شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ الدكتور زيد بن عبد المحسن الحسين))
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلَّى الله وسلَّم على عبده ومصطفاه بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
أساتذتي الأفاضل روّاد العلم والمعرفة والثقافة اسمحوا لي بتوجيه رسائل قصيرة لا يربط بينها إلا الحب والصدق والوفاء.
فالرسالة الأولى:
لصاحب هذا المنتدى الكريم الذي كرم من خلاله أكثر من ثلاثمائة أو يزيدون من روّاد العلم والمعرفة والثقافة في وطننا الغالي الكبير العربي والإسلامي وفي وطننا هذا الذي منّ الله عليه بهذه الوحدة التاريخية حتى تحوَّل إلى قارة كبيرة يسود أهلها التلاحم والحب والمودة والإخاء أخوة حبلها هذا الدين العظيم الذي كرّمنا الله به وجعلنا نعيش في أرضه المباركة وشرفنا بخدمتها وخدمة ضيوفها الكرام، فرحم الله من أسس وبنى ورحم من كان له عوناً وسنداً ووفَّق وأعان من على أثرهم اقتدى. هذه الرسالة تحمل لأستاذنا الشيخ عبد المقصود خوجه أصدق الشكر وأعظم التقدير على هذه المناسبة الطيبة والليلة الغرّاء التي أشرف فيها بلقاء هذا الجمع الكريم وهو صفوة خيٍّرة من العلماء والأدباء وروّاد الثقافة هم أهل النبل والوفاء بتفضلهم علي بالحضور والمشاركة والذي أحسبه واعتبره لغة تشجيع صادقة سيكون لها في نفسي الأثر الذي لا ينسى على الرغم من أنها جعلتني معقود اللسان عاجزاً عن البيان فلهم مني صادق الدعاء وعظيم الامتنان، رسالتي هذه تحمل في طياتها عبارات التقدير والاعتزاز لما يقوم به من أعمال جليلة سمعتها تذكر وتشكر ومنها إقامة هذا المنتدى الذي يكرّم من خلاله الروّاد رغم أني لا أعد نفسي أحدهم فخبرتي وتجربتي قياساً بتجارب وعلم وخبرة الروّاد الذين كرمهم هذا الكريم الوجيه لا يمكن مقارنتها بالتجارب الشامخة.
سأعجز إن أردت أن أقدم لك ما تستحقه من شكر على عنايتكم بتكريم أهل الفكر وحملة القلم من خلال اثنينيتكم التي ذاع صيتها وحمدها كل روّادها ممن التقيتهم وممن سمعت عنهم وإنني لأعجب مع الشاعر ابن أبي صفرة الذي يقول:
عجبت لمن يشتري العبد بماله
ولا يشتري الحر بحسن فعاله
سعادة الشيخ دعوتك الكريمة ورسالتك الرقيقة واللطيفة هي إحدى الوقفات المؤثرة في حياتي وإن مما يخفف أسى العجز عن شكركم هو وجود رابطة القربى والنسب إذ تنعدم الكلفة والمجاملة بين الأقارب والأحبة التي تسقط دائماً لأن العلم نسب كما قرأت لأحد العلماء إذ قال: إن أرحاماً منا معلقة بعرش الرحمن تشكو وتستغيث ومنها رحم العلم التي تكاد تكون أم الأرحام إذ بالعلم علم ويعلم الله وبالعلم عبد ويعبد الله وبالعلم سخر ويسخر ملك الله وبالعلم استخلف ويستخلف في أرض الله فأنتم بعملكم هذا تحيون صلة الرحم هذه وتصلون من انقطع منها.
أما الرسالة الثانية:
فستكون وصفاً لمحطات أنخت فيها راحلتي وإنني وقبل البدء بالكلام عن هذه المحطات أرجو أن أحظى بعفوكم وصفحكم إن أفلتت مني كلمة تدل على تزكية النفس أو فهمتم مني ذلك فليس هذا قصدي وأستغفر الله القائل فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ (النجم: 32) كما أرجوه أن يغفر لي خطئي وعمدي.
أساتذتي الكرام قد قيل: الآباء ثلاثة أب ولدك وأب رباك وأب علِّمك وخير الآباء من علَّمك اسمحوا لي أن أبدأ رسالتي هذه بالترحم على الرجل الذي علَّمني ورباني والدي رحمه الله وهو الذي يملك حكمة العقل وكرم النفس وسخاء اليد واستقامة العمل فهو الذي حرص على تعليمي ونشأت في كنفه وتربيت على حب العلم والحرص على طلبه وكانت هذه هي المحطة الأولى وكانت في مدينة (تربه).
أما المرحلة المتوسطة والثانوية فكانت المحطة الثانية وكانت في مدينة الطائف حيث عشت عازباً بعيداً عن بيت الأسرة مما مكنني من الاعتماد على النفس والشعور بالمسؤولية في وقت مبكر وهو ما يفقده جيل هذا العصر عند بداية تلِّقيهم العلم.
الأساتذة الكرام: لا يمكنني من خلال هذه المحطات أن أستعرض مواقفي التعليمية أو خبراتي التي اكتسبتها كما يؤسفني عدم تمكني من ذكر أساتذتي الأجلاء الذين أحاطوني بفضلهم وأسروني بكريم عنايتهم فقد تلقيت العلم عنهم ولكن ضمن النظام التعليمي الحديث ولم تسنح الفرصة لإتاحة تلقِّي العلم على أستاذ واحد كما هي حال من سبقونا وتعلّموا على أيدي أساتذة يجيزون الطلاب كلاًّ في تخصصه فمنهم من يجيز في النحو ومنهم من يجيز في الفقه أو التفسير الخ.. ورغم ذلك فلا أنسى ذلك الأستاذ الكريم الذي حبب إلي مادة الإنشاء عندما كنت في السنة الأولى المتوسطة إذ طلب منا أن نكتب موضوعاً ونحضره إلى المدرسة وبعد تصحيح الدفاتر في اليوم التالي استعرض جميع الدفاتر إلا دفتري فسأل عن صاحب هذا الدفتر وطلب مني أن أقرأ الموضوع على زملائي بعدها أسمعني من عبارات الشكر والثناء ما جعلني أفضل هذه المادة وأحرص على إتمام تعلُّمها كان هذا الرجل هو الأستاذ الدكتور طامي البقمي ولا أنسى ذلك المعلم العبقري الكفيف المبصر وهو الشيخ عبد العزيز الذي كان يدرسنا مادة الفقه في المرحلة نفسها فكان حواره مع الطلاب وتشجيعه لهم على التفكير سبباً هاماً في شعوري بالفرق بين المرحلة الابتدائية والمتوسطة ويظل عالقاً في الذاكرة مدرّس التوحيد الذي كان حسن تعامله سبباً في الإقبال على تعلّم المواد الدينية ولولا خشيتي الإطالة، لمررت بهؤلاء الرجال ممن علموا وأثروا فلهم مني دائماً وافر التحية والتقدير وأصدق الدعاء وأجزله.
أما المحطة الثالثة وما أدراك ما الثالثة فهي مفترق الطرق ومظنة الضياع لمن ليس لديه بوصلة تعينه على تحديد الاتجاه. إن حسن الاختيار للتخصص هو مسألة المسائل فلم يوجد آنذاك من يتولى دراسة وضع الطلاب دراسة تشخيصية لتحديد مهاراتهم حتى يذهب الطالب إلى ما يناسبه من تخصص فكم من مبتهج بالقبول ضاع من بين يديه حسن الاختيار للتخصص الذي يتناسب مع استعداده الفكري وحصيلته الثقافية أو العلمية فلا أطيل بسرد معاناة هذه الفترة لأنني لم أكن نادماً على التخصص الذي اخترته وقد كانت الجامعة محطة هامة في تكويني العلمي والثقافي فدرست على أيدي أساتذة كرام منهم الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله والدكتور محمد مبارك رحمه الله والدكتور محمد خير عرقسوسي رحمه الله والدكتور عبد الحميد الهاشمي والدكتور حسن خفاجي والشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله والدكتور السيد محمد علي الجشي والدكتور عبد الرحمن صالح عبد الله والدكتور علي أبا حسين والدكتور بشير التوم ولولا خشية الإطالة لذكرتهم جميعاً. غير أني أكتفي بذكر البعض ممثلين لكوكبة عظيمة تلَّقينا العلم على أيديهم في الجامعة. هؤلاء الأعلام الأفاضل الذين وجهونا بوسائل نمو العقل كما يقول السباعي رحمه الله وهي إدامة التفكير، ومطالعة كتب المفكرين، واليقظة لتجارب الحياة.
