النموذج الخامس |
هذا النص ورد في كتاب "عقود الجمان" الجزء الثالث صفحة 207 وهو من تأليف الفريق يحيى العلمي، وقد أستأذن الفريق يحيى في أن أورده في مؤلفي هذا فوافق جزاه الله خيراً. |
النص ورد دون ذكر عنوان له ودون تاريخ، وقد قدم له الفريق يحيى بهذه العبارة "ومن الشعر العاطفي الذي طواه الشاعر عبد العزيز الرفاعي هه القصيدة". ثم أورد القصيدة وهي مجزوء الرجز: |
ناعسة العينين هـل أقـولُ مـا أغـراك بـي؟ |
بمرهقٍ من السنين من ركام التَّعبِ |
يكاد لا يبصر في الطريق ومض كوكبِ |
جاوزت يا فاتنتي حَدَّ الصِّبا واللعبِ |
ما عاد يلهو بي الهوى إلا بقايا لهبِ |
لشاعرٍ جمِّ الصبابات عفيف المشرب |
من عَجَـبٍ فاتنـتي لا أنقضـي مـن عجـب |
أسأل هل يمشـي الصِّبـا علـى دروب الأشـيبِ؟ |
والوردة البيضـاء هـل تهفـو لجـذع الحَطَـبِ؟ |
هل يحلـم الخصبُ النـديُّ بالجفـاف المجـدب؟ |
وهل يحبُّ الفجـرُ – وهو الفجـرُ – ظـلَ المغـرب؟ |
ضـدان يا فاتنتي نحن فلا تقتربي |
|
هذا النص أثار أمامي أكثر من سؤال، فهل كتب الرفاعي هذا النص بعد أن تجاوز الستين من عمره وقارب السبعين؟ أم قاله في عهد الشباب وظل تحت صرامة أمَّه منقاداً أو لنقل مطيعاً، ولا يريد أن يشوه صورته لديها، بعد أن طبعت في خلجاتها وذاكرتها صورة رائعة لم يسبق لها أن تحاول التَّزلُج على جبال جليد الهوى، وكيف يتسنى له ذلك، وهو لا يجد من الوقت متسعاً يمكنه من تحقيق هذه الرغبات، فقد كان وقته عامراً بالعمل وبالقراءة والكتابة الجادة الموجهة، وأن انعدام المسببات التي غالبـاً ما تكون وسيلـة أو مركبة يمتطيها الشباب إلى مسارح اللهو، ومن ثم الوقوف على منصات الحب في زهو وفخر والتغني بذلك قد صانه من الوقوع في دوامة الملذات العاطفية، وكيف يحاول أن يقترب من هذه المواضع، وهو قرأ: |
إنَّ الشباب والفراغ والجدة |
مفسدة للمرء أي مفسدة |
|
لقد حماه الله شر اثنتين: الفراغ والجدة، فلم يكن للفراغ في شباب الرفاعي مكان فهو منهمك صباحاً في دراسته، ومنهمك مساءً في عمله الذي يساعد به أمه في تلبية طلبات أسرته الضرورية من مأكل ومشرب ومسكن، وقد أشار الرفاعي في قصيدته "سبعون" إلى ذلك حيث يقول: |
إني لدى التعريف ربـع مثقف |
صحب الكتابَ، فلم يخنه كتابُ |
هو في دمي عشقُ الطفولةِ والصبا |
فهو الهوى، واللحن، والأحباب |
فـإذا انتسبت فإن لي في حرفـه |
نسبـاً يشـوقـني إليـه إيـاب |
|
ويقول في نفس القصيدة في موضع آخر: |
ركَنَتْ إلى السفح القريب مطامحي |
والسفح لا يهفو إليـه عقـاب |
لك أن تلوم فما جحدت مسيرتي |
قامت على الدرب الطويل صعاب |
إني أخذت من الليالي صفوهـا |
نزراً وقلت: النزر منكِ رضـاب |
وحمدت من أسدى الرضابَ فَطَالَما |
لم تَحْظَ منـه بقطـرة أكـواب |
|
وفي هذه الأبيات والأبيات التي سبقتها يحدد لنا عبد العزيز الرفاعي لُبابَ مسيرته، فهو لا يعرف في طفولته وصباه إلا الكتاب الذي اتخذه حبيباً وجعل منه روضه الذي يأوي إليه، ويقتطف من زهوره وثماره ما يشاء ويختار، وجعل منه رمز حبه وهواه، ومن كلماته ومن حروفه، ومن شعره ونثره صاغ أعذب الألحان، وعزفها في الآصالِ والأسحار. |
وإذا كان حب الكتاب وعشقه قد حرمه من التمتع بالألعاب التي يتمتع بها لداته، ولم يقده إلى الذرى، وأن طموحاته استحبت أن تعيش بعيداً عن الأضواء، اعتقاداً منه أن بلوغ القمم ينذر بالزوال يقول الشاعر: |
إذا تم شيء بدا نقصه |
ترقب زوالاً إذا قيل تم |
|
وقال الآخر: |
ما طار طير وارتفع |
إلا كما طار وقع |
|
لذلك تلمست طموحاته سفوح الجبال وكأني بالشاعر عمر أبي ريشة قد عناه فيمن عناهم بقوله: |
أصبح السفح ملعباً للنسـور |
فاغضبي يا ذُرا الجبال وثوري |
هبط السفح طاوياً من جناحيه |
على كـل مطمـح مقبـور |
نسل الوهن مخلبيـه وأدمـت |
منكبيـه عواصـف المقـدور |
والوقـار الذي يشيـع عليه |
