فراشة |
تراقَصًتْ في الضٍِّياءِ الثرِّ وانعطفتْ |
نحو الغديرِ وحَيَّتْ نغمةَ الشَّـادي |
فراشةٌ لبستْ ثوبَ الربيع وقَـدْ |
راحت، تَدِلُّ به في تِيهِهَا البـادي |
ثوباً تتوق به الحسناءُ، تحسُدهـا |
عليه لو حفلت يومـاً بِحُسَّـادِ |
شتَّان للحسن.. أيدي الناسِ تصنَعُهُ |
و للجَمالِ حَفِيًّـا جـدُّ منقـاد |
حديقةٌ في جناحٍ رقَّ وانسكبـت |
فيه الأشعة من طيف السنا الهادي |
|
التحليل: |
هذه قصيدة شاب في الحادية والعشرين من عمره نلمح فيها بدء نضوج الشاعرية لديه، وإن لم يكتمل نضجها لكنها تصعب على كثير ممن هم في سنه أن يصلوا إليها. |
لقد ذكرت في فقرة سابقة أن عبد العزيز الرفاعي سكن عام 1361 بمدينة الطائف وتولَّى تعليم أبناء أسرة من الأسر ذات المال والجاه، ووجد الفراغ والراحة التي هيأت له الفرصة في الابحار بسفينته في بحور الشعر فكانت هذه القصيدة من القصائد التي جادت بها قريحته في تلك السنة. وربما لم تكتمل القصيدة إلا بعد ذلك إنما مطلعها يصرخ بأنه ولد في الطائف، والحجة التي لا تحتاج الى دليل ذكر الشاعر في المطلع كلمة "الغدير" وليس في مكة ولا جدة غدير إنما الغدير في الطائف، ويطلق عليه "غدير البنات". |
وأذا حاولنا أن نحلل هذه الأبيات تحليلا مبسطاً لجاء التحليل هكذا. |
في البيت الأول وصف الشاعر إحدى الإناث تتراقص في نهر من الضياء كأنما هي تستحم فيه، ثم تركته مسرعة الى غدير حوله الارض مخضرة والأشجار مزهرة أو مثمرة ثم ألقت تحيتها على من كان حول الغدير منتظراً تحقيق ميعاد، أو متنزهاً أو مترقباً، وكانت تحيتها رقيقة، فيها رقة تشبه تلك الرقة المنبعثة من فم شادٍ عذب الألحان. دون أن ندرك في هذا البيت من هي تلك الأنثى التي اغتسلت بالنور، وهرولت الى الخضرة والماء واكتمل بها عقد الثلاث الذاهبات الحزن والتي اوضحها الشاعر في قولها: |
ثلاث تذهب عن قلبي الحـزن |
الماء والخضرة والوجه الحسـن |
|
في البيت الثاني فاجأنا الشاعر وذكر أن تلك التي وصفها في البيت الأول هي فراشة، لكن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ هل هي فراشة حقاً من تلك الفراشات التي نعهدها تعشق ضوء المصابيح ثم تلقي بنفسها فيه حتى تحترق، فيصدق عليها حينئذٍ مقولة القائلين "ومن الحب ما قتل" أنا في رأيي وقد يكون رأياً خاطئاً أنها غير ذلك، لأن الفراش بهذا المعنى أحمق وطائش، وقد أشار الله سبحانه وتعالى بقوله: يوم يكون الناس كالفراش المبثوث المنتشر الطائر على غير هدى، وأوضح الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المعنى بقوله: فتتقادع بهم جنبة السراط تقادُعَ الفرائش وفي الأمثال قيل "أطيش من فراشة" و "في لسان العرب" ورد معنى الفراش "بالحشرة التي تطير وتلقي نفسها في ضوء السراج" فالذي يلقي بنفسه في التهلكة ليس بعاقل، أذاً فالتي اغتسلت بالضياء، ثم أخذت سبيلهـا لتكمل رحلتها مع الفتنـة. والسحر والجمال والحب تلك فراشة عاقلة ليست من جنس الفراشات البُله لا سيما إذا علمنا أن الشاعر كان في ذلك الوقت في عنفوان شبابه ويمر بمرحلة من أصعب مراحل حياة الإنسان، ولداته في تلك الفترة ربما تجود قرائحهم بالكثير من شعر الغزل الرقيق الحي دون أن يضطروا إلى ربطه بالحيوانات والحشرات والأموات. |
