شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ج- رأي الآخرين في نثر عبد العزيز الرفاعي (1 من 3)
لقد أدليت دلوي بين الدلاء في بئر لم أسبر غورها من قبل، ولم أدر ماهيتها، ولا كنهها حين أرسلت الرشاء مزاحماً لروادها الخبيرين بأسرارها، جهلاً مني بأصول الصنعة، واللّه سبحانه وتعالى يقول: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وأنا في فن التحقيق من الذين لا يعلمون، وكان الأجدر بي أن أكتفي بإثبات أقوال الآخرين دون أن أشاركهم الانخراط في الحديث عن عبد العزيز الرفاعي وتحقيقه للتراث، ولكن الحب أعمى وأصم يدفع صاحبه للدفاع عمن يحب ظالماً أو مظلوماً ليظل ثوبه أبيض نقياً، لا ينسب إليه ما هو منه براء.
لكنني هنا سأحاول أن ألجم قلمي عن الخوض والعوم فيما يراه الكتّاب في أدب ونثر عبد العزيز الرفاعي إطراءً أو نقداً، وأترك للقراء الحكم فيما يقرؤون، غير أني لن أرضى أن يمسه الحيف، أو أن يحاول البعض ليجهز عليه، ويلبسه ثوباً لا يرتضيه لنفسه.
تحدث الدكتور محمد مريسي الحارثي في كتابه "عبد العزيز الرفاعي أديباً" عن بعض المقومات والخصائص التي اتسمت بها جهود الرفاعي الأدبية في مادتها، وفي طريقة عرضها، فقال: "إن الهاجس الذي استأثر بجهوده التأليفية هو هاجس التراث العربي الإسلامي، وكان يهدف من وراء اهتمامه بالتراث قراءة وتأليفاً أن يحقق بعض الغايات العلمية والسلوكية، فتآليفه تعد محاولة لتأصيل البحث العلمي على هُدًى من قيم ذلك التراث، ومن جهة أخرى تعدُّ مادة صالحة لتأصيل السلوك في الناشئة، أضف إلى ذلك أن التراث في نظره يكتنز من الإيجابيات ما يساعد على حل إشكالية العصر الحاضر.
وقد كان اهتمامه بدراسة الشخصية الإسلامية القدوة يلتقي مع هذه الغايات. وذكر في موضع آخر من نفس الكتاب.
"وقد كشفت تآليفه عن سعة اطلاعه، وثبوت قدمه على أرضية التراث، واتسمت مؤلفاته بحسن التخطيط، ودقة التنفيذ في إعدادها، وتوثيق المادة العلمية من مصادرها ومراجعها توثيقاً علمياً دقيقاً".
وفي نهاية الصفحة 206 من كتابه المذكور ذكر ما يلي "ويلحظ الدارس لتآليف الرفاعي تلك النزعة الأدبية المتأصلة في طريقة عرض المادة العلمية تاريخية كانت أو أدبية. ويمثل السرد القصصي ظاهرة عامة في مؤلفاته.
وفي الصفحة 214 من كتاب الدكتور محمد مرسي الحارثي السالف ذكره ورد النص التالي: "وقد عرض الرفاعي مادته الأدبية في معرض عصري شيق من حيث عدم تكثيف المادة، والاكتفاء بالوقوف عند خطوطها العريضة، مراعاة لروح العصر العاجل، وكان يرمي من وراء ذلك إلى تيسير المعرفة في عرض موجز يكفل الإفادة، ولا يورث الملل، معتمداً في عرضه على الأسلوب السهل القريب وعلى التقاليد والأسس البحثية المتعارف عليها في إعداد الدراسات العلمية". وقد لاحظ الدكتور الحارثي على بعض مؤلفات الرفاعي ملاحظات جديرة بالذكر ولو من حيث الأمانة في النقل، فقد تحدث الدكتور الحارثي في صفحة 108 في كتابة القيم "عبد العزيز الرفاعي أدبياً" عن كتيب الرفاعي "الحج في الأدب العربي" فقال: "لم يتناول الرفاعي في كتابه القيمة الأدبية للشعر الذي جمعه في هذا الكتاب، حتى تلك التعليقات اللامحة التي كان يطلقها على ما يروقه من الشعر في بعض إصداراته الأدبية لم يكن لهذا الكتاب نصيبٌ منها".