أما المحطة الرابعة فلن أسرد جميع مواقفها لا لأن وقتكم لا يسمح فحسب بل لأنه يستعصي علي ذلك رغم أني سأقف وقفات سريعة قد تكون من بواعث النقاش معكم هذه الليلة ضمن المتاح من الوقت. فمرحلة الماجستير كانت البداية الصعبة لأنها هي البداية في دراسة برنامجي في الجامعة وتكمن الصعوبة في عدم الإتقان التام للغة الإنجليزية غير أنها لا تخلو من المواقف التي قد لوّنت انطباعي عن الدراسة والتدريس والمدرسين في الولايات المتحدة الأمريكية، فالطالب في مرحلة الدراسة العليا يجب أن يكون مستقلاً في تفكيره، حائزاً على مهارات التعليم الذاتي، واضح الهدف، واثقاً في نفسه مستعداً للإضافة في حقله وميدانه الدراسي ولعلّ هذا ما توحي به كلمة (ماجستير) والتي تعني التمكّن من الشيء وإتقانه (master in). والدكتوراه التي من معانيها اكتمال الاستعداد للبحث والتمكّن في حيازة المرجعية في التخصص. واسمحوا لي هنا أن استطرد عند استعادتي لبعض المواقف الشخصية فقد سجلت في إحدى المواد وكان وقت المغرب يحين عند بداية الدرس فأخرج للصلاة فتكرر ذلك مني مما حدا بأستاذي البروفيسور (Farr) وهو أستاذ ومؤلف كبير في ميدانه إلا أن يتعرّف على السبب الذي يدفعني إلى الخروج في مثل هذا الوقت، فاستأذنني ليسألني بكل لطف وتودد عن سبب الخروج في مثل هذا الوقت بالذات فما كان منه في اليوم التالي إلا أن نبهني في الوقت الذي يحين فيه خروجي، وقد لاحظت نظراته المتكررة إلى ساعة يده قبل أن يقدم ويهمس في أذني قائلاً خذ مفتاح مكتبي واذهب إلى صلاتك وقد سبق أن شرحت له عن الإسلام والصلاة وحصل في اليوم التالي بعد صلاتي الأولى في مكتبه أن طلب مني معرفة كيف أصلّي فوضعت سجادة كنت أحملها في حقيبتي حتى إذا جاء اليوم التالي ناولني المفتاح ووجدته قد وضع السجادة في مكانها مفروشة باتجاه القبلة. أما مرحلة الدكتوراه فكانت مختلفة إلى حد كبير عن سابقتها فقد تأملت برنامج الدكتوراه المعروض آنذاك فوجدت أنه رغم ما يؤهل إليه في مجال البحث والتعمق في الدراسة فإنه لم يكن موجهاً بما يكفي أن يستوعب خصوصية أي ثقافة أخرى غير الأمريكية ومن هذا المنطلق وجدت أن هناك الكثير مما يدرس قد يكون بعيداً عن الأهداف التي رسمتها لنفسي مما جعلني انطلق باقتراح لتعديل البرنامج بشكل جوهري رغم زيادة عدد الساعات التي أصبحت في مجموعها أكثر من متطلب التخرج، عند ذلك اقترح عليّ مشرف الدراسة أن أبدأ في طرح هذه الرؤية والأفكار على كلية الدراسات العليا وهو إجراء صعب كما قال ومن خلاله يتحتم علي أن أطرح برنامجاً متكاملاً مقترحاً فيه المواد والساعات ومعطياً المبررات الكافية بالإضافة إلى ما تطلبه كلية الدراسات العليا من مواد في مجال البحث، وهذا الإجراء يتطلّب تقديم مقترح مطبوع يقدم إلى لجنة مكوّنة من ثلاثة عشر عضواً تتخذ القرار بالقبول أو الرفض أو التعديل بعد مقابلة الطالب ومناقشته، فإن فاز المقترح بتصويت الأكثرية فللطالب أن يستمر وإن كان غير ذلك فلا محاولة أخرى، توكلت على الله وقدمت المقترح وصوت عليه بالإجماع فكان موضوع التخصص فيه تخطيط وتنمية المصادر البشرية وكان من ضمن محتويات البرنامج مواد اخترتها في كليات متعددة وجامعات متعددة في أمريكا وغيرها فكان من بينها سويسرا وبريطانيا وفرنسا بجانب جامعات أخرى في أمريكا وهذا التنوّع قادني إلى مواقف غريبة ومفيدة.
