((كلمة سعادة الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه))
|
أحمدك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأصلِّي وأسلِّم على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد، وعلى آل بيته الكرام الطاهرين وصحابته أجمعين. |
الأستاذات الفضليات |
الأساتذة الأكارم |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: |
يطيب لي أن نلتقي مجدداً على جناح سويعات تجمعنا وداً وتسمو بنا وفاءً وتكريماً لواحد من أبناء الوطن الذين قدموا الكثير، وما زالوا يعملون بصمت، للإسهام في نهضة ونموِّ هذا الكيان الكبير، إن ضيفنا سعادة الأستاذ الدكتور زيد بن عبد المحسن الحسين عضو مجلس الشورى، من الأعلام الذين لهم دور مميز في إثراء حياتنا العلمية، والثقافية والفكرية.. فمرحباً به وبصحبه الأفاضل في عرس يجمع السهل والجبل، ويعبق بأريج هضبات تاريخ نجد، ممزوجاً بعبير بوابة الحرمين الشريفين، التي تقف على مرمى حجر من البيت العتيق، بينما تعانق وشوشات أمواج البحر الأحمر، فيأتلق العطران ليشكِّلا همزة وصل الهوى والافتتان بين عبقرية المكانين. |
إن حياة كل إنسان تتشكل عبر منظومة من الخيوط التي تتقاطع في نسيج فريد، ثم ترتفع، وتظهر للعيان بمقدار ارتفاعها، وألوان قوس قزح التي تصبغها.. غير أن بعض المبدعين الذين وهبهم المولى عز وجل ملكة النسج والتلوين يزهدون في الأضواء، فتظل أعمالهم تحت مجهر المختصين وذوي العزم ممن يسبرون أغوار الرجال.. وعلى جانب آخر نرى من الناس من يركض وراء الأضواء ولو بأسنة الرماح، علَّهم يستطيعون رفع شأن نسيجهم وإن عاجله الاهتراء، وأصابت ألوانه مختلف الآفات.. ولله في خلقه شؤون !! |
لقد عرفت ضيفنا الكريم شخصياً منذ أكثر من عشرين عاماً، عبر محطات لا أود التوقف عندها توقف استقصاء، بقدر ما هي لحظات تأمُّل في خُلُق هذا الإنسان الكبير، فهو من لقلائل الذين أرخصوا وقتهم وجهدهم لخدمة الفكر والثقافة والأدب، غير أنه آثر أن يكون عمله وقفاً على بعض أصحاب البصيرة ممن يغوصون معه ويكابدون الفكر الخلاق، والعمل الدؤوب، والتناصح لما فيه خير الأمة، شأنه شأن كثير من الكبار الذين تحمَّلوا مشاق البدايات الصعبة، وعلموا أن الثواب بقدر المشقة، فهانت عليهم أنفسهم في سبيل إعلاء صروح العلم والعطاء المستدام.. لقد كان العلم والتعليم هاجسىْ ضيفنا الكريم منذ أن عايش الغرب فرآه ينهل من تلك المناهل العذبة، مع أننا من أمة دين بدأ بكلمة "اقرأ" في دلالة لا تخفى على أحد عن قيمة ومكانة العلم في قلب وعقل ووجدان أي أمة تريد أن تجد لها مكاناً تحت الشمس.. وعندما دقت ساعة الجد، وأزف أوان العطاء.. شمَّر ضيفنا الكريم عن ساعديه فكان أن استهل عمله كواحد من أبرز الوجوه التي أسهمت في تأسيس مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وهو كما تعلمون من أكبر مراكز البحث والعلوم في المنطقة العربية، واستطاع عبر مسيرة سبعة عشر عاماً أن يرسخ مفهوم البحث العلمي من خلال قنوات المركز المتعددة، ويمنحه مكانة مرموقة على مستوى العالم، وأنجز العديد من الدراسات التي تعد مفخرة لنا كأمة تحاول اللحاق بركب العالم الذي أخذ زمام المبادرة، وحوَّل "إقرأ" من (نص تعبدي) إلى (عمل