شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تحليل العنوان
لم يقم أحد بالكتابة عن عنوان ديوان عبد العزيز الرفاعي "ظلال ولا أغصان" وغاص في الأعماق باحثاً عن المعاني المتوارية عن السطحية، إذا استَثنيتُ الدكتور محمد مريسي الحارثي الذي أعطاه من البحث والتدقيق ما يستحقه، فقد أحصى معاني الظلال، وبيَّن أن ظل الجنة هو الظل الدائم المستمر، وتطرق في بحثه إلى معنى "الظلال" في قوله صلى الله عليه وسلم: الجنة تحت ظلال السيوف ثم علل ظلال الرفاعي فقال:
"لعل ظلال الرفاعي التي لا تنتمي إلى محسوس هي المعادل للذَّةِ والمعاناة الإبداعية التي يتفيأ المبدع ظلالها، وذلك بإبحاره الدائم المستمر في اقتناص شواردها، إذ كلما تعصت عليه تلك الشوارد، زاده ذلك إمعاناً في تطلبها، ولذَّة في حركة ذلك التطلب، ومن هنا تصبح الظلال بلا أغصان وبلا محسوس هي غاية النفس المبدعة في نظر الرفاعي" ثم يتساءل الدكتور الحارثي فيقول: "فهل تكون رحلة الظلال الإبداعية هي رحلة التهويم خارج الحركة الفطرية؟.
ثم يواصل تحليله ويتحدث عن الظلال فيما وراء المحسوس، ويعرج في حديثه على معنى الظل في قوله سبحانه وتعالى: فسقى لهما ثم تولَّى إلى الظل فقال رب إنِي لما أنزلت من خير فقير.
وبعدئذٍ نطالع النص الآتي مباشرة بعد الآية الكريمة يقول الدكتور الحارثي: "وإذا ما تجاوز الظل دائرة الحسية إلى فضاء المجاز، كان الارتماء في أحضانه نوعاً من السبح في عالم آخر تشكلت حدوده من خليط من الخيال والوهم.
وتبدو رحلة الرفاعي في ظلال ولا أغصان رحلة إلى المجهول، بل قل إلى اللاشيء، فالظلال التي هي مقصد الرحلة في حكم العدم، وعدمها مبني على انعدام السبب "الأغصان" إذ نفيُ السبب نفي للمسبب".
يقول الدكتور الحارثي في تحليله لظلال الرفاعي: إنها لا تنتمي إلى محسوس. وهذا وهم من الدكتور فالظلال التي عناها الرفاعي تنتمي إلى محسوس هي الأغصان مصدر تلك الظلال، التي ظلت مصاحبة لها، طيلة حياتها، وبعد مماتها.
وفي رأيي أن العمل الإبداعي في ذاته عمل محسوس، واللذة التي يشعـر بها المبـدع بعد الانتهاء من عمله المبدع ما هي إلا ظلال للعمل الإبداعي المحسوس، ولا يتصور أن تأتي ظلال من غير كائن محسوس، ومن قال بإمكانية ذلك فإنما يؤمن بوقوع المستحيل والمستحيل هو ما لم يمكن حدوثه، ولا يصح رأي الدكتور الحارثي إلا في حالة اعتبار الرفاعي الأغصان أنها الأشياء المعنوية التي شملها فهرس ديوانه وهي: ظلال الدعاء، ظلال الوجدان، ظلال الطبيعة، ظلال المناسبات، ظلال الصداقة.
لكنَّ عبد العزيز الرفاعي في النص الثاني الذي تحدثنا عنه عند دراسة مقدمة الديوان كان أكثر وضوحاً أزال عن نصه الأول ما غشيه من الغموض، وغير هيكله تغييراً جذرياً بحيث أصبح يتطابق مع العقل والمنطق ويصون قراءه من التشتت في أودية التحليلات غير المجدية. وقد جاء في بداية الفقرة الأخيرة من الصفحة العاشرة من ديوانه "ظلال ولا أغصان" قوله: "فقد كانت هناك في الغابة أغصان" والغابة لا تسمى غابة إلا إذا كانت تحتوي على أشجار كثيفة، والأغصان لا تأتي إلا إذا وجدت الشجرة فلا يعقل أن تنمو أغصان في غابة دون أن تكون لها أشجار ذوات سوق وجذور.