فضله الإرث من سحيق الدهور |
|
وإذا رجعنا إلى قصيدة الرفاعي لوجدناها ملئت صوراً قاتمة، والشاعر ما زال شاباً غض الإهاب، ينتظر منه الإبحار في أعماق البحار، حتى يستخرج من بطونها اللؤلؤ والمرجان لكنه مال إلى أن يغلف شعره بغلاف قاتم تشعر وأنت تقرؤه بأنه يعبر عن الحرمان الذي يعيشه، والذي يحس به لكنه غير نادم على ذلك، فقد عوضه الله عن ذلك بالصبر والأناة، وعصمه من شرور هوى النفس. |
والقارئ للقصيدة عندما يقرأ مطلعها يظن أن الرفاعي قد وقع في حباله إحدى الجميلات، لكنه يسألها عما رأته فيه من المغريات التي جعلتها تنصب له شركها ليقع فيه، فحاول أن يصرفها عن دربه، فاختلق من الأسباب التي آمن هو بصحتها، دون أن يؤمن غيره، لأن تلك الأسباب لم تكن منطقية، ولا مطابقة للواقع فهو يقول عن نفسه لتنفر منه: إنه رجل حطمته السنون، وأضناه ما تراكم من أعباء الحياة عليه فأرهقه تعباً وقد أصبح شيخاً ضعيف السمع والبصر، وأنه قد تعدَّى مرحلة المراهقة والشباب. لكنه في البيت الخامس يستدرك ويُبقي لها خيطاً من الأمل فيقول: |
ما عاد يلهو بي الهوى |
إلا بقايـا لهـب |
|
وبقايا اللهب قد يكون سبباً في نشب حريق يأكل الأخضر واليابس يقول الشاعر: |
أرى تحت الرماد وميض نـار |
وأخشى أن يكون لها ضـرام |
|
ويربط الرفاعي بين البيت السابق وهو: |
ما عاد يلهو بي الهوى إلا بقايا لهب |
|
بالبيت التالي: |
لشاعرٍ جمِّ الصباباتِ عفيف المشرب |
|
ويقصد أنه لم يبق له في الهوى إلا بقايا لهب مؤكداً أن هذا الشاعر كانت له مواقف غرامية كثيرة في ساحات العشق والوجد، ولكن عفافه قد صانه من أن يشرب من أي مشرب دنسته أيد غير نقية ولا شريفة، ولو سألنا أين هذه الصبابات؟ ومتى اتصف بها؟، ومتى انقرضت وانتهت، وانطفأ أوارها؟، وهو ما زال في فترة احتدامها، وشدة اضطرامها فلن نجد أجوبة لهذه الأسئلة إلا أن أقول: إن الرفاعي في مراهقته وشبابه كان يعيش أحلام اليقظة بصفة قد تكون يومية، وهذه الأحلام تنقل الإنسان في لحظة من الطفولة إلى الشيخوخة، وفي تلك اللحظة يحقق له خياله من الأحلام ما لا يستطيع تحقيقه على الواقع. |
ثم ذكر الرفاعي في قصيدته أنه يعيش في عصر المفاجآت والأعاجيب فما ينتهي من عجب حتى يفاجأ بعجب آخر يشغل عليه نفسه، ويلوي زمام تفكيره، ولعل أعجب الأعاجيب التي واجهته هي فكرة إمكانية الجمع بين الضدين واثار حول هذا الموضوع عدة تساؤلات: |
1- هل ريعان الصبا وجماله وتدفقه بالحيوية يرغب أن يكون كالشيخوخة عندما يشتعل الرأس شيباً، ويصمت القلب هموماً؟ فالجواب بالنفي. |
2- هل يتمنى الخصب وهو ذو الخضرة والنضرة أن يعود قفراً جديباً. |
3- هل تحب الوردة أن تسند ظهرها على جذع حطب تعرف أنه قد فقد عطاءه وحيويته وأصبح في عالم الجمادات وتترك غصونها الميادة. |
4- هل يحب الفجر وهو بسمة تطل من بين شفتي اليوم (السحر والشروق)، أن يلبس ثياب الغروب الملونة بصفرة المغيب وحمرة الشفق. |
والإجابة على هذه الأسئلة جميعاً النفي هذا ما قرره عبد العزيز فقال: |
"ضدان يا فاتنـتي نحـنُ فـلا تقتربـي" |
|
وهذا كلام تقريري سليم فلا يمكن الجمع بين الضدين، فلن يجتمع الخير والشر في تركيبة واحدة، ولن يجتمع الليل مع النهار، ولن يجتمع الإيمان مع الكفر في قلب الرجل وفي الدين الإسلامي المرأة الأجنبية والرجل الأجنبي ضدان يحرم اجتماعهما. وهذه قاعدة لا يختلف عليها اثنان سارت على ضوئها جيلاً بعد جيل. |
غير أن عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - ناقض هذا الرأي فقال في قصيدة عنوانها "صدى عتاب". سيأتي الحديث عنها تحت عنوان "قصائد منسية". |
إن معنى الحياة، أن يلتقي الضدان الخوفُ في ركب الأمان. فهل أصاب الرفاعي أم لم يصب؟ ليس من شأني أن أصدر حكماً في ذلك لأن مثل هذه الأمور لها اختصاصيون يعلمون ظواهرها وخوافيها، وهم أكفأ وأجدر بأن يتولوا معاجة هذه الأمور. |
|