هل كان عبد العزيز الرفاعي شاعراً مجهولاً؟ |
سؤال داعب مخيلتي وأنا أقرأ مقالة الأستاذ الدكتـور عبد الله العسيلان عن عبد العزيز الرفاعـي – رحمه الله -، حيث تسمرت نظراتي عند قوله: "ومن مواهبه العديدة التي يتمتع بها موهبة الشعر التي لا يعرفها عنه إلا قليل" فهل كان الرفاعي مجهولاً حقاً؟ والإجابة على هذا السؤال إيجابية وسلبية فالرفاعي عرف كشاعر منذ تخرجه في المعهد العلمي السعودي أو بعد ذلك بقليل، وله مشاركات في الصحف المحلية والعربية، ولكن المتابعين والقراء والمتلقين في تلك الفترة قلَّة لأن الصحف لا تغطي إلا مساحات صغيرة من طوائف الشعب المختلفة، ونتيجة لذلك فالرفاعي شخصية شاعرة معروفة لدى الطبقة المثقفة الخاصة من أبناء جليه وأساتذته، ولكن انصرافه الكلي إلى كتابة المقالات الصحفية، والأحاديث الإذاعية، والبحوث التاريخية والأدبية، والغوص في أعماق التراث لاكتشاف الذخائر المحفوظة به، وجلي ما تراكم عليها من مخلفات السنين، كل ذلك كان سبباً جوهرياً في قلة شعره، وعدم ذيوع صيته كشاعر. |
ومن الذين كانوا لا يعلمون بشاعريته فضيلة الشيخ الفاضل عثمان الصالح وقد أثبت ذلك في رسالة بعث بها إليه إثر قراءته لقصيدته التي رد بها على قصيدة الشاعر محمد عبد القادر فقيه، حيث قال الشيخ عثمان في رسالة بعث بها إليه: |
"عزيزي معالي الأستاذ الأديب عبد العزيز الرفاعي المحترم: |
بعد التحية والتقدير: عزيزي – لا أدري لماذا أنا منشدٌّ إلى الشعر، ولا أدري لماذا أحتفظ بالقصيدة عندما تكون جيدة السبك جميلة المعنى. ما كنت أظنك شاعراً، لهذا احتفظت بصفحة من الندوة، فيها قصيدتان – "هوى مكة" بينكم وبين الفقيه – في قصيدتكم جودة – فما كنت أظنك شاعراً". فهل يكون لتواضعه الجم، ونفيه صفة الشعر عنه دور كبير، قد يكون هذا القول إيجابياً كما أن عدم مساهماته في السنوات التي تلت عام 1380 في نشر شعره بالصحف، والاكتفاء بإلقائه في مناسبات خاصة قليلة الحضور، ومثل ذلك ليست وسائل كفيلة بذيوع الصيت، وللتأكيد على أن عدم قيام الرفاعي – رحمه الله – بجمع شعره ونشره، وتكرار تصريحاته وأقواله التي ينفي عنه فيها صفة الشعر جعل الدكتور مصطفى إبراهيم حسين مؤلف كتاب "أدباء سعوديون" الذي احتوى على ترجمات شاملة لسبعة وعشرين أديباً ومن بين أولئك عبد العزيز الرفاعي، يتناول حياة الرفاعي الأدبية من حيث مؤلفاته النثرية، ومقالاته لا غير دون أن يشير إلى شعره ولو بكلمة عابرة، وما ذلك إلا دليل على عدم معرفته بشاعرية الرفاعي، وإذا علمنا أن كاتب مقدمة ذلك الكتاب هو عبد العزيز الرفاعي فحينئذ نستطيع أن نكشف عن قرب حقيقة الرفاعي في أسمى معانيها، فقد قرأ الكتاب، واطلع على ما كتبه المؤلف الدكتور مصطفى إبراهيم حسين عنه في ثلاث عشرة صفحة من 243 – 256 من كتابه السابق ذكره، وقد شهد الرفاعي على نفسه بقراءة ما كتبه الدكتور عنه وذلك بقوله في المقدمة التي كتبها بيده في الفقرتين الأخيرتين من صفحة "و" وهما: |
"ومما أعجني في هذا الكتاب أنه كان يخرج من دراسة كل شخصية من تراجمه برأي معين، أو فلأقل بحكم معين عنها يلخصه حينما يضيف إلى اسم المترجم له نعتاً يمثل انطباعه عنه.. فهذا معلم. وذاك موسوعي. الخ الألقاب التي اقترنت بالأسماء في عناوينها. |
وأحسبه قد أصاب أو قارب الصواب في هذه الألقاب، إلا في أحدها حينما أطلق على أحدهم لقب "العالم الأديب" فلا أحسبه يستحق شيئاً من هذين اللقبين الضخمين، ولا أعرفه – وأنا أدرى الناس به – على شيء يستحق الذكر منها". |
