رسالة الأستاذ يحيى المعلمي |
إلى الأخ الأديب عبد العزيز الرفاعي |
تحية طيبة وبعد: |
فلقد استمتعت بترجيع القطعة الشعرية التي نظمها يراعكم في صدى عتاب الصديق الشاعر سراج خراز. لكنني أحسست أن لساني لا يطاوعني على ترديد بعض أبياتها التي وردت بها، ورأيت أنها تكون أخف على لساني لو كانت على الصفة التي سأوردها بها فيما بعد، وهذه الأبيات هي: |
همها أن تعيش في الروض |
غناءً حلواً ينساب في الوجـدان |
والغراب الخسيس ينعب في |
القصر همّـُه أن يعيش للديـدان |
أيه:شتان بـين صـوتٍ تمجُّـه |
الأذنُ ولحـنٍ يطيـب لـلآذان |
قـال: إن الأجـواء يملؤهــا |
الرعبُ ما بين مـارج ودُخـان |
أرسـل اللحـنَ وامـلأ الجـوَّ |
غناءً عذباً يهـزُّ سمـع الزمـانِ |
فاصـدح الآن بالأغاريد |
لكيما تشيع لحن السلام للإنسان |
خلِّ عتـبي يا شاعـر الوجـدانِ |
فلقد جف نبع شاعر الأغصـان |
|
ولقد ألح علي الفضول لتعديلها على النحو التالي: |
همُّها أن تعيش في الروض لحنـاً |
عبقرياً ينسابُ في الوجـدان |
والغراب الخسيس ينعق في |
القفر حقـيراً يعيـش للديـدان |
إيـه:شتَّـان بـين مـا تكرهُ |
الأذنُ ولحـن يطيـب لـلآذان |
قال: إن الأجواء تملؤهـا الرهبة ما بين مـارجٍ ودُخان |
أرسل اللحنَ وامـلأ الجـوَّ أنغا |
ماًعذابـاً تهـزُّ سمـع الزمـانِ |
فاصـدح الآن بالأغاني ورجِّـع |
منه لحنَ السلام للإنسان |
خلِّ عتـبي يا شاعـر الوجـدانِ |
فلقـد مـلَّ شاعـر الأغصـان |
|
فهل تراني على حق في ذلك، أرجو أن أقرأ ردك على صفحات جريدة عرفات وتقبل خالص شكري وتحياتي. |
|
ورد عبد العزيز الرفاعي على رسالة المعلمي ردَّاً رقيقاً، بدأه بالإشادة بالمعلمي فقال: منذ عرفت الأستاذ المعلمي، عرفته أديباً نشطاً يُعنى بمتابعة الحركة الثقافية هنا وخارج المملكة، وسرني أن أعود فأتابع تطلعه الثقافي في هذا النشاط الصحفي الذي يبذله ركن البوليس في جريدة حراء الغراء، ولقد اكتشفت الآن في الأستاذ المعلمي أنه ذواقة للشعر، ولا أستبعد أن تكون له محاولات شعرية ناجحة، أرجو مع غيري أن نقرأها قريباً". |
ثم أخذ يناقش المعلمي في اقتراحاته التي اعتقد الرفاعي أنها مجرد كلمات استبدلت بكلمات أخر، لكن المعلمي لم يقصد، وإنما أراد أن الأبيات المذكورة والتي أجرى فيها بعض التعديلات كانت أبياتاً مختلَّة الوزن فاختار كلمات عوضاً عن تلك الكلمات ليستقيم وزن كل بيتٍ، إلا أنه لم يوضح في رسالته مقصده، ولم يشر إليه من قريب أو بعيد وإنما ذكر أن لسانه لم يطاوعه في قراءة هذه الأبيات وترديدها، ومثل هذا الكلام المبهم يحتمل أكثر من معنى فربما تكون هناك كلمات في البيت لا تتناسب وسياق المفردات المجاورة سابقة ولاحقة، وقد تكون هناك كلمات لا تتناسب والعصر الذي نعيش فيه أي كلمات من العصور القديمة، أي كلمات ميتة لم تعد قادرة على الإنسياب إلى أعماق المتلقي، وقد تكون في البيت كلمات مبتذلة لاكتها الألسن حتى ضعفت وأصبحت غير صالحة للعطاء، ويعتبر وجودها في بيت ابداعيِّ نقطة سوداء تشوِّه جماله، وتخرجه عن دائرة الإبداع، دائرة الضوء والتميز، وهذا هو الهدف الذي فهمـه عبد العزيز الرفاعي من اقتراحات يحيى المعلمي. |
