وللحَـدِيث شجُـون |
|
بقلم : عبد العزيز الرفاعي |
|
يذهب بعض نقَّاد الأدب.. المعجبين بالجاحظ.. أن الجاحظ كان له سلف.. وكان له خلف. أما السلف فهو الأصمعي.. وأما الخلف فهو التوحيدي.. وقد يلتمسون لنا المبررات التي تجعل ذلك سلفاً وهذا خلفاً.. ولكن بالرغم من هذه المبررات، سواء هنا أم هناك. يظل الجاحظ متفرداً متميزاً.. لا يلحق غباره لا هذا ولا ذاك.. فالاصمعي راوية.. نعم.. وضليع في ما ألمّ به من علوم، فهذا أيضاً نعم.. وقد استفاد منه الجاحظ.. نعم.. ولكن الجاحظ اختط لنفسه خطاً.. واتخذ طريقاً.. وضم إلى علوم الرواية علم الأدب، فبرز فيه وحلق. |
وأبو حيان التوحيدي.. تتبع أثر الجاحظ.. وإن تفردت شخصيته عنه.. وهو في ذاته قمة أدبية.. وصاحب أسلوب متميز.. ولكنه – في نظري – قصَّرت به أسبابه عن اللحاق بالجاحظ.. وليس هذا تقليلاً من شأنه، ولا من سعة اطلاعه وثقافته.. ولا طعناً في حسن إدراكه، ولا في قدرته على تنويع مصادر اطلاعه.. أو في قدرته البيانية. |
كلا.. فإن العكس هو الصحيح.. فإن لأبي حيّان قدرة بيانية عالية.. وأسلوباً مانعاً، وسعة اطلاع، وقدرة على الإبداع، وعلى الغوص في أعماق المعاني والأفكار، وعلى تنويع معارفه. |
كل هذا صحيح.. ولكن.. لماذا ظل أبو حيان شبه مغمور لأحقاب وأحقاب..؟ ولماذا لم تشتهر كتبه..؟ ولماذا ظل بعض المثقفين منقبضاً عنه، أو متحفظاً اتجاهه..؟ |
فالسبب في نظري.. أن أبا حيان كان سوداوي المزاج.. منقبضاً عن الحياة والناس والمجتمع.. تمكنت منه عقد نفسية لم يستطع أن يتحلل منها أو يحلها.. فكان طبيعياً، والأمر كذلك أن يبادله الناس انقباضاً بإنقباض.. وقد أضرّ به ذلك أيما إضرار.. وجعله يعيش فقيراً محروماً، بينما كان يتطلع إلى الثراء والمجد.. تطلعاً ملحاً. |
وكان ينطوي على شيء غير قليل من الغرور، أو لعله الإسراف في الاعتداد بالنفس.. وكان من الصعب جداً أن يتم لقاء بين هذا الاعتداد المسرف، وبين فاقته.. فقد اضطرته أسباب العيش، أن يحاول القرب إلى ذوي الوجاهة والمال والحظوة من السلطان، مثل الصاحب بن عباد.. ولكنه لم ينجح في استصحابه.. ذلك لأن الصاحب كان ذا استعلاء.. وكان من الصعب على أبي حيَّان أن يعيش في كنفه فلا عجب أن اختلفا فافترقا. |
ولقد كان الجاحظ كاتباً ساخراً.. بل هو رسام كاريكاتوري، فرشاته قلمه.. استطاع أن يستخدم سخريته حتى من نفسه فيسخر منها.. وبذلك توصل، وربما بطريقة عفوية إلى حل عقده.. أو بالذات عقدة "الدمامة" وجحوظ العينين.. وأن يكون رجلاً مقبولاً خفيف المحمل، انعكست خفة روحه على أسلوبه، فكان رائقاً سائغاً على أنه على درجه عالية من الجودة. |
السخرية عند الجاحظ جاءت هجاء عند أبي حيَّان.. فبينما "يفرغ" الجاحظ حشده النفسي تفريغاً مرحاً، يعمد ابو حيَّان إلى تفريغ جام غضبه على خصومه.. فيشبعهم شتائم وتشنيعاً.. ويتفرغ لذلك، فيؤلف – مثلاً- كتاب مثالب الوزيرين في ذم الصاحب وابن العميد. |
