رأي الآخرين في نثر عبد العزيز الرفاعي (2 من 3) |
وسأورد أمثلة تضيء صحة هذا الرأي. |
قال ابن رشيق في كتابه العمدة صفحة 119: "سمعت بعض الحذاق يقول: ليس للجودة في الشعر صفة، إنما هو شيء يقع في النفس عند المميز". |
ونسب ابن رشيق إلى ابن المعتز أنه قال: "قيل لمعتوه: ما أحسن الشعر؟ قال: ما لم يحجبه عن القلب شيء. ولقد قيل خذوا الحكمة من أفواه المجانين. |
يقول أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" الجزء الأول صفحة 68 "فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله". |
وهذا ابن رشيق يقول في الجزء الثاني من كتابه العمدة صفحة 239 يقول: "وكم في بلدنا هذا من الحفاث قد صاروا ثعابين، ومن البغاث قد صاروا شواهين، إن البغاث في أرضنا يستنسر، ولولا أن يعرفوا بعد اليوم بتخليد ذكرهم في هذا الكتاب، ويدخلوا في جملة من يعد خطله، ويحصى زللـه، لذكرت من لحن كل واحد منهم وتصحيفه وفساد معانيه، وركاكه لفظه ما يدلك على مرتبته من هذه الصناعة التي أدعوها باطلاً، وانتسبوا إليها انتحالاً". |
وفي الصفحة السابعة والتسعين من الجزء الأول من كتاب العمدة لابن رشيق وإزاء عنوان جانبي هو "أقاويل مختلفة في أشعر الناس" ضمن باب "المشاهير من الشعراء" فقال: وزعم ابن أبي الخطاب
(1)
أن أبا عمرو كان يقول: أشعر الناس أربعة: امرؤ القيس، والنابغة، وطرفة، والمهلهل، قال: وقال المفضل: سئل الفرزدق فقال: امرؤ القيس أشعر الناس، وقال جرير: النابغة أشعر الناس، وقال الأخطل: الأعشى أشعر الناس، وقال ابن أحمر: زهير أشعر الناس، وقال ذو الرمة: لبيد أشعر الناس، وقال الكميت: عمرو بن كلثوم أشعر الناس، وهذا يدلك على اختلاف الأهواء، وقلة الاتفاق". |
وفي الجملة الأخيرة من هذا النص دليل على أن صفة الفحولة وغيرها من الصفات، التي يطلقها البعض عل فئة من الشعراء قلت أو كثرت لم تعط إلا مجاملة أو استحساناً من المتلقي للشاعر لما أحس به شخصياً من مشاعر فياضة لامست شغاف قلبه، وحركت وجدانه، وأيقظت عواطفه، فتراقص طرباًًً، وتمايل عجباً، ومنح الصفات، وحجب الهبات، ولم يكن الشعراء الكبار في حاجة إلى هذه الصفات بقدر ما كانوا أحوج إلى الصلات، فهم أعرف بمنازلهم في ساحات الشعر، والقوي منهم يأكل الضعيف، كالأسماك في البحر، فهذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ يروى في كتابه "البيان والتبيين" الجزء الثاني صفحة 10 قال: |
"وسمعت بعض العلماء يقول: "طبقات الشعراء ثلاث شاعر وشويعر وشعرور، قال: والشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران سماه بذلك امرؤ القيس، وكان امرؤ القيس أرسل إليه في فرس يبتاعها منه فمنعه فقال امرؤ القيس: |
أبلغا عني الشويعـر أنٍّـي |
عمد عين نكبهـنَّ حزيمـاً |
|
فسماه بهذا البيت الشويعر. |
وتناقل الرواة البيت فأخرجه امرؤ القيس من ساحة الشعر والمنافسة لأنه لم يبع له فرسه، ولا ندري ما الذي كان يحدث لو أن محمد بن حمران رضي وباع الفرس لامرئ القيس". |
وهذا ابن رشيق صاحب "العمدة" ذكر في الصفحة 181 من الجزء الثاني هذه القصة التي تحمل كلماتها وحروفها بصمات واضحة لسلطة بعض الشعراء الذين أسعفهم الزمان، ومكنهم ولاة أمرهم في تلك العصور من فرض سيطرتهم على من دونهم، تقول القصة: قال الحسن بن الضحاك الخليع: أنشدت أبا نواس قولي: |
وشاطريٍّ اللسان مختلق التكريـه شـابَ المجـونَ بالنُّسـكِ |
|
إلى أن بلغت: |
كأنما نصـب كأسـه قمـرٌ |
يكرع في بعض أنجم الفـلكِ |
|
فنفر نفرة منكرة: فقلت: مالك فقد أفزعتني؟!! فقال: هذا معنًى مليحٌ وأنا أحق به، وسـترى لمـن يروي، ثم أنشدني بعد أيام: |
إذا عبَّ فيها شاربُ الخَمرِ خلتُه يقبل في داج من الليـل كوكبـا |
|
فقلت: هذه مصالتة يا أبا علي، فقال: أتظن أنه يروى لك معنى مليح وأنا في الحياة؟. |
وهكذا بسط الكثير من الشعراء أرباب النفوذ سيطرتهم على سواهم، واستحلوا حقوقهم، واغتصبوا معانيهم، وادعوها لأنفسهم. وليست تلك سمة عصر من العصور بل هي سمة العصور جميعها، فما من عصر إلا ورأى الناقد النزيه من حوله فئة تدس أنوفها فيما لا تعلم، وتهرف بما لا تعرف، وتدعي علم ما تجهل، تعطي نفسها حق توزيع المناصب والصفات على من يدور في فلكها، وتحط من قدر الآخرين الذين لا يولونها من حبهم شيئاً. |
وفي عصرنا الحاضر يمارس بعض الأشخاص هواية منح الصفات والألقاب لمن يستحق ومن لا يستحق دون أن تكون هناك قواعد مقننة يمكن السير على ضوئها، والتمشي بها وهيهات أن توجد مثل هذه القواعد، وإن وجدت فلن تكون لها قوة النفاذ، وسيكون وجودها كعدمها، وسيكون التأثير الشخصي والعامل النفسي من أهم العوامل التي تساعد على إعطاء هذه الصفات. وستكون الصراعات الذاتية بين أصحاب الصنعة الواحدة سبياً في إقصاء الصفات عن بعض الأشخاص في حين أنهم جديرون بها. |
المتنبي ليس من الفحول: |
قد يثور الكثير إذا قرأ هذا العنوان، ويتوهم إنني أطعن في فحولة الشاعر الذي ملأ الدنيا، وأتعب الناس، ولكنه سيقف على الحقيقة في قراءة المعلومة التالية التي أثبتها الدكتور محمد مريسي الحارثي بالصفحة 128 من كتابه "عبد العزيز الرفاعي أديباً" وهي "وقد أنكر القاضي الجرجاني على من أسقط المتنبي عن طبقات الفحول لسقطات وجدها في شعره". وقد أشار الدكتور الحارثي في الهامش إلى أن هذه المعلومة نقلها من كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني. |
وإذا كان هناك من يسقط المتنبي من قائمة الفحول وهو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس فإنما يدمغ بذلك آراء الذين يصرون على التمسك بأن هذه الصفات التي تعطي لطائفة كبرى من الناس تخضع لقواعد وأسس سليمة تحفظ حقوق الجميع، غير أن الذي يلمسه القراء في عصرنا هذا، أن ساحات الأدب تخمت بالألقاب والصفات التي ملأت جوانبها حتى أنها تكاد أن تقيء بها، لأنها أصبحت سمة تسيء إلى حاملها، ويحاول أن يدرأ عن نفسه وزر حملها. |
ولن أتطرق إلى الحديث عن كثرة الألقاب في مجتمعنا، وما أثارته من تساؤلات، ومناقشات، ولكني سأتعرض لأحد الألقاب الذي تكرم به بعض الإخوان فمنحه لعبد العزيز الرفاعي – رحمه الله – بعد رحيله بعامين حيث أطلق عليه لقب "عميد الأدب السعودي" وهو لقب لن أنفي جدارة الرفاعي به، ولكني أجزم بأنه في هذا الوقت غني عنه، وليس في حاجته، وإنما حاجته في الدعاء له بالرحمة والمغفرة من الله، وأن يسكنه ربه واسع جناته، وأما اللقب فليتنافس عليه الأحياء، فلن يرفع ذلك درجاته عن الله. |
لقد أحسن الأخ علي العمير حين أعرب في ملاحظته على كاتب ومطلق ذلك اللقب، وأوضح أن الرفاعي لو أعطي هذا اللقب لذاب خجلاً، ولم يرضه، لأنه يعلم يقيناً أن هناك من أساتذته من هو جدير به وقمين. |
إني أحب عبد العزيز الرفاعي، وأدين له بالفضل، ولكنني أشهد أنه لا يحب الإطراء الذي لا يوافق الحقيقة، ويصف الثناء الواقعي فيضاً من الحب يسكبه المادح في أقداح من الوفاء، ولذلك يتقبله منه شاكراً، أما الإطراء المفرط المطرز بالألقاب والصفات فينكره ويعترف بأنه ليس من الذين تنبطق عليهم هذه الأوصاف. |