ثم جاء في النص هذه الجملة "وكان لي فيها أشجان" وهذه الجملة لم ترد في النص الأول، والأشجان هي ردة فعل لأحداث أو أعمال ذات تأثير قوي على النفس البشرية، والذكريات قد تكون إحدى تلك الأحداث، لكنها ليست الأغصان ولا الظلال، قد يكون للذكريات تأثير على الأغصان ومن ثم الظلال، إذا ظللنا متمسكين بأن الظلال والأغصان ما هي إلا أشعار الرفاعي المنشورة وغير المنشورة، ولكني لا أميل إلى هذا الرأي.
والجملة التالية التي وردت أيضاً في النص وهي "أما الأغصان فذوت" وهذا أمر طبيعي يحدث لكل الأغصان عندما يحين موعد شيخوختها، أو تعرضها لأوبئة فتَّاكة، لكن الرفاعي هنا لم يقل: صرامة الطبع حجبتها، وإنما أردف قائلاً: "وأما الأشجان فانطوت وقد رأيت أن أحجبها" إذن فالتي حجبها هي الأشجان وليست الأغصان. أليس في الأمر ما يدعو إلى الدهشة، والاستغراب والتعجب؟ ألا يعني أن النص الأخير هو السليم عقلاً ومنطقاً، ويستمر الرفاعي فيقول: فما عاد لها اليوم مكان إلا في الأعماق، وما كان في الأعماق قلما يطفو وهو يتحدث عن الأشجان التي لا يتناسب وجودها مع الحالة التي يعيشها، لأنها ذكريات عن فترة زمنية سابقة كانت لها ردود فعل نفسية يجدر بها أن تظل بعيدة عن الضوء حبيسة في الأعماق حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ثم قال: "وقد كان للأغصان ظلال" والرفاعي هنا يثبت أن الأغصان كانت موجودة وأنها تعرضت إما للجفاف أو للقطع أو اقتلعتها سيول جارفة حتى أصبحت من غثاء السيل. ولذلك فالظلال موجودة عندما كانت الأغصان موجودة، والظلال ليست بالضرورة هي الظلال الحقيقية ولكنها استخدمت لتعبر عن أعمال الشاعر وآثاره ومثل هذه الظلال تظل باقية بعد انتقال المصدر الذي تنتمي إليه إلى عالم آخر. ولنأخذ من أنفسنا مثلاً فالمرء يولد من رحم أمه ويخرج إلى هذه الدنيا دون أن يكون له اسم يعرف به، ثم يتفق أفراد الأسرة على تسمية المولود، ويأخذ الاسم المعطى له وضعاً رسمياً بحيث يظل الاسم مرتبطاً به وملازماً له كملازمة ظله، فإذا حانت منيته ورحل عن هذه الدنيا فهل يبقى اسمه أم ينتهي ويُنسى؟ الواقع أن اسم الإنسان من الظلال التي تبقى بعد موت صاحبها، وما زلنا نسمع ونردد أسماء كثيرين بقيت ظلالهم تتحدث عنهم، وتروي أخبارهم التي لا يعرف كل القراء عنها شيئاً. يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
دقات قلـب المـرء قائلـةٌ لـه
إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعد موتِكَ ذكرَها
فالذِّكرُ للإنسانِ عمرٌ ثانِ
وعند هذه النقطة تكون الحقيقة قد وضحت تماماً، وتلاشى الغموض الذي صادفنا عند قراءة النص الأول عن الأغصان والظلال والذي كتبه الرفاعي ليمثل ذر الرماد في العيون حتى تعشى فما ترى ما بعدها، وقد يكون الرفاعي أراد بذلك أن يعلم قرَّاءه الحلم والأناة وهما خصلتان من خصاله الحميدة الجمة التي يتحلى بها، فلا يسرع أحدهم في تحليل أقواله وإبداعاته، بل عليه أن يتقيد بما أشار إليه الشاعر العربي القطامي حيث يقول:
قد يدرك المتأنـي بعض حاجتـه
وقد يكون مع المستعجـل الزلل
ولهذا بادر الدكتور محمد مريسي عندما وجد نصاً مثيراً فيه من المستحيلات ما تجعل منه نصاً صالحاً للإثارة،، والإشادة في آن واحد، وأنه نص جمع المتناقضات في جلبابه مما جعل الدكتور الحارثي يصف صاحب النص بأنه تفيأ ظله وانتعله في آن واحد. كما أنه يصر على "أن الأغصان التي فقدت ذاتها المحسوسة حسب – نظرته الخاصة – ولم تفقد أثرها الظلي هي ذلك الجزء الهام من شعر الرفاعي الوجداني الذي أسقطه من ديوانه، ولم يخرجه ضمن قصائده" وهذ القول للدكتور الحارثي ورد بالصفحة 161 من كتابه "عبد العزيز الرفاعي أديباً".