واستطيع أن أقول؛ إن نفسية الجاحظ. كانت متفتحة للحياة والأحياء.. بينما كانت نفسية أبي حيَّان مغلقة.. وكان نتيجة الفرق بين الحالتين أن يعيش الجاحظ منسجماً مع بيئته، وأن يتفرغ لأدبه وعلمه، وأن يكون أدبه مخطوباً مرغوبا ًفيه، وأن يعيش أبو حيَّان في حرب مع نفسه ومع الناس، وأن تكون طموحاته أكبر من وسائله.. وأن يشغله ذلك عن امتداد فروع علمه وأدبه، بل قد دمَّر جانباً من علمه وأدبه، حينما أحرق بعض كتبه.. أو كتبه كلها، فلم يسلم منها إلا ما كان في أيدي الناس.. أو تلك الكتب التي أراد لها أن تسلم من الحريق.. ليذيع عن طريقها نقمته وهجاءه. |
وبقدر ما كسب الأدب العربي، من انطلاق الجاحظ، موسوعات ورسائل وعلماً وأدباً وفنَّا، خسر مثل كل ذلك لانقباض نفسية أبي حيَّان، فهو لو انطلق لكان قريع الجاحظ، أو ربما تخطاه وفاقه.. من يدري؟ |
وبذلك خدمت الظروف مكانة الجاحظ، فظلت متفردة.. محلقة.. قد يدنو منها آخرون ولكنهم لا يصلون إليها.. تخطى الأصمعي ولم يستطع أبو حيَّان أن يتخطاه بل لم يستطع أن يصل ذروته. |
من خلال النظرة المذهبية، يُعَدّ الجاحظ من أئمة الاعتزال، ومؤسس الجاحظية.. وهو في ذلك لا يوارب، ولكنه يسوس أمره بدهاء.. فلا يكون محل النقمة السافرة.. بينما الأمر مختلف عند أبي حيّان.. فالشكوك تحوم كثيراً حول عقيدته وسلامتها من الشوائب.. ويذهب بعض الباحثين إلى أنه أحد أعضاء إخوان الصفا، أو أحد المساهمين في إعداد رسائلهم المعروفة.. وحول رسائل الصفا، وإخوان الصفا، يدور لغط كثير كما هو معروف". |
وقد بادر الأستاذ فائز طه عمر عقب قراءته للمقال بالبحث والتنقيب والاحصاء والاستقصاء لمدة تزيد على عام ثم أسرع بالكتابة إلى مجلة الفيصل وطلب نشر ملاحظاته على مقال الأستاذ الرفاعي عن أبي حيَّان التوحيدي، فقد اشتمل الرد على فقرات لا صلة لها بمقال الرفاعي فاضطررت إلى استبعادها، وهذه هي الملاحظات التي يخالف فيها الناقد رأي عبد العزيز الرفاعي وقد نشر تعليق الأستاذ فائز بالعدد رقم 105 من مجلة الفيصل الصادر شهر ربيع الأول 1406هـ. |
قرأت، فيما قرأته، في العدد90 ذو الحجة 1404هـ، أيلول "سبتمبر" 1984م، من المجلة الأثيرة "الفيصل" مقالاً، في زاوية (و... للحديث شجون) بقلم الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، حاول فيه عقد موازنة بين الشيخين الكبيرين، في النثر العربي، أبي عثمان الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، ذائداً عن الجاحظ، مقللاً من شأن التوحيدي مما لم يقصده الكاتب، على ما أظن، إلا أن محصلة المقال، وما احتواه من أفكار، لم يكن أغلبها معبَّراً عن حقيقة التوحيدي، مما يستدعي إبداء الرأي توخياً للحق الذي وجدته أثناء قراءتي كتب التوحيدي في زمن مضى. |
في البدء أقول انني متفق مع الكاتب في الأشياء التي ذكرها عن الجاحظ، بل انني من المتحمسين لها؛ أو ليس الجاحظ زعيم النثر العربي، الذي كتب بأسلوب قوي وجميل. بيد أن ما قاله عن التوحيدي أمر يتطلب الحوار والنقاش وصولاً إلى الحقيقة! |