وذكر في صفحة 109 من هذا الكتاب وعن نفس الموضوع قوله: "لقد أحس الرفاعي بأن هذا الموضوع بحر ليس له ساحل كما يقولون: وهذا الإحساس جعله يخضع المادة العلمية لمبدأ الاختيار سواء فيما يختص بالزمان أو فيما يخص المادة العلمية التي جمعها، وهذا الاختيار المحدود جعل الرؤية حول أثر الحج في الأدب العربي باهتة إلى حد ما".
وفي صفحة 110 قال الدكتور الحارثي "ولهذا فإن ما أشار إليه الرفاعي من أثر الحج في اللغة العربية كان قلقاً في مكانه".
وعندما تحدث الدكتور الحارثي عن كتيب الرفاعي الموسوم بـ "أرطأة بن سهية حياتـه وشعـره" أشار إلى بروز شخصية الرفاعي النقدية في هذا الإصدار بشكل لم يعهد في إصداراته الأخرى فقال: "ويبدو أن إعجاب الرفاعي بشعر أرطأة قد أتاح له فرصة الوقوف طويلاً أمام هذا الشعر، فأفسح له الفرصة في بيان موقفه النقدي من شعر هذا الشاعر الذي وصفه بأنه من فحول الشعراء" (1) .
ولكن الدكتور الحارثي اعترض على إطلاق لقب الفحولة في الشعر من قبل الرفاعي على أرطاة بن سهية حيث قال (2) : "وقد وصفه الرفاعي – والضمير في وصفه يعود على أرطأة – بأنه من الشعراء الفحول، ولا ندري على أي أساس وصفه الرفاعي بالفحولة مع أن المصدر الرئيس الذي اعتمده الرفاعي وهو كتاب الأغاني قد حدد منزلة أرطأة في الشعر دون أن يصفه بالفحولة، وذلك قوله: "وأرطأة شاعر فصيح معدود في طبقات الشعراء المعدودين من شعراء الإسلام في دولة بني أمية، لم يسبقها، ولم يتأخر عنها"، ولم نجد أحداً من النقاد صنَّف أرطاة في عداد الفحول من الشعراء".
ويقول الدكتور الحارثي في الصفحة الثامنة والعشرين بعد المائة من كتابه "عبد العزيز الرفاعي أديباً": "ومن هنا فإن إطلاق صفة الفحولة على أرطأة تحتاج إلى شيء من إعادة النظر في معياريتها، فأية فحولة نصف بها شاعرا ً كان يعيش في طيات النسيان" ثم أردف يقول: "فهل وقف الأستاذ الرفاعي على شعر أرطأة جميعه ليصنفه هذا التصنيف؟.
وفي الصفحة التاسعة والعشرين بعد المائة يقول الدكتور الحارثي في نفس كتابه "وما جمعه الأستاذ الرفاعي لا يعطي صورة كاملة لشعر هذا الشاعر، ومن هنا يصبح حكمه على الشعر محل نظر من وجهة النظر المعيارية، غير أن ما يتمتع به الأستاذ الرفاعي من ذوق أدبيٍّ مدرَّب خبر مذاهب الشعراء واتجاهاتهم، ربما دفعه هذا الذوق إلى الإعجاب بشعر أرطأة فجعله فحلاً من وجهة النظر التأثيرية فحسب".
ولي على رأي الدكتور مريسي الحارثي في إطلاق صفة الفحولة في الشعر على أرطأة بن سهية من قبل الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في كتابه "أرطأة بن سهية حياته وشعره" وقفتان:
الأولى: ذكر الدكتور الحارثي أن الرفاعي أطلق صفة الفحولة في الشعر على أرطأة ثلاث مرات والواقع أن الرفاعي وصف أرطأة بالفحولة أربع مرات في ذلك الكتيب نوردها بالتفصيل.
ففي الصفحة الرابعة قال الرفاعي: "إن ضرار بن الأزور، هو الولد الحقيقي لأرطأة بن سهية، ذلك الشاعر الفحل، الذي طوى النسيان اسمه".