وبحثت ببلاهتي المعهودة، أو بلادة فكري في فهرس الكتاب لأقف على صاحب تلك الشخصية التي أطلق عليها الدكتور مصطفى حسين لقب "العالم الأديب" فلما عثرت عليها، وقفت صارخاً وسألت نفسي: هل كان الرفاعي مُصيباً حين قرأ ما كتبهُ الدكتور مصطفى عنه قبل طباعة الكتاب، ولم ينبهه إلى أنه قد غفل عن ذكر جانب مهم من سيرته الأدبية وهو الجانب الشعري؟ |
أم أنه اطلع على ذلك في مسودة الكتاب ثم أشار على المؤلف بحذفه؟ |
كل شيء جائز، فنحن لن نبذل مشقة كبرى في الحصول على التعليلات، وإلصاق المسببات بمن يعقل، وما لا يعقل، بَيْدَ أني أرى أن صرامة الطبع في الرفاعي والتي دفعته إلى دفن نصف ثروته الشعرية التي كونها من جهده وثقافته ورهافة حسه ووجدانه وشعوره، وسخر في سبيل الحصول عليها عقله وقلبه وحواسه وعاطفته ووقته حتى استوت وحان قطافها، تلك الصرامة هي التي منعت الرفاعي من أن يرشد الدكتور مصطفى ويطلعه على مكامن أشعاره، أو أن يدله على الأقل على الوسائل الإعلامية التي تولت نشر تلك الأشعار سواء أكانت تلك الوسائل مرئية أو مسموعة أو مقروءة، أو محفوظة في حرز أمين لا تصل إليه الأيدي إلا بأمر منه، لأن الرفاعي يرى كما هو منهجه أن الباحث عليه أن يستقصي الحقائق ويتتبع أخبار من يحاول الحديث عنه، وألا يقف عند مصب نبع واحد يغترف منه، ويترك أنهاراً أخرى تطفح بالمعلومات التي تخدم بحثه، وتضفي عليه شيئاً من الجدة والإبداع. |
والرفاعي حينما يلتزم بهذا المعيار ويطالب الآخرين بالتزامه، إنما يطالب بالمثالية وذلك أمر صعب المنال، إن لم يكن من المستحيلات في عصرنا الحاضر، فالمثالية التي طالب بها الرفاعي هي شبيهه بالمدينة الفاضلة، التي عاش الناس المتطلعون إلى المثالية منذ التفكير في تلك المدينة حتى تاريخنا الحاضر وهم يحلمون بها، وسيظل أبناؤنا وأحفادنا يحلمون، ولن تتحقق. |
وإذا قال قائل إن مؤلف كتاب "أدباء سعوديون" قد تحدث عن سير بعضهم نثراً وشعراً ومنهم الأستاذ أحمد محمد جمال – رحمه الله – وهو من أنداد الرفاعي ولداته فكيف غاب عنه شعر الرفاعي وحرص على متابعة شعر أحمد جمال وهو قد هجر الشعر منذ فترة طويلة ولا يُعْرَفُ عند الجميع إلا بالعالم والكاتب الإسلامي، ويمكن الرد على هذا القول: بأن الأستاذ أحمد محمد جمال قد أصدر في ريعان شبابه ديوان شعر سَمَّاه "الطلائع" فأصبح هذا الديوان مرجعاً للذين يحاولون الكتابة عنه كشاعر، أما الرفاعي فقد عاش بعد أن بدأ رحلته الأدبية ما يقارب خمسين عاماً وهو يقرض الشعر، ومع ذلك لم تشهد المكتبات لهذا الصوت صدى، ولم يعرف له القراء مدى. وكل الدلائل التي يمكن الاستدلال بها على مكمن شعره مجهولة العنوان، وأقصى ما ظفر به القارئ كتيِّباً عنوانه "من يوميات مئذنة مكية" احتل الرقم "1" من سلسلة "من ديواني" التي تصدرها دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع، وهذا الكتيب ضم قصيدة واحدة من شعر التفعيلة كتبها الرفاعي قبل ستة عشر عاماً، وهذا النوع من الشعر لم يرق للكثير من المغرمين بالشعر العمودي والمدافعين عنه، ومن ناحية أخرى. فإن هذا اللون من الشعر لا يجد له منفذاً يتسلل منه إلى قلوب وألباب عشاق الشعر الحر الغارق في الأحاجي والألغاز، والمتدثر بمعمَّى الكلام، الذي يتخذ من الغموض سلاحه القوي في مواجهة أعدائه. |
لذلك لم يحظ كتيب "من يوميات مئذنة مكية" بما كان يتوقع له الرفاعي مما جعله يضمه إلى ديوانه "ظلال ولا أغصان" فقد تجد هذه القصيدة قُرَّاء من الطرفين بعد أن هدأت حدة التوتر بين الفريقين، أي أنصار الشعر العمودي وأنصار شعر التفعيلة. |
|