وكنت في سويسرا في جامعة جنيف وقد حاولت مقابلة عالم النفس الشهير (جان بياجيه) ولم أستطع، إلا أنني في المحاولة الثانية أحضرت معي كتاباً قد صدر للتو في أمريكا عن جان بياجيه بعنوان (بياجيه بيتيت) فأخبرت أحد مساعديه بأنني أريد مناقشة البروفيسور في موضوع أظنه قد استرقه من أحد علمائنا المشهورين وهو ابن خلدون فكان هذا فاتحة الطريق لي وعندما دخلت عليه رأى الكتاب وقال: إن الأمريكان لم يفهموني ولم يفهموا علمي بعد فأنا لست تربوياً وإنما أنا ابستمولجست وعندما ناقشت معه ما ورد في الكتاب حول تكوين المدركات الكلية عند الصغار وهي نظرية قال بها ابن خلدون. قال لي: ابن خلدون أستاذي وطلب من سكرتيرته أن تفتح أمامي دولاباً كبيراً قد رتبت فيه مواضيع كتبت عن ابن خلدون أو ترجمة مقدمته التي درسها بالفرنسية منذ زمن ثم توالى الحديث حتى ذكر لي أن هناك دراسة أولية (pilot study) يقوم بها ستة من معاونيه عن أثر اللغة في النمو الإدراكي بمعنى ما أثر اللغة على الذكاء أو بمعنى آخر هل للغة أثر في القدرة الإدراكية ووجد من خلال الدراسة الأولية التي أجريت على عدد من اللغات كان من بينها اللغة العربية حيث احتلت المرتبة الأولى، واستمر الحديث عن اللغة العربية وما يميزها عن اللغات، فطلب مني أن أسهم في الدراسات التالية فاعتذرت لانشغالي بدراستي رغم استمرار المراسلات بيني وبين مساعديه، الحديث هذا يحفزني لأن أضع علامة استفهام كبرى حول تعليم اللغة العربية لدينا وهل نحن ندرس اللغة العربية أم ندرس قواعدها فقط، سأتجاوز موضوع اللغة ونقد مناهجها وطرق تدريسها حتى لا أطيل عليكم رغم ما في نفسي من حتى.
ورغم أهمية دراسة اللغة على الوجه الصحيح بعناية وتفهُّم تام مما يسهل على طالب العلم جميع العلوم بلا استثناء ويفتح له أبوابها، وفي رأيي أن هذه هي المشكلة الأولى في مناهجنا، الموقف مع بياجيه قادني إلى الحديث عن اللغة وطرق تدريسها، أما الحديث عن العلم والحديث عن المناهج وعن الطالب فقد كانت لي مواقف لا تنسى مع أساتذتي الكرام وعلى رأسهم آرثر كومز أحد مؤسسي علم النفس الإنساني، والدكتورة آن ريتشارد زميلته في تأسيس هذا العلم محاورات كثيرة وكتابات مطولة ما زلت أحتفظ بها، ومن هذه المواضيع خيبة التعليم الحديث في تجزئة المعرفة عكس ما هو موجود.