وفي الصفحة السادسة قال الرفاعي: "حاربت الأيام شعر أرطأة فذهبت به.. فلم يبق منه إلا القليل.. وإن دلَّ هذا القليل على فحولة الشاعر وقوة أدائه".
وفي الصفحة السابعة والخمسين قال الرفاعي: "على أن ما جمعه صاحب الأغاني هو أوفرها حظاً، وأكثرها تفصيلاً على قلة ما أورد بالنسبة لشاعر فحل كأرطأة".
وفي الصفحة الثالثة والثمانين يقول الرفاعي: "وبعد أن استعرضت أهم الأغراض التي تناولها أرطأة بن سهية في شعره.
وبعد أن استطرق البحث إلى نماذج من شعر هذا الشاعر. ودلنا كلُّ ذلك على أنه شاعر فحل مطبوع". ولقد أشار الدكتور الحارثي إلى المرات الثلاثة الأول وغابت عنه الرابعة.
أما وقفتي الثانية فتدور حول رفض الدكتور الحارثي إطلاق عبد العزيز الرفاعي صفة الفحولة على الشاعر أرطأة بن سهية، ولن أحاول مناقشة الدكتور في أسباب رفضه فقد ذكرها في كتابه، وللقارئ كامل الحق في قبول هذه الأسباب أو الإمتناع عن قبولها، لأنها في واقعها ليست إلزامية القبول، غير أنني سأحاول أن أدفع عن عبد العزيز الرفاعي من وجهة نظري الخاصة في صحة ما ذهب إليه مستنداً إلى ما يأتي :
1- قواميس اللغة أعطتنا عدة معانٍ "لفحول الشعراء" ففي لسان العرب ورد معنى فحول الشعراء: هم الذين غلبوا بالهجاء من هاجاهم مثل جرير والفرزدق وأشباههما، وورد معنى الفحول أيضاً: الرواة، وفي المعجم الوسيط ورد معنى فحول الشعر أو العلم هم الفائقون فيه. وفي المنجد ورد معنى فحول الشعراء: أنهم المفضلون عموماً، أو الغالبون بالهجاء من هاجاهم.
وأورد ابن رشيق في كتابه "العمدة" الجزء الأول صفحة 114 السطر الأخير أن رؤبة بن عبد الله العجاج - إمام اللغة في عصره، والذي قال عنه الخليل بن أحمد بعد دفنه يوم مات: "دفنا الشعر واللغة والفصاحة" - سئل عن الفحولة فقال: "الرواة".
وعلى ذلك فالهجاؤون الغالبون بهجائهم من عاداهم هم من الفحول، وأرطأة من الهجائين الذين يخشاهم الآخرون وتبعاً لذلك تنطبق صفة الفحولة عليه، على أنني أنفي جازماً أن عبد العزيز الرفاعي كان معتمداً على هذا التفسير لمعنى الفحولة في وصف أرطأة بها لأنه كان يكره الهجاء، وتجنب ذكر الكثير من أشعار الهجاء لأرطأة ولو اعتمد هذا التفسير لما كان ملائماً.
2- يقول الدكتور الحارثي في الصفحة 128 من كتابه المذكور آنفاً "فهل وقف الأستاذ الرفاعي على شعر أرطأة جميعه ليصنفه هذا التصنيف؟.
وهذا السؤال يدفعني إلى أن أسأل: هل جمع شعر الشاعر وكثرته دليل على الفحولة؟ وهل تعني قلته عدم أحقية صاحبه بالفحولة؟ إن كان جديراً بها دون أن يكون من المكثرين،؟ وهل تعدد أغراض الشعر التي يخوضها الشاعر تمنحه الحق في الحصول على التميز والفحولة؟.