صحيح أن عبد العزيز الرفاعي كان محاطاً بسياج حديدي داخل البيت وخارجـه لا مفر له منـه، ولذلك لجأ إلى هذه الوسيلة للخلاص من الأسر الإجباري الذي فُرِضَ عليه أو بالأصح فرضه على نفسه. |
ولنتابع تحليل البيت الثاني يقول الشاعر: إن الفراشة لبست ثوب الربيع وهو هنا لا يعني إلا الفتنة والجمال المتمثلين في الخضرة وحسن الرواء وهو زخرف الأرض وزينتها إذن هذه الفراشة اختارت أجمل ما في الحياة وخاطت منه ثوباً لها تدل به بين الحسان، وكيف لا تدل به تائهة تيهاً يسحر الألباب، ويسكر العيون، ويهز القلوب التي في الصدور وهي التي صنعت من الضياء بحيرة تستحم فيها، وجعلت من الغدير، وما يحيط به من أشجارها خيمة لها، فرشها من السندس الأخضر. |
هذه التي لبست ثوب الربيع ليست فراشة طبيعية لأن الفراشة الطبيعية خلقها الله بثوبها. ولا حاجة تدعوها إلى أن تلبس ثوباً آخر فوق ثوبها وهذه حجة أخرى تؤكد رأيي في أن الفراشة التي يتحدث عنها الرفاعي هي فراشة من جنس آخر غير جنس الفراشات. |
ويقول الشاعر- رحمه الله - في البيت الثاني: إن هذا الثوب الذي لبسته الفراشة تتمنى الحسناء وتشتاق أن تلمسه لكنها في الواقع لا تكتفي بالتمني والاشتياق وإنما تحسدها عليه لو أن هناك حساداً يحفلون بها، ولست أدري لمن يعود ضمير الغائب في كلمة "حفلت" فإن قيل: إنه يعود على الفراشة، فذلك أمر مستبعد، فليس هناك أية حسناء مهما تكن درجة حسنها تتطلع الى أن ترتدي جناح فراشة، وإن قيل: إن الضمير يعود على الحسناء فللقائلين بهذا وجه حق، فكل حسناء لا تخلو من الحساد، غير أنني أرى أن جمال الوجه والبشرة وحسن المنظر والهندام، واستخدام وسائل الزينة ليست وحدها التي تغري الحساد، بل هناك فضائل ومكارم هيأ الله لها ألسنة حسادها لتكون وسيلة إعلام عنها، قال الشاعر: |
وإذا أراد الله نشر فضيلة |
طويت أتاح لها لسان حسـود |
|
ولننتقل إلى البيت الرابع من المقطع الشعري الذي اخترته من قصيدة "فراشة" للشاعر عبد العزيز الرفاعي – رحمه الله -؛ يقول الشاعر: |
شتان للحسن.. أيـدي الناس تصنعـه وللجَمـال حفيًّـا جـدَّ منقـاد |
|
هذا البيت مأخوذ معناه من بيت أبي الطيب الذي ورد في قصيدته التي مدح بها كافور والتي مطلعها: |
من الجآذر في زي الأعاريـب |
حُمرِ الحُلى والمطايا والجلابيب |
|
والبيت هو: |
حسن الحضارة مجلوب بتطرية |
وفي البداوة حسن غير مجلوب |
|
والرفاعي يقول في بيته هناك فرق بين الحسن الذي يصنعه الإنسان مستخدماً كل وسائل الزينة الحديثة من مساحيق ومكياج وروج وأنواع شتى من البودرة، والدهون وغيرها، وبين الجمال الطبيعي الذي تنقاد إليه النفس، وتنقل النظرة إليه سر سحره وروعته إلى القلب الذي لا يتمالك فيهتز طرباً. |
أليس هذا المعنى هو نفس المعنى الذي تضمنه بيت أبي الطيب؟ إن لم يكن نظيره، ومنطبقاً عليه تمام الانطباق، فإن صلته به قوية. |
أما البيت الخامس وهو البيت الأخير من المقطع المختار فيقول الشاعر الرفاعي فيه: |
حديقة في جناحٍ رقَّ وانسكبت |
فيه الأشعة من طيف السنا الهادي |
|
هذا البيت أجمل وأبدع وأروع بيت في هذا المقطع، فالجملة الأولى وهي "حديقة في جناح" تشبيه بليغ عند أصحاب البديع، يحمل صورة رائعة تنحني الأقلام أمامها إعجاباً، هذه تمثل قدرة الشاعر المبدع على الإتيان بالصور الخلاَّبة التي يقف القارئ طرباً عند قراءتها، فهذا جناح صغير رقيق كيف نمت به حديقة ذات أشجار وبهجة، تنوعت أزهارها، وتشكلت ألوانها الزاهية التي جمعت ألوان الطيف عبر حاجز ضوئي هادئ. لم تكن حديقة حقيقية وإنما هي زخارف زيَّن الله بها جناح الفراشة غير أن الله ألهم عبد العزيز الرفاعي أن يصورها شعراً داخل إطار فني رفيع لغة وسبكاً وتصويراً. |
وقد عنَّ لي أن أنسب هذه المقطوعة إلى الشعر الرمزي لولا هذا البيت إلا إذا قصد الشاعر بالجناح أحد الأجنحة المفروشة في الفنادق الكبرى أو غيرها من المباني وعندئذٍ تكون الفراشة المعنوية هي الحديقة لما تحمله من صفات وسمات لها مساس بجمال الحديقة فالورد والفستق والعناب والرمان وما شاكلها لها نظائر في تلك الفراشة التي يتحدث عنها عبد العزيز الرفاعي. |
ولعله أراد بهذا البيت أن يصرف ذهن المتلقي عما يكون قد علق به من أوصاف لا تتناسب مع فراشته. وفي هذا البيت قاعدتان نحويتان من قواعد النحو التي تغيب عن كثير من الطلاب حتى الجامعيين منهم، وقد أوردهما الرفاعي في هذا البيت ليدلل على قدرته في معالجة القواعد النحوية. |
فالقاعدة الأولى من هاتين القاعدتين تقول: "إن الجمل بعد النكرات صفات" أي أن كل جملة اسمية أو فعلية جاءت بعد اسم نكرة، فإنها تعرب صفة لذلك الاسم النكرة. فجملة حديقة في جناح رقَّ، هي في الواقع جملتان الأولى حديقة في جناح، والثانية الفعل رقَّ وفاعله الضمير المستتر الذي يعود على جناحٍ، فلما كانت كلمة جناحٍ نكرة فإن الجملة التي جاءت بعدها تعرب صفة لها. ويكون معناها حينئذٍ "حديقة في جناح رقيق" هذا إذا اعتبرنا كلمة رقَّ تابعة للجملة التي قبلها. |
أما إذا اعتبرت رقَّ بداية جملة جديدة صورتها "رقَّ وانسكبت فيه الأشعة" فإنها تمثل القاعدة النحوية الثانية والتي تقول: إن تاء تأنيث الفعل يجوز اثباتها أو عدم إثباتها إذا كان الفاعل مؤنثاً حقيقياً فصل بينه وبين فعل فاصل، أو مجازياً وإن لم يفصل بينهما ففي الجملة التي سلطنا عليها الضوء نجد كلمة "رقَّ" فعل ماضي فاعلة الأشعة "والواو عطف" ثم جاءت كلمة "انسكبت" وهي أيضاً فعل ماضي ألحقت به تاء التأنيث وفاعله "الأشعة" أيضاً "والأشعة" جمع تكسير مفرده "شعاع" وجمع التكسير يُعطى حكم المؤنث المجازي أي يجوز تأنيث فعله ويجوز عدم تأنيثه والرفاعي طبق القاعدة تماماً فحجب التأنيث عن الفعل الأول، وأثبته للفعل الثاني. |
وهذه التفاصيل هامشية قد لا يرضى عنها كثير من القراء، لكنني أردت أن أفي الرفاعي حقه. |
هذا التحليل لم يخضع للقواعد النقدية التي يتقيد بها الأكاديميون في دراساتهم ومعالجاتهم للمواضيع التي تقع في اختصاصهم، ويسعون الى تطبيقها على ما تقع عليه أبصارهم، ويخضعونه لتشريحه، وتمزيقه، حتى يسهل عليهم نزع لحمه عن عظمه، لمعرفة مدى تحمل النص على عوامل البكتريا الثقافية التي تجوب أجواء العالم. |
إنما أردت بهذا التحليل أن أبين فقط أن بواكير شعر الرفاعي تدل على ملكةٍ شعرية، وأنه عمد في السنوات الأولى بعد تخرجه، أو بالأصح منذ سنته النهائية بالمعهد العلمي السعودي - عمد - إلى الميل إلى الشعر الرمزي فيما يتعلق بشعر الغزل ليتقي بذلك ألسنة من لا يحسن إلا الثرثرة والقدح في أعمال الآخرين، وهو لا يعمل شيئاً، على أنني لا أستبعد أن الرفاعي قد قام بالبوح بمغزى تلك الأشعار إلى أصدقائه اللصيقين به. |
|