تساءل الأستاذ الرفاعي: (لماذا ظل أبو حيان شبه مغمور لأحقاب وأحقاب..؟ ولماذا لم تشتهر كتبه..؟) فعلل ذلك بأن أبا حيان كان سوداوي المزاج منقبضاً عن الحياة والناس والمجتمع.. تمكنت منه عقد نفسيه لم يستطع أن يتحلل منها أو يحلها، فكان طبيعياً... أن يبادله الناس أنقباضاً بانقباض.. مما أضرّ به وجعله فقيراّ، كما ذكر الكاتب. |
إن في هذا الكلام ما لا نستطيع الاقرار به، فما نجده في مصنفات الرجل يؤكد أنه كان ذا علاقات واسعة بالمثقفين والفلاسفة والأدباء، وهم صفوة المجتمع، يحاورهم في شؤون المعرفة.. حتى أنه دوّن أغلب هذه المحاورات في كتاب "المقابسات"، كما أن من ثمرات علاقاته، تأليفه مع مسكويه كتاب "الهوامل والشوامل" الذي تضمن أسئلة وجهها التوحيدي إلى مسكويه الذي أجاب عنها.. كما أنه كان ميّالاً إلى المزاح حاضاً عليه، في المرحلة الأولى من حياته، في الأقل؛ نراه يقول في البصائر والذخائر 1/60: "إياك أن تعاف سماع الأشياء المضروبة بالهزل، الجارية على السًُّخف، فانك لو أضربت عنها جملة لنقص فهمُك، وتبلّد طبعُك..). |
أليس في هذا الكلام ما ينقض القول بسوداوية مزاج التوحيدي؟ نعم لقد كان كثير الشكـوى من زمان لم ينصفه ولم ينصف العقلاء مثله، في وقت مبكر من حياته، مما نجده في مصنفاته جميعاً، لقد كان حساساً من عدم سيادة العدل الاجتماعي، فها هو يجد العقلاء من الأدباء والعلماء والفلاسفة، وهو منهم، غارقين في فقر شديد، لا يحصلون على قوت يومهم إلا بالشقاء والتعب المضني.. بينما يحصل الناقصون، من السوقة والجهلاء، على ما يريدون..!؟. |
هذه الفكرة الرهيبة رافقته في حلّه وترحاله، وأرّقته وجعلته يؤثر العزلة، بعد حين، بعيداً عن أُناسٍ لم يعرفوا فضله، ولم يقدروا علمه مما حداه إلى إحراق كتبه إيثاراً بها عن هؤلاء الناس، ثم أنه لم يجد من يلوذ به، بعد ذلك، غير الله تعالى، فاختار الطريقة الصوفية، عابداً له، منقطعاً إليه.. حتى مات. |
ولعل من أكثر الأسباب إقناعاً في عدم اهتمام الناس في ما خلفه التوحيدي، الاهتمام المطلوب، ففي ظني أنها تعود إلى أن كتبه قد حوربت من أعوان الصاحب بن عباد، هذا الوزير البويهي ذو النفوذ والسطوة، الذي ثلبه التوحيدي وسخر منه، في كتابه "مثالب الوزيرين" مع الوزير أبي الفضل بن العميد؛ ذلك أن النُّحس قد ألصق بكتبه، ولا سيما بالكتاب المذكور. (انظر بغية الوعاة 2/190). مما جعل الناس لا يتداولونها على نطاق واسع. حتى جاء ياقوت الحموي فأفرد له صفحات طويلة من معجمه، مبدياً تعجبه من عدم ذكره في كتاب ما مع الأدباء، قال ياقوت: (ولم أرَ أحداً من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في ضمن خطاب، وهذا من العجب العُجاب..) [معجم الأدباء 15/6]. |
ثم أليس من حق الأديب المبدع، والكاتب ذي الأسلوب الجميل والقوي، أن يتطلع إلى الثراء والمجد؛ أما الثراء فلم يحصل عليه لاختلاف قيم المجتمع، ولعدم جدّه في الحصول عليه، أما المجد فها هو الرجل متربع على إحدى قممه، منذ قرون، وسيبقى كذلك، ما دام في الأرض من يحترم الأدب ويحب الثقافة.. ولم يتضح غرور كالذي قال عنه الأستاذ الرفاعي، بل كان كثير الميل إلى التواضع، مع تحبيذه إظهار ضعفه، دون الرتب العالية إيثاراً للسلامة. |