لن أقول الإجابة على هذين السؤالين، بل سأستعين بالدكتور الحارثي عليهما من كتابه، ولنقرأ في الصفحة 127 ما يلي: "إن ربط الفحولة بأغراض شعرية محددة لا يتفق مع طبيعة الشعر، إذ أن اكتساب صفة الفحولة في مثل هذه الحالة سيكون أمراً ميسوراً، كما أن ربطها بكثرة النتاج الشعري هو الآخر لا يستقيم، لأن جوهر الشعر في جودته لا في كثرته، ومن هنا فإن الشاعر الذي غلب عليه الشعر، واكتملت أدواته ونضج فنياً هو المؤهل لاكتساب صفة الفحول".
وما دام الأمر كذلك فلماذا يُطلَبُ من الأستاذ عبد العزيز الرفاعي أن يقف على جميع شعر أرطأة قبل أن يصنفه في فحول الشعراء ولماذا أصدر الدكتور حكمه على عبد العزيز الرفاعي بأن ما جمعه من شعر أرطأة لا يعطي صورة كاملة لشعره، وبالتالي يصبح حكمه على شعر أرطأة محل نظر، والدكتور يعلم أن الفحولة قد ينالها الشاعر بقصيدة واحدة، ويعترف بأن الفحولة ليست مقيدة بكثرة النصوص الشعرية، ولا تمنع قلتها من حصول الشاعر على الفحولة، إذا كان فيما قال ما يضعه في طبقة الفحول.
ويتعجب الدكتور الحارثي عجباً شديداً من إعطاء الرفاعي صفة الفحولة في الشعر لارطأة فيقول في كتابه المنوه عنه سابقاً صفحة 128: "فأية فحولة نصف شاعراً كان يعيش في طيات النسيان؟". ولعل فيما قاله ابن رشيق في كتابه "العمدة" الجزء الأول صفحة "101" ما يذهب عجب الدكتور إذا صح ما فهمته من مقالة "ابن رَشيق" الذي ذكر أن بعض الشعراء ظهروا على الساحة الشعرية فغطوا آخرين، وأبقوهم في الظل، وقد ساعدهم على الظهور والبروز صلتهم بالولاة وفتح أبوابهم لهم، وحجب الكثيرين ممن يرى في التكسب بالشعر مذلة وعاراً، فظل مجهولاً لا يعلم به إلا القليل من الناس الذي لا حول لهم ولا قوة، ولم يكن لشعرهم رواة، ولذلك لم تتداول أشعارهم، وظلت محفوظة في صدورهم. يقول ابن رشيق: "وأما طبقة حبيب والبحتري، وابن المعتز وابن الرومي فطبقة متداركة قد تلاحقوا، وغطوا على من سواهم، حتى نُسي معهم بقية من أدرك أبا نواس كابن المعذل، وهو من فحول المحدثين وصدورهم المعدودين، غمره حبيب ذكراً واستشهاراً، وابن هفان أيضاً، أدرك أبا نواس، ولحق البحتري فستره، وكذلك الجماز وديك الجن، وهو شاعر الشام لم يذكر مع أبي تمام إلا مجازاً، وأما أبو الطيب فلم يذكر معه شاعر إلا أبو فراس وحده، ولولا مكانه من السلطان لأخفاه".
إذن هناك كثير من الشعراء الفحول تحت قسوة الظروف السياسية ودخان النفاق الاجتماعي ارتضوا العيش أو لنقل قهرتهم الحياة ليعيشوا في خنادق النسيان حتى يهيء الله من الأجيال اللاحقة لهم من يبحث عنهم ويخرجهم إلى عالم الأضواء ليعرَّفَ الآخرين بهم وهكذا فعل عبد العزيز الرفاعي وغيره من النقاد الأجلاء.
إن لقب الفحولة وغيره من الألقاب التي تمنح للشعراء القدامى، ولمن جاء بعدهم، وكان يحكم منحها في المقام الأول حب الناقد لشعر الشاعر موضع النقد وإعجابه به، وتخير النصوص التي تروق له لتدعم حكمه، فإذا لم يصادف شاعرٌ آخر هوى في نفس الناقد اختار من شعره النصوص التي يبرز فيها ضعفه وأخطاؤه فيحمل عليها ويسفهها، ومن ثم يصدر على الشاعر حكماً بعدم الإجادة، أو بالأصح حكماً بالإعدام، ودفنه في مقابر النسيان.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :715  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 47 من 94
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.