الرسالة الأولى |
هذه رسالة بعث بها الشاعر العربي السعودي الكبير محمد حسن فقي إلى عبد العزيز الرفاعي رحمه الله: |
أخي الكريم الأستاذ عبد العزيز الرفاعي حفظه الله.
|
أحييك بتحية الإسلام، مع مودة خالصة وإعجاب عميق، وأتمنى لك موفور الصحة والسعادة والتوفيق... |
وبعد، فلقد قرأت مقالك عن الأستاذ محمد زكي عبد القادر فأكبرت وفاءك، وذوقك الأدبي المصفي. لقد كنت مثلك في حب هذا القلم، وذلك الفكر الذي طوته المنون. كنت حينما أكون بالقاهرة أترقب يومه في جريدة الأخبار، وأقرأ مقاله بشغف، كما كنت أقتني معظم كتبه القليلة التي أصدرها. |
ما أشد عصف الموت بالمواهب والأحاسيس، إن هذا الكاتب الموهوب الراحل لم يأخذ حظه من الذيوع والانتشار والمكانة مع أن أقل منه بكثير حظوا بشهرة وذيوع ومكانة لم يحظ بها هو يرحمـه الله. وهذه هي الحياة يميل قِسْطَاسُها حيناً، ويعتدل أحياناً، ولعل الزمن وأهله بعد رحيله يوفونه حقه من التكريم والإشارة والإطراء. |
أخوك أصبح اليوم معتزلاً منطوياً على نفسه يلزم بيته إلا في القليل النادر، فما عدت أرى في الحياة ولا الأحياء ما يستحق التلاقي، وعسى الله أن يجعل في هذا خيراً. |
كنت أود الاتصال بكم فور قراءة المقال لكنني لم أستطع فليس لدي رقم هاتف داركم، ولا هاتف المكتب، ولقد حاولت معرفتهما من بعض الأصدقاء هنا وبالرياض فلم يعرفوهما. |
صدقني أيها العزيز: أنك من القلائل الذين أضمر لهم حبًّا خالصاً وإعجاباً كبيراً، وأنني أرتاح إلى لقائك والتحدث إليك، لكنك في الغالب لا تكون إلا في كوكبة من الرفاق.. يعجزني احتماله في أيامي الأخيرة. فمعذرة. ولقد حاولت جهدي الاستجابة لدعوة الأخ الكريم الأستاذ محمد سعيد طيب في دارته الثلوثية فلم أستطع، ولقد أضربت عن النشر فما ينشر اليوم في جريدة المدينة المنورة هو حصيلة قليلة من الجديد لا يزيد عن عشر قصائد وقليل من الرباعيات، وقد أخذ مني السيد محمد علوي بلفقيه بعض القصائد لينشر منها ما لم تنشر باعتبارها جديدة. |
أعتقد أنني من غرة الشهر القادم سأتوقف عن النشر شعراً ونثراً، فما يحوطني من أحقاد وخصومات ولدد يضيق صدري به، وأنا رجل ميال للحب والسلامة لا أطيق الضغائن ولا اللدد في الخصومة المتسفلة، وأترفع عن الدخول في غماراتها ومتاهاتها المظلمة. |
لك حبي وتقديري |
|
|
وقبل أن أنقلك أيها القارئ الكريم إلى الرسالة الجوابية التي بعث بها عبد العزيز الرفاعي إلى السيد الشاعر الكبير محمد حسن فقي دعني أقف بعض الوقت أمام عبارات تستدعي وقوفنا أمامها لما تحمله من معانٍ وعبر ومواقف لا يجد القارئ مناصاً من التريث للتزود من تدفقها البلاغي، أو بريقهـا الأخلاقـي، أو ظلال معانيها الهادئة التي تتمشى في نفس القارئ والمتلقي مثلما تتمشى الدماء في الشرايين في يسر وسهولة. |
ومن تلك العبارات التي ترسل ومضات لمَّاحة كأنها تلفت انتباهنا إلى موطن من مواطن الإعجاب يلزم الوقوف عنده هذه العبارة التي استفتح بها السيد محمد حسن فقي رسالته وهي: أخي العزيز فهي من المرسل تواضع جم فالمرسل إليه يعتبر نفسه أحد تلامذة المرسل أو على الأكثر أخاه الأصغر لكن الشاعر الفقي أراد أن يتخطى هذه الحواجز ويقضي على السنين التي تفرق بين تاريخ مولديهما ويتخذ من الرفاعي أخاً عزيزاً مساوياً له في القدر والمنزلة وهو في ذلك الوقت يعترف باستحقاق الرفاعي لأن يحظى بهذه المنزلة وهو قمين بها وسنجد الرفاعي يستفتح رسالته الجوابية بعبارة: سيدي الشاعر العظيم وهذه العبارة إنما يقولها الصغير للكبير اعترافاً بفضله واحتراماً له فكلاهما سