناً هذا لا يوصل إلى حوار ناضج حين أجد هذه المطبوعة مثلاً أو هذه القناة أو هذا البرنامج يقوم بعملية مصادرة وإقصاء واتهام وطعن وتجريح هذا يشكِّل تحضيراً لحرب حرب ثقافية حرب اجتماعية ويوماً من الأيام قد تجد هذه الاتجاهات والمشاعر متنفساً بأي طريقة من الطرق، إنني أعتقد أن من الأمانة والديانة ومراعاة المصلحة العامة للأمة والمجتمع وللشعوب المسلمة في كل مكان أن يكون هناك قدر من الاتزان وقدر من الواقعية أنا هنا لا أقول إن ما يملكه الإنسان سوف يوظّفه ليقدم الآخرين رأيهم، فهذه ربما تكون نظرية بعيدة، ولكن على الأقل أن لا أوظف ما لدي على الطعن للآخرين واتهامهم سواء كان اتهاماً باتجاه أو باتجاهٍ آخر، وسائل الإعلام عليها مسؤولية كبيرة جداً والحاجة ملحَّة في هذه الظروف خصوصاً إلى مراجعة أداء وسائل الإعلام سواء كانت وسائل رسمية أو وسائل مستقلة وخصوصاً في جانب تربية وتفعيل جانب الحوار الهادئ المتزن البعيد عن التجريح والاتهام، سواء من خلال خطب الجمعة أو المحاضرات أو الدروس أو الكتب أو المحاضر أو غيرها، أعتقد أن الخطاب الديني له دور مهم جداً، لأن التعليم كمثال قد لا يؤثر في الطلاب مثل ما تؤثر المحاضرات التربوية في المساجد، حلقات تحفيظ القرآن الكريم، حلقات العلم، المجموعات التربوية في الأحياء وغيرها، لأنها تؤثر في الطلاب وتأخذ الكثير من أوقاتهم، فمثل هذه المحاضرات التربوية ومثل هذا الخطاب الديني أو الخطاب الشرعي هو مسؤول أيضاً مسؤولية كبيرة عن تأسيس مبدأ الحوار المتزن النزيه وتربية الناس على احترام بعضهم بعضاً، أيضاً البيوت وهي مسؤولية بالدرجة الأولى داخل البيت نحن نتكلم بطريقة نموذجية وجميلة عن الحوار ولكن داخل بيوتنا ودعونا نهمس في آذان بعضنا بعضاً هل نحن ندير حواراً مع أزواجنا؟ أبداً، الكثيرون يتحدثون حتى عن المرأة بكلام جميل ولكن لو سألت زوجته قالت هذا الكلام للاستهلاك، وهذا الإنسان داخل البيت لا يعترف بي حتى في خصوصياتنا، أين نسكن ومتى نسافر؟ وماذا نُسمي الولد؟ وطبيعة وجبة الطعام والفرش وكل التفاصيل محسوم أمرها فهو ديكتاتور وإمبراطور مستبد لا يسمع لقائل مقالاً، إذا كانت هذه هي الأوضاع التي تُعاش في البيوت فعلينا أن ننتظر أجيالاً أخرى وأخرى حتى نصل إلى حوار هادىء وحوار نزيه.
مسألة أروقة السياسة وهي المسؤول الأكبر عن ضبط الحوار ولغة الحوار والرقي بالحوار والبعد عن كل ألوان التشنج والانفعال وتبادل التهم حتى نصل إلى مجتمع راقٍ نزيه، هذا مما يُرضي ربنا عز وجل أن نتجادل بالتي هي أحسن، وأن يستمع بعضنا إلى بعض بصدق وأن نردم الهوة والفجوة القائمة بين فئاتنا ومجموعاتنا ومذاهبنا لا يعني هذا أبداً أنني سأتحول إلى مذهبك، ولا أنت تتحول إلى مذهبي ليس هذا هو المطلوب، المهم أن تفهمني وأفهمك والله تعالى حتى بالنسبة إلى الرسل والأنبياء قال: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية: 21 ـ 22)، وأعتذر عن الإطالة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
معالي الأستاذ الدكتور رضا عبيد: جزاك الله خيراً وأحسن الله إليكم، لقد غطيتم جميع الموضوعات التي تدور في ذهن الحاضرين لم تتركوا شيئاً إلا وعديتم عليه وشرحتموه وأفضتم في هذا فجزاكم الله خير الجزاء، وأرى الساعة الآن الوقت متأخر لكني سوف أعطي الفرصة للسيدات لنسمع صوتهن ونمتثل لقول الشيخ إننا لا نستخدم ديكتاتوريتنا في ما يخص السيدات فالفرصة نعطيها للسيدات الآن لسؤال أو لسؤالين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :639  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 165 من 252
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.