وهنا تأتي إجابة السؤال الذي طرحته في البداية عند كتابة القصيدة وهو ما السبب الذي دفع عبد العزيز الرفاعي إلى حجب هذه القصيدة عن النشر. الجواب حسب رأيي الخاص هو أن الرفاعي – رحمه الله – لمس عندما راجع هذه القصيدة أن عدداً من أبياتها يحتاج إلى تصحيح وزنها وأنها قد تعرضت للنقد، وأنه أجاب على ملاحظات الأستاذ المعلمي بما كان يراه صواباً في تلك الفترة حسب فهمه لمغزى تلك الملاحظات، ولعله أدرك عند عزمه على طباعة الديوان أن تلك الأبيات التي قام المعلمي بإصلاحها هي في الواقع مختلَّة الوزن فصرف النظر عنها، ولم يرغب أن يضم ديوانه شعراً لغيره ويدعيه لنفسه، والرفاعي – رحمه الله – حريص على ألا يضع نفسه في موقف حرج، ولا يرضى إلا أن يتبوَّأ المنزلة الرفيعة. |
ومعرفة العروض تهم الشاعر فبها يعرف مواطن الزحافات في شعره فيعمل على إصلاحها، وبقدر ما هي مهمة للشاعر فهي مهمة للناقد أيضاً. وعلم العروض فن استنبطه الخليل بن أحمد الفراهيدي – إمام أهل زمانه في اللغة والعروض كما وصفه الأولون – من قراءته للشعر العربي الذي قرأه خلال العصور المختلفة: الجاهلي، صدر الإسلام، والأموي والعباسي واستطاع أن يقعِّدَ له القواعد حتى يلمَّ بها القارئون، ويرجع الشعراء والنقاد على السواء إليه وقد ابتكر الخليل خمسة عشر لكل بحراً لكل بحر اسم وتفاعيل تختلف عن تفاعيل البحر الآخر، وهذا القول لا ينفي أن تكون هناك تفعيلات تشترك في وزن عدة بحور مثلاً: "مستفعلن" تدخل في تفعيلات بحر الخفيف والبسيط والسريع والرجز والمنسرح والمجتث والمقتضب. وقد استنبط الخليل من علل القوافي ما لم يستنبطه أحد، وما لم يسبقه إليه سابق. ثم أضاف الأخفش الأوسط – وهو أبو الحسن سعيد ين مسعدة تلميذ سيبويه – بحر المتدارك
(1)
وهو يتكون من ثماني تفعيلات كل شطر أربع تفعيلات هي: فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن. أما مجزوؤه فيتكون من ست تفعيلات كل شطر ثلاث تفعيلات هي: فاعلن فاعلن فاعلن وأصبحت بذلك بحور الشعر ستة عشر بحراً. |
وقد ظل علم العروض من العلوم التي يصعب على الكثيرين فهمها، مما جعل بعض شعراء القرن الرابع عشر وما بعده يلجؤون إلى هجر الأخذ بأوزان الخليل ويهاجمونها، ويبتكرون أنماطاً مختلفة من التعليلات لتحقيق أهدافهم ومن ذلك أن العروض بتفاعيلها وقيوداتها تحرم على الشاعر حرية الانطلاق، وتحول بينه وبين الإبداع، وتكون مراعاتها عبئاً ثقيلاً لا يرضى به الشاعر حملاً، وأسوأ ما توصلوا إليه في نهاية الأمر هو ابتكار قصيدة النثر أي رفع الحواجز بين القصيدة والمقال فما نعتبره مقالاً يمكننا أن نطلق عليه قصيدة وما يمكن أن نطلق عليه قصيدة نسميه مقالاً فلا فرق حينئذ بينهما إذا حذفنا ما يعوق التحامها، وهي دعوة تتبلور أهدافها شيئاً فشيئاً في أنها تسعى إلى تحطيم القيم العربية والإسلامية التي ورثها المسلمون والعرب عبر العصور عن سير آبائهم وأجدادهم الفاضلة، التي زينوا بها وجوه الأرض، وأقاموا بها صروح المثل العليا، وكانوا