والرفاعي لم ينكر أن: الظلال كانت تستمد وجودها من الأغصان، بدليل قوله: "وقد كان للأغصان ظلال، ولا ضير أن تطفو الظلال" وهاتان الجملتان وردتا ضمن الفقرة الأخيرة من مقدمة الرفاعي لديوانه "ظلال ولا أغصان" وللفائدة أورد الفقرة كاملة وهي:
"إذن فقد كانت هناك في الغابة أغصان، وكان لي فيها أشجان، أما الأغصان فذوت... وأما الأشجار فانطوت، وقد رأيت أن أحجبها فما عاد لها اليوم مكان في الأعماق.. وما كان في الأعماق قلما يطفو، وقد كان للأغصان ظلال.. ولا ضير أن تطفو الظلال، فهي أيضاً جزء من النفس وحديثها.. وهو حديث قد يعجب القراء، وقد لا يعجبهم، بل إنني على يقين أنَّها ستترك مجالاً رحباً للناقدين".
وقد حاولت قدر جهدي تحليل هذا النص في الفصل السابق المعنون "بدايات عبد العزيز الرفاعي الشعرية" وأحيل القارئ الكريم إليه لعله يجد فيه ما يفيد، ولكنني أحب أن أضيف هنا أن عبد العزيز الرفاعي تحدث عن الأغصان والظلال في مقدمته في موضوعين مختلفين، وأعطى لكل منهما معنيين متناقضين ففي الصفحة السادسة من الديوان قال: "وكان الترتيب الطبيعي أن يأتي شعر العاطفة قبل، فهو نفس من الوجدان.. أي كان من الطبيعي أن تأتي الأغصان أولاً، ثم تزحف الظلال.. ولكن أبَتْ صرامة في الطبع إلا أن تحجب الأغصان، وتسمح للظلال، ويوشك أن يكون في الأمر شيء كالمستحيل.. ولكن هكذا كان "وهكذا هو الذي بنى عليه الدكتور الحارثي تحليله عن الظلال والأغصان. وأعتقد أن الرفاعي قد أوجد هذا النص ليصرف به نظر القارئ عن النص الثاني ويشغله به رغم أنه ينبه القارئ أن في نصه هذا ما يشبه المستحيل، بل هو المستحيل فلا يمكن للعقل أن يقبل وجود فرع لأصل غير موجود، والمثل الذي ضربه الدكتور الحارثي للظلال التي لا تنتمي إلى محسوس والتي ذكرها في بداية السطر الخامس من الصفحة 158 من كتابه "عبد العزيز الرفاعي أديباً" فقال: "ولعل ظلال الرفاعي التي لا تنتمي إلى محسوس هي المعادلة للذة والمعاناة الإبداعية التي يتفيأ المبدع ظلالها" فاللذة هنا ليست ظلالاً إلى غير محسوس وأنا أرى أن الأغصان والظلال قد تخلصت من إلصاق صفة الشعر بها بعد أن بيَّن الرفاعي في نصَّه الأخير أن الأشجان هي التي حجبها بعد أن انطوت، وأسكنها أعماق الأعماق ومعنى ذلك أن الأشجان هي التي تمثل مرحلة الصبا والمراهقة والشباب التي حجب الأشعار التي نظمها في تلك المرحلة، وما من شك في أن الشعر في تلك المرحلة يكون مشبوباً بالعاطفة الجياشة، وبالأشواق الملتهبة في المشاعر المتحفزة. لكنني لم أظفر فيما عثرت عليه من قصائد ما يُمثل تلك المرحلة أو لنقل على شيء يقدح في العرض أو الشـرف أو في مكارم الأخلاق، وقد ذكرت في الفصل السابق نماذج من أشعار تلك المرحلة وكلها تعلن صراحة وتؤكد أن الرفاعي لم يجنح عن الطريق السوي حتى في قصائده الغزلية فإن حاد قليلاً واستخدم عن غير قصد كلمة فيها حرارة العاطفة فسرعان ما يتبعها بكلمة تمحو أثرها متمثلاً بقوله تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :634  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 69 من 94
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.