لقد أسرفت في الحديث على الفحولة والفحول، لأبين أن الشعر لا يخضع لقواعد منتظمة تحدد الفحولة، وتبين الفحول، حتى أن بعض النقاد استغنى عند ذكر طبقات الشعراء عن ذكر الفحول، قال ابن رشيق في كتابه "العمدة" صفحة 115 من الجزء الأول: وقيل بل هم أي الشعراء ثلاثة شاعر، وشويعر، وشعرور. وقيل بل هم أربعة شاعر مفلق، شاعر مطلق، وشويعر، وشعرور. |
أما الحطيئة فيقول: |
الشعراء فاعلمنَّ أربعة |
فشاعر لا يرتجي لمنفعة |
وشاعر ينشد وسـط المجمعـة |
وشاعر آخر لا يجـرى معـه |
وشاعر يقـال خمـر في دعـه |
|
أما شاعرنا العربي الآخر فيقول: |
الشعراء فاعلمن أربعة |
فشاعر يجري ولا يجرى معـه |
وشاعر يصول وسط المعمعـة |
وشاعر لا تشتهي أن تسمعـه |
وشاعـر لا تستحـي أن تصفعـه |
|
ولم يتحدث أحد هؤلاء عن الفحولة التي عبر عنها رؤبة بن العجاج أنها تعني الرواة الذين يضيفون إلى شعرهم ما يحفظونه من أشعار غيرهم، أو هم الذين ينسبون إلى الشعراء شعراً لم يقولوه. |
ونكتفي بما ذكر عن الفحولة. |
* * * |
أدب عبد العزيز الرفاعي من وجهة نظر الدكتو مصطفى إبراهيم حسين: |
للدكتور مصطفى إبراهيم حسين كتاب عنوانه "أدباء سعوديين" وهو عبارة عن ترجمات شاملة لسبعة وعشرين أديباً، ومنهم الأستاذ عبد العزيز الرفاعي – رحمه الله – ويهمنا من هذه الترجمة ما يتناول الجانب الأدبي، ولا سيما النثر. يقول الدكتور مصطفى في الصفحة رقم 245 من كتابه المذكور: "وقد أولى الرفاعي الحركة الفكرية والأدبية في المملكة وجوهاً شتى من العناية: ما بين المحاضرة والتأليف". |
وفي الصفحة 250 من الكتاب نفسه يقول: تسلمنا النظرة في مؤلفات الشيخ الرفاعي إلى جملة من الحقائق نوجزها فيما يلي: |
1- أنها - أي المؤلفات - لا تعدو أن تكون كتيبات، وأن ليس من بينها كتاب واحد مطول، غير أنه لا ينبغي أن يقاس جهد العالم وقدره بالكم والحجم، فقد تجد في الكتاب الصغير ما تفتقده في الكبير. |
2- تنوعت هذه الكتيبات بين النص المحقق، والدراسة التاريخية العامة، والترجمة التاريخية، والبحث الأدبي، والإبداع الأدبي. |
3- أن الطابع الإسلامي هو الطابع الغالب على هذه البحوث، فضلاً عن الهدف التمهيدي التربوي. |
وذكر الدكتور مصطفى إبراهيم حسين في صفحة 253 من كتابه "أدباء سعوديين" عن الخصائص المنهجية التي اتسمت بها كتب الرفاعي في التاريخ فقال: "ولا تخلو كتب البحث الأدبي لديه من الخصائص المنهجية التي اتسمت بها كتبه في التاريخ، كما أن تراجمه الأدبية لم تخل من المادة التاريخية، فهو في تلك التراجم معني بدراسة النسب والقبيلة وأطوار الحياة. |
ولم يهمل الرفاعي المنهج الفنِّي في تراجمه الأدبية، إلا أن المنهج التاريخي ظل في دراساته الأكثر وجوداً وتميزاً. |
ويستهدف الرفاعي في بحوثه الأدبية كل طريف جديد من الموضوعات ويمتلك الرفاعي في كتيبه "خمسة أيام في ماليزيا" مقدرة حسنة على التصوير والوصف والقص وذلك للمعالم، والمواقف، والشخصيات على نحو يحملك حملاً على معايشته ومشاركته، خيالاً وفكراً ووجداناً، ويتميز في أسلوب الأداء بالسرد العفوي". |
والذي يطلع على هذه الترجمة يجد أن الدكتور لم يتحدث عن شعر عبد العزيز الرفاعي بل أورد ضمن مؤلفاته عنوان ديوانه الشعري الوحيد "ظلال ولا أغصان" دون أن يعلق بشيء عليه، وكأني به لم يقرأه، وسأعرج على هذا الموضوع عند الحديث عن شعر عبد العزيز الرفاعي. |
|