لدى المسلمين وهو ما شرحته من خلال النقاش المستمر الذي تواصل عن العلم وغايته بيني وبينه وما زلت أذكر عبارته التي جعلها قاعدة للنقاش إذ قال: (create needs so people could learn) وهنا يأتي الحديث عن المناهج وارتباطها بالغاية ومبررها واستمر النقاش حول موضوع القيم وتحديدها (values clariflication) ومن يحدد القيم فعند المسلمين قد حددت القيم من خلال الثوابت ولا يحددها الناس، وقد أثار اهتمامه الحديث عن غاية التعليم وتحوّل الوسيلة إلى غاية ووجد أنه يزرع رذيلة الغش عندما تكون الغاية من التعليم اجتياز الامتحان. وتكثر المواقف التي تجعلني دائماً أعتز وأفتخر بما لدينا من قيّم ومبادئ إسلامية كانت محط إعجاب وتقدير كل من يتعرف عليها حتى ممن لديهم مواقف مسبقة سلبية عن هذا الدين وأهله، وهذا يقودني للحديث عن البروفيسورة التي دخلت في أول محاضرة على فصل قد امتلأ بطلاب كثر منهم العرب واليهود وغيرهم حيث كانت تدرّس مادة الاتصال إذ قالت في أول لقاء: على الطلاب العرب أن يحذفوا هذا الدرس لأنهم لن يجتازوه فهم غير جادين الخ.. فلم يبق من الطلاب العرب إلا محدثكم الذي عاب عليها مثل هذه المواقف المسبقة وجادلها بالتي هي أحسن محتكماً إلى معايير الجامعة وأنظمتها وكان الوقت في رمضان وبعد أسبوع من استمرار الدرس دار نقاش عن الحضارات والأمم وتاريخها وجاء الامتحان الأول ولم تصدق أو لم ترغب في أن تصدق النتيجة التي وصلت إليها فقالت: لا بد من امتحانك شفوياً حتى أتأكد من أن هذه هي قدرتك الحقيقية وأتحت لها الفرصة للامتحان الشفوي التعسفي وعندها طلبت منها أن تعتذر أمام الطلبة عما بدر منها وإلا سأرفع القضية إلى الجهات المختصة في الجامعة ولم تتردد في قبول هذا الاقتراح فطلبت مني أن أشرح للفصل عن رمضان وعن الدين الإسلامي بحجة أن ما بدر منها كان بسبب ما لديها من تأثير إعلامي ورغم أنها كانت يهودية فإنها أظهرت مواقف مغايرة لما قد بدر منها ووعدت بأن تكون عوناً للطلاب بدلاً من القيام بتثبيطهم، هذا الموقف يقودني إلى ذكر موقف آخر وهو مع أستاذ الاجتماع الذي قد أبدى إعجاباً بقراءتي لكتاب بعنوان (أمريكا الأخرى) (the other America) وقد قرأت هذا الكتاب بعيون عربية إسلامية هذه المواقف والمشاهد تجعلنا نتأمل في علاقتنا مع الآخر إذ لا بد أن نعي أن هناك من يجهل ما نحن عليه من دين وقيم وهناك من قد ظلل من خلال وسائل الإعلام التي لا تهدف إلا لتشويه مثل هذه الصور فهناك فئة وهي قليلة تزرع هذه المفاهيم وتريد أن تعممها لأن ذلك يخدم مصالحها الاقتصادية أو السياسية أو غيرها فعلينا إذن أن لا نعمم وعلينا إذن أن نعرِّفهم من نحن وما ثقافتنا وحضارتنا وعلينا أن نخاطبهم ونحاورهم بإعلامهم لا بإعلامنا وعلينا أن نفهمهم حتى نستطيع أن نقيم معهم علاقة متكافئة تقود إلى تعامل متكافئ. إن سمح لي الوقت فسأستعرض بعض الدروس المستفادة من خلال هذه المواقف فيما يخص جانباً واحداً وهو جانب التعليم.
الرسالة الثالثة:
خصصت الحديث فيها عن أربع محطات: أولاها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية:
ففي عام 1403هـ لم أتردد في قبول الإسهام في إنشاء هذا الصرح العلمي رغم رغبتي القوية في البقاء في الجامعة بعد أن رفضت الانتقال منها لعدد من الوظائف القيادية لكن شغفي بالبحث العلمي وخدمته من خلال هذه المؤسسة التي تحمل اسم قائد عظيم من قادة الأمة الإسلامية إذ وجدت نفسي منهمكاً مندفعاً مسخراً كل ما أملك في سبيل خدمة أهداف هذه المنشأة الجديدة، ولما كان الطموح كبيراً بدأنا في دراسة نظام المكتبة وكيف يمكن أن يكون واستعمال التقنية ومعرفة الملائم منها وخصوصاً أن تقنية المعلومات آنذاك كانت في بدايتها الأولى وكانت أنظمة المكتبة والمعلومات محدودة جداً ليس على مستوى العالم العربي فقط بل على مستوى العالم كله وبعد زيارات متعددة لكثير من أنحاء العالم لم يكن في وسعنا أن نستورد نظاماً معيناً بل كان علينا أن نسعى إلى تطوير أنظمتنا مستفيدين من خبرات من سبقنا. وكان لي وقفات ووقفات في كل قسم وفي كل زاوية من زوايا المركز العتيد من أهمها:
ـ المكتبات:
المكتبة الرئيسية: نظام الأرفف المتحركة.
مكتبة الدوريات (المستمرة والمتوقفة عن الصدور) ((عدد الدوريات المتوقفة والمستمرة)).
مكتبة المخطوطات (وقسم الترميم والتعقيم) ((معمل الترميم الثابت والمتنقل)).
المكتبة السمع بصرية.
مكتبة الأطفال.
مكتبة فهارس المخطوطات وقوائمها.
ـ إنشاء قواعد المعلومات وأنظمتها حتى وصلت إلى أكثر من تسع عشرة قاعدة.
ـ النشاطات.
ـ الندوات والمحاضرات.
ـ المؤتمرات.
ـ المعارض الثابتة مثل قاعة الملك فيصل التذكارية ومعرض المخطوطات والمعارض المؤقتة.
ـ النشر.
وثاني المحطات مجلة الفيصل:
والتي أردت لها أن تكون ذات رسالة جامعة تعطي ما أعطته سابقاتها من المجلات الرصينة كالرسالة ومثيلاتها وتكون منبراً واسع الانتشار يستهوي جميع العلماء والمنظرين حيث تنطلق عن طريقها نظرياتهم ورؤاهم وقد وفقت المجلة إلى القيام بأدوار هامة استفادت من معطيات كثيرة كان من أهمها وجود قواعد المعلومات في المركز التي ربطت بالمجلة فكان لديها قاعدة كبيرة بأسماء الكتّاب والمثقفين عبر العالم موضحة فيها تخصصاتهم واهتماماتهم وإسهاماتهم الأدبية والثقافية وقد جعلت التحرير في المجلة يستفيد فائدة كبيرة فعندما تحدد مواضيع المجلة شهرياً تستعرض من خلال القاعدة لمعرفة ما إن كانت قد نشرت من قبل أو لا.
وبعد هذه العملية يتم إقرار المادة المعروضة لكل عدد والحديث عن المجلة قد يطول ويطول.
وثالث المحطات مدارس منارات الرياض:
وهي أكبر مدارس أهلية في ذلك الحين وتحولت إلى إحدى المعامل الهامة للتربية والتعليم في العالم العربي.
ورابعها مجلس الشورى:
وكان آخر مدرسة تخرجت فيها تتميز ببرامج عميقة المحتوى نادرة التكوين، نشأ بتدرج وثبات منذ أسسه الملك عبد العزيز رحمه الله عام 1343هـ وتميّز في طوره الثاني بأساليبه الحديثة ودقة تنظيمه وبالحوار الهادف والأدب والوقار بين أعضائه مما جعله موضع إشادة من جميع زواره. وأسهم في بناء العلاقة بين بلدنا العزيز وجميع بلدان العالم من خلال الرحلات المتواصلة التي يمثل فيها جميع رجال المجلس وهو مدرسة كبرى وجامعة نادرة وكان رئيسه الأول عند إعادة تشكيله الأخير ذلك العالم الجليل والأستاذ المحنك الشيخ محمد بن جبير رحمه الله ثم جاء سلفه القدير العالم ابن العالم إمام المسجد الحرام فكان خير خلف لخير سلف. (الدكتور صالح بن عبد الله حميد).
وكان المجلس حياة ثانية لي إذ تعرفت على أصدقاء كأخوة لي لم تلدهم أمي تعلمت منهم الكثير واستمتعت بقضاء بضع سنوات معهم دون ملل أو كلل. وكان المجلس وما زال ملء السمع والبصر بفضل حرص واهتمام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله وبعده خلفه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله أدام الله توفيقه حتى أصبحت إسهاماته بارزة وأثره واضح خصوصاً في مجال سن الأنظمة أو تعديلها وتطويرها.
هذه المحطات المتقاربة زمنياً أصبحت علامات بارزة في حياتي مر بي خلالها العديد من المواقف التي كان لها الأثر الكبير في نفسي وتكويني ومعذرة فلن أستطيع تعدادها جميعاً ولا يمكنني أن أحصرها طوال فترة دامت سنين عديدة ولعلّ في أسئلتكم ما يساعدني على الكلام عنها بحسب ما يسمح به وقتكم الثمين.
أكرر شكري الجزيل لكم ولسعادة الشيخ الوجيه مع دعائي له بالتوفيق ولاثنينيته بالتسديد وسبحانك اللَّهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الدكتور حسن بلخي: أشكر سعادة الدكتور على هذه الكلمة التي افتتح بها هذه الأمسية الجميلة، تعرّض لسيرته الذاتية من خلال مراحله الدراسية من الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة، وأعجبني فيه وفاؤه لجميع أساتذته في جميع المراحل سواء كانوا في داخل المملكة الحبيبة أو خارجها سواء كانوا مسلمين أو غير ذلك، لقد أعجبني فيه وفاؤه لأستاذته وأستاذه اللذين شجعاه وأعاناه للقيام بواجبات دينه ولا يمكن أن استبعد هذا العمل لرجل يحترم الآخر ويجبر الآخر على احترامه، سعادة الدكتور زيد له محطات عديدة ومن أهمها التعليم وكلنا لدينا أبناء وبنات وأحفاد وحفيدات فحبذا لو وجهت إليهم بالاستفاضة لكيفية تنشئة الجيل القادم الذي سيحمل المشعل الذي حمله هو، وخصوصاً أن لدي سؤال من أحد الحاضرين يتساءل كيف يتطور الحس الوطني لدى الفرد أرجو من الدكتور زيد أن يكلمنا عن هذا الموضوع:
الدكتور زيد: الكلام عن التعليم ذو شجون، لكن سأبدأ بتعليق مهم وهو كيف نبدأ في وضع منهج للتعليم وما هو الاستعداد المطلوب للطالب عندما يجلس على كرسي الدراسة، أعتقد أن ما نفتقده في عالمنا العربي والإسلامي وهذا تعميم وقد أكون مخطئاً أن الطالب يأتي من بيته وهو لم يتعلم أموراً هامة ولم يكوّن تكويناً مهماً ليكون متعلماً ايجابياً، هناك بعض المدارس ولعلّ السر في الغرب ـ وأرجو ألا يحسب كلامي عن الغرب على أنه من الغرب مقابل الشرق وإنما الغرب فيه من الخير ومن الأمور الجيدة، فالطالب هناك يأتي إلى المدرسة وقد زرع فيه الاعتماد على النفس ودرِّب على ذلك سواء من قِبَل والديه أو من قِبَل أهله، وقد يتعمق ذلك في دراسته في الروضة، ومن ضمن البرامج التي تقدم إليه في الروضة أن يوضع أكثر من 20 ـ 30 زرًّا للجاكيت أو الحذاء ثم يدرَّب كيف يعتمد على نفسه بمثل هذه الأشياء البسيطة.. لكنها تشعره أنه أنجز شيئاً وقد اعتمد على نفسه، الأمر الثاني وجد من خلال الدراسات النفسية أنه كل ما كان مفهوم الإنسان عن ذاته عالياً كان إنجازه عالياً، الأمر الآخر الشعور بالمسؤولية، فأنا أعتقد أن هذه الصفات أعتبرها المفاتيح الأساسية، فالطالب الصغير يأتي إلى المدرسة لكي يتعلم ولا يستطيع ممارسة عملية التعليم الحقيقي إلا إذا كان مؤهلاً بهذه الصفات، الأمر الآخر أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعل منه الإمكانيات الكثيرة وهذه الامكانيات تبدأ في سنواتها الأولى قوية ويجل استثمارها بحسب العمر الزمني الأول، مثلاً تعلم اللغة العربية أو أي لغة أخرى، الطالب في سنواته الأولى لديه مقدرة هائلة في تعلم اللغة والأدلة كما تعلمون كثيرة فالطفل في السنة الثانية أو الثالثة من عمره يذهب مع أبيه إلى أمريكا يتعلم اللغة في أمريكا بينما والده يبقى سنة ليصل إلى المستوى الذي وصل إليه ابنه وقد لا يصل، مع الأسف لدينا كما ذكرت في كلمتي نحن لا نعلِّم إلا القواعد فقط يحفظها دون ممارسة اللغة، فالممارسة عملية عقلية يجب أن يمر خلالها بعمليات مختلفة عليه أن يفهمها ويستوعبها ثم عليه أن يدرك هذه الأمور بحسب الرسالة المرسلة إليه وبالتالي يقوِّم هذه الرسالة التي وصلت إليه ثم يعطيها قيمة معينة، ثم يبدأ عقله يختزن كثيراً من المفردات التي يستعملها فيما بعد خصوصاً إذا تكلم بها ومارسها، فاللغة مفتاح إلى التعلم ولا أعتقد أن مدارسنا نجحت في مناهج التعليم..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :743  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 90 من 252
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.