بَيْد انه كان كثير الاعتداد بنفسه، فلقد طلب من الوزير ابن سعدان وهو يحدثه في ليالي الإمتاع والمؤانسة، أن يأذن له بأن يخاطبه بالمفرد (كاف المخاطبة، وتاء المواجهة) [انظر الإمتاع والمؤانسة 1/20]، بعيداً عن استخدام صيغ التفخيم المتعارف عليها، آنذاك، في مخاطبة السلاطين والأمراء والوزراء، التي لم يكن يُحسنها التوحيدي مما أضعف علاقاته مع عدد من الوزراء الذين اتصل بهم ؛ بل أن بعضهم واجه هذا الكبرياء المشروع بالاحتقار، كما فعل معه الصاحب بن عباد. وابن العميد اللذان ثلبهما "مثالب الوزيرين"، والذي يُعدُّ آية في الأسلوب الأدبي الساخر الذي أبدع فيه التوحيدي على عكس ما قاله الأستاذ الرفاعي الذي ذكر أنه لا يُحسن غير الهجاء؛ نعم إن في هذا الكتاب، من الهجاء شيئاً كثيراً لكنه لا يمثل جميع ما فيه، بل إنه يحوي صوراً ساخرة رائعة عبرت عن قدرة التوحيدي على التصوير الساخر. |
ولعل الانفعال الذي وافقه، وهو يكتب هذا الكتاب، كان وراء كثرة الهجاء، فلقد كان غضباً حنقاً على من لم يعرف حقّه. ولكنه، عندما تهدأ أعصابه، وتبرد فورتها يأخذ في إبداع الصور المضحكة المتسمة بالدقة في التصوير، وبالميل إلى المبالغة، مما تعد من مقومات العمل الأدبي الساخر. ليس هذا فحسب، بل أنه أبدع مشاهد ساخرة متكونة من صور ساخرة وحوار ودقة في التصوير والرسم. |
وعن عقيدة التوحيدي، يذهب الكاتب إلى أن (الشكوك تدور حول عقيدته وسلامتها من الشوائب). والرأي هذا هو ترديد لقول قديم جاء به ابن الجوزي في (المنتظم 8/185)، بيد أن جميع من درسوا كتب الرجل انتهوا الى صحة إيمانه بالله تعالى، ابتداءً من ياقوت قديماً، وانتهاءً بالدكتور عبد الرزاق محيي الدين – رحمه الله -، والدكتور إحسان عباس، والدكتور إبراهيم الكيلاني، والدكتور زكريا إبراهيم، والدكتور عبد الأمير الأعسم، والآخرين!.. ويبدو أن الأستاذ عبد العزيز الرفاعي لم يطلع على هذه الدراسات!... والتهمة هذه ربما ألصقت به لأسباب سياسية أو عنصرية أو شعوبية. |
ثم ذكر الكاتب رأي الدكتور زكي مبارك الذي (يذهب.. إلى أنه أحد إخوان الصفا..)، ويبدو أنه لم يطلع على ما نقله التوحيدي من كلام شيخه أبي سليمان المنطقي في الإمتاع والمؤانسة 2/6، المليء نقداً وتسفيهاً لآرائهم؛ ومن المعروف أنّ التوحيدي كان كثير الإيمان بكل ما يقوله أبو سليمان.. والتوحيدي هو الوحيد الذي كشف لنا عن أسماء عدد من أعضاء هذه الجماعة لظروف جعلته يعرفهم، وهذا دليل آخر على انفتاح التوحيدي على الناس في شبابه ولكنه ليس دليلاً على شيء آخر. |
وبعدُ، فإنني أشكر الأستاذ عبد العزيز الرفاعي على إثارته المشكلات التي ناقشتها معه، آملاً أن أجد في صدره رحابة أكاد أثق بوجودها في صدور الأدباء والمثقفين الذين يحبون الحقيقة. وأجدها فرصة طيبة للتعبير على إعجابي بمجلة "الفيصل" منبراً قوياً للثقافة العربية والإنسانية". |
وهذا أحد المقالات التي كتبها عبد العزيز الرفاعي وتعرضت للتعليق وقد نشر بالعدد 130 من مجلة الفيصل تحت عنوان: |
|