فعال) يعكس إرادة التغيير، ونحن الذين نعلم يقيناً إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.. وفي هذا السياق رأيت أن أنقل إليكم إحصائية تشير إلى موقعنا على خريطة البحث العلمي ففي الوقت الذي تستحوذ فيه ميزانية مراكز الأبحاث العلمية في أمريكا على أكثر من 75% من الإنفاق العالمي، وتصرف حكومة إسرائيل ما يوازي 30,6% من الموازنة الحكومية المخصصة للتعليم العالي بكامله، نجد أن الدول العربية مجتمعة خصصت ما نسبته 0,03% من الناتج القومي الإجمالي لموازنة البحث العلمي.. وهذا يعود في تقديري إلى عدم وجود ثقافة مراكز البحوث في العالم الثالث، الأمر الذي يؤكد تقديرنا لضيفنا الكريم على إسهامه الكبير في إنشاء مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية، والذي نأمل أن نرى له شقائق في كل دولة إسلامية. |
وفي عتبة أخرى على سلّم التأمل أرى فارس أمسيتنا يتلفع مرة أخرى ببردة الهدوء والسكينة، والبعد عن الأضواء، ليرسم خطط النهوض بمدارس المنارات، فيخرج بها من نطاق التعليم المعهود والمناهج التي يحتاج الحديث عنها إلى أمسية خاصة، إلى آفاق العالمية وفق برنامج وأهداف محددة جعلها نموذجاً يأخذ منه ما يوافق مجتمعه، ويجمع لباب ما لدى الغرب من تقدُّم في هذا الجانب، ليصيغ من هذا وذاك منهجاً استطاع بموجبه أن يسير بالقافلة إلى واحات الخير والعطاء، ويستبق الزمن في ركض مدروس لتكوين نواة مجمع تعليمي يضاهي أعلى المستويات المعروفة عالمياً.. وبالفعل كان له ما أراد، ولكن ليس بطريقة التمني، وبسط الكف إلى سراب الخيال.. بل عانق السهر، وكم تجلَّى له فلق الصباح وهو يكب على مكتبه في صمت لينجز أعمالاً تنوء بها العصبة من أولي العزم، وعد فأنجز، وحلم في واقعية، وخطط على أسس علمية، ليضع أحلامه في النهاية على أرض الواقع.. فهنيئاً له ذلك الغرس الذي أزهر، فأثمر، ثم أينع.. وهنيئاً لنا جنى ذلك البستان الباذخ، وأحسب أن الأكثر استفادة جيل لم يأت بعد، لعله ينظر في هذه التجارب ليتبع خطاها ويرفع قواعدها لإنجاز مزيد من الخيرات التي نأمل أن تكون بشائرها قاب قوسين أو أدنى بإذن الله. |
لقد قلت في بداية حديثي: إن ارتفاع النسيج وبهاء ألوانه يجذب الناس، ولكن عندما يحرص صاحبه على الزهد في الأضواء فإن السطوع يبقى رهين محبس الإعلام بكل وسائله وفاعلياته.. وإنني على يقين أن قلة من المثقفين تعلم عن مؤلفات ضيفنا الكريم الذي كرس وقته للعلم والعمل.. وحق له أن لا يجد وقتاً ليقول لنا: انظروا ماذا بين يديكم من إبداعات ومنجزات ومؤلفات ضمت الكثير من الرؤى والأفكار التي تنتظر منكم الصبر على الاطلاع واستنباط ما يؤيد المسيرة ويسهم في نهضة المجتمع.. فهل نحن فاعلون؟ |
وعلى مستوى آخر من التأمل: إذا أمعنا النظر في مقالاته العديدة التي زخرت بها مجلة "الفيصل" نجدها تضمنت الكثير من الأفكار المتقدمة في العلاقة بين الأمة الإسلامية والآخر، وأشعر أنه يقرأ المستقبل وكأنه كتاب مفتوح أمامه، في جدلية عميقة من التحليل والتفكير المتقدم والمنفتح بغير تردد على عالم عاش مجتمعه، وتشرَّب أفضل ما فيه من علم وثقافة ودربة في التناول والعمل الجاد.. وغيرها من المواضيع المهمة التي تمثل في مجملها (ثقافة الحياة) التي صنعها الإسلام، وجاد بها على الدنيا، لتعود إلينا وكأنها "بضاعتنا ردت إلينا"، في حين استغرق بعضنا للأسف في صناعة (ثقافة الفناء) وكأن العيب أن ننظر إلى الكون بغير منظار لا يحمل من الألوان غير الأبيض والأسود!! إنها دعوة صادقة كرسها ضيفنا الكريم عبر أكثر من أسلوب حتى تكون لنا نهضة تعتمد على قيمنا وأصالتنا وفي ذات الوقت تكتسب المزيد من الحيوية من كل حدب وصوب مهما كان المصدر، طالما أنه لا يمس ثوابتنا التي لا نحيد عنها قيد أنملة. |
أما مشروعه الكبير عن (معجم المصطلحات الإسلامية) الذي ما زال قيد التنفيذ، فهو إضافة لا غنى عنها للمكتبة العربية والإسلامية.. إن "الدانة" والدرة الثمينة، التي هي دمعة بعض الصدفيات، تستغرق مئات السنين لتتشكل ببطء حتى تزين جيد حسناء واحدة، فلا نستكثر بضع سنوات لنرى عملاً معجمياً تزهو به المكتبة، ويسهم في مساعدة الباحثين بما يعينهم على أداء رسالتهم.. متمنين لأستاذنا الجليل كل التوفيق والسداد لإنجاز هذا العمل وغيره مما يسهم في دفع مسيرة العلم والمعرفة. |
هل تستمر مسيرة تأملاتي عبر مشواره في مجلس الشورى، وزياراته لكثير من العواصم الأوروبية وبرلمانات بعض الدول الغربية، مما لا شك فيه، أنكم ترغبون في استكشاف المزيد مما يبوح به ضيفنا الكبير توثيقاً ذاتياً لمسيرته الخيِّرة، فحسبي من القلادة ما أحاط العنق ـ عبارة تقليدية لكني لا أجد خيراً منها الآن للتعبير عن ذاتي ـ غير أني أوصيكم، وأوصي نفسي، بأننا إذا وجدنا في أستاذنا الجليل ميلاً بحسب طبعه، إلى عدم الاسترسال في موضوع ما، علينا أن نحثه برفق لفتح خزائن معرفته، فهو لا يبخل أبداً بالعلم والعمل وبث المعرفة، لكنه لا يحب "الأنا".. ونحن معه الآن لسنا في دور البحث عن "الأنا" بقدر ما نرغب أن نسمع منه المزيد عن مسيرته الخيِّرة، وما في جعبته من أفكار، وخصوصاً أن العالم الإسلامي يشعر بما لا يرتاح له من تعاملات أقل ما يقال إنها تكيل بمكيالين، إذا استبعدنا نظرية المؤامرة التي لا يحبذها البعض وأنا منهم. |
ويطيب لي أن أحيل المايكرفون إلى راعي الأمسية سعادة أخي الأستاذ الدكتور السيد حسن عمر حسن بلخي، وكما سبق أن أسلفت فإن "الاثنينية" ستعقد كل من أمسياتها القادمة برعاية أحد الأساتذة من أصحاب الفضل الذين يبرونها بهذا التواصل، بوجودي أو عدمه، وقد بدأ هذا الأسلوب مشكوراً معالي الأستاذ الدكتور رضا عبيد، والآن نسير خطوة أخرى مع راعي هذه الأمسية، وستتواصل المسيرة بإذن الله. وسيتم حجب كلمات الإخوة الأساتذة كما حجبناها في الأمسية الماضية، إذ وجدنا أنها تأخذ من الوقت ما لا يضيف الكثير، وتقلل من إمكانية الاستفادة ومعرفة المزيد عن مشوار ضيفنا الكبير. |
متمنياً لكم أمسية ماتعة في صحبة ضيفنا الكبير، وإلى لقاء يتجدد مع ضيف أمسيتنا القادم سعادة الأستاذ الدكتور حلمي القاعود، الأديب والكاتب المعروف، ورئيس قسم اللغة العربية وآدابها كلية الآداب بجامعة طنطا، والمُعار حالياً إلى كلية التربية للبنات في حفر الباطن، مجهول كاسمه، ولكنه عالم كبير وباحث قدير وفيه ما لا أستطيع أن أقول لكم تاركاً لكم الفرصة لمعرفة ما لديه، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبضيفنا الكريم.. وإلى لقاء يتجدد وأنتم بخير. |
|