في سمائهم قناديل يهتدي بها السائرون. وجاء هؤلاء الداعون إلى تقويض كل ما بناه الأولون بحجة أنها أمور أكل عليها الزمن وشرب، ولم تعد صالحة لهذا الزمن. وعند انبلاج فجر النهضة العربية وتحرر بعض دولها من أغلال الاستعمار ومطالبة الآخر بالتحرر كانت تدوَّي في الأفق مقولة مدوية تخترق الآفاق وتلامس القلوب والعقول وكان يتغنى بها أبناء الشرق. تقول المقولة: "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" وكان لهذه المقولة دوي في بلدان الشرق يتناقلها الصغار والكبار يرددونها صباح مساء ويناهضون بها القوى الظالمة التي تحاول الاستيلاء على مقدرات الشعوب، وبسط نفوذهم على أبنائها. |
ولكن هذه المقولة خبا وهجها، وقل الناطقون بها بعد أن فتَّ الوهن سواعد أبنائها وأنشب الغرب أظفاره في عقولهم، ولعب حب التغريب بأهوائهم، فأصبحوا يقولون ما يقول، ويفعلون ما يأمرهم به، وهم يعلمون أو لا يعلمون أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم. وفكرة التحام الأضداد والتقائها فكرة سيئة تهدف إلى المساواة بين الأضداد أي رفع الفوارق بين الخير والشر، بين الرجل والمرأة، والمساواة بين القصيدة والمقال وهي التي بدؤوا ينادون بها منذ عشرات السنين واستطاعوا ان يجتذبوا إلى دعوتهم عدداً من أبناء الأمة الإسلامية والعربية، ولست أدري أكان أولئك الذين يسيرون على هذا النهج مُدركين ما يرتكبونه من جرم في حق لغتهم العربية لغة القرآن والتي يحاول الحاقدون عليها إذا آمنا أن قصيدة النثر هي نوع من الشعر، أن يتخذ أولئك من اعترافنا بدعواهم حجة لهم ليَصِمُوا القرآن بأنه نوع من الشعر، والله سبحانه وتعالى يقول: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" فهل يقلع هؤلاء الذين ألقوا بدلائهم في المياه الآسنة يغترفون منها، يشربون ويغتسلون، وبعد أن اطمان المنادون بقصيدة النثر أن دعوتهم بدأت تؤتي ثمارها وتلتهم عقول الشباب كما تلتهم النار الهشيم، ظهرت في السنوات الأخيرة دعوة تنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة، دعوة ظاهرها الرحمة: أي أن تأخذ المرأة حقها كاملاً في التعامل معها بإنسانية والرفق بها، وإصلاحها لتكون ربة بيت تحسن تربية أبنائها، وتكون راعية في بيتها تعتني بشؤون زوجا وأطفالها، أما باطن هذه الدعوة فشر وأي شر ومفسدة وأي مفسدة، ولقد عقدت لتوكيد هذه الدعوة مؤتمرات ومنتديات لتروج لها حتى ينخرط فيها من أعمى الله بصيرته. |
لقد جرتني قصيدة النثر إلى الخروج عما كنت أتحدث عنه وهو علم العروض واستكمالاً للحديث والبحث أقول: إن معرفة الشاعر والناقد بعلم العروض ليس فرض عين، فقد كان الشعراء قبل الخليل بن أحمد لا يعرفون بحور الشعر وإنما كان وزنهم للشعر بالسليقة، وبالغناء والترديد، ولكنه أي علم العروض أصبح بعد استنباط الخليل له فَنّاً يستحسن للشاعر أن يلم به حتى يتمكن من تقويم ما اعوجّ به من أوزان أبياته، فلا يتعرض للنقد من قبل القراء والمتلقين الذي يحسنون معرفة هذا العلم، أو من قبل الذين يتذوقون الشعر غناء ويعرفون معتله من صحيحه، فالغناء ناقد للشعر، ويروى أنه كان في شعر النابغة إقواء لم يفطن له إلا بعد أن سمع أهل المدينة يغنونه فعرفه. |
وإذا كان الرفاعي غير متبحر في علم العروض فإنَّ ذلك لا يعيب شعره فأكثر الشعراء في عصرنا الحاضر يجهلون علم العروض، وظهور قصيدة النثر تجعلهم أكثر جهلاً به. |
ومن هنا نستطيع أن نَعْرفَ سبب إحجام الرفاعي عن ضم هذه القصيدة إلى ديوانه وتركها في الأضابير على صدق رؤيته الفكرية في البداية الأدبية، شعراً كانت أو نثراً، فهو لا يستحسن نشرها بعد أن احتلَّ كاتبها مكاناً مرموقاً في الساحة، ولقد أشار إلى هذه الرأي في رده على سؤال بعث به إليه الدكتور وديع فلسطين حول جمع بدايات الأدباء الكبار ونشرها فقال: "لا أماري في قيمة نشر مقالات الأدباء الكبار على ما فيها من تفاهة أو غثاثة من وجهة نظر تاريخية محض، وهو عمل يهم الباحثين في الأعماق، ولكنه لا يصح للقارئ العادي. من جهة أخرى ألا ترى أنه يذهب بألق الكاتب من عامة القراء" وهذا النص سبق ذكره عند الحديث عن أسباب امتناع الرفاعي عن جمع بداياته الأدبية ونشرها. |
وفي مقدمة المجموعة الشعرية للشاعر الأستاذ محمد عبد القادر فقيه كتب الرفاعي في الصفحة الثلاثين من المجموعة ما يستشف منه عدم موافقته على نشر البدايات أياً كانت شعراً أو نثراً، لهشاشتها وضعفها حيث قال: "وما دام الشاعر قد فعل ذلك، ولم يحجب من شعره، إلا ما رأى هو حجبه لسبب ما، فقد دلنا على مراحل من تاريخه الأدبي إذ اشتملت المجموعة على شعر النشأة والصبا، وعلى محاولات شعرية دلتنا على تلك البدايات التي كانت نواة هذه الدوحة الشعرية التي أمامنا وهي باذخة وارفة، فلا عجب إن جاء في شعر البدايات شيء من هشاشة البدء، وهي مرحلة التطور الأولى التي يمر بها كل شاعر". |
وهو كثيراً ما يلوح بأن شعره ليس شعراً وإنما هو مجرد محاولات وهذا القول مردود وما هو إلاَّ تواضع يرفع منزلته، فديوانه جمع فيه مجموعة من القصائد الراقية وهناك ترقى به إلى درجات الفحولة حسب المعايير التي وضعها نقاد الشعر الأولون. فها هو يقول عن نفسه في الصفحة 86 من العدد 187 من مجلة الفيصل: "ولكن لا ينبغي أن أغفل عن حقيقة لا يجوز إغفالها... هي أن صديقي، إنما هو شاعر بحق... من أول يوم عرفته فيه حتى كتابة هذه السطور، وله كما قلت ديوان كبير، أما أنا فلا أولي الشعر اهتماماً فإن حاولته في ساعات فراغي فذلك لن يبعد عن محاولة حل الكلمات المتقاطعة واعتدت أن أحتفظ بهذه التسليات النظمية لنفسي، ولا أطلع عليها إلا الخاصة من أصدقائي، بل خاصة الخاصة منهم، ليشاركوني التسلية، وأخي محمد عبد القادر فقيه.. في مقدمة أولئك الخاصة، بل أحسبه قد اطلع على كثير من السخافات التي لم يطلع عليها سواه، وهو عليها الأمين المؤتمن". |
ومثل هذا الوصف لشعره تكرر كثيراً عند الحديث عنه، وما ذاك إلاَّ من تواضع الكبار، التواضع الذي يأخذ بيد صاحبه ليضعه في أعين الناس كبيراً، ويضع الناس الذين من حوله الآخرين هالة تحبب من أنفسهم له فيه، وتفرش القلوب له شرايينها ونياطها وشغافها ليتخذ منها رياضاً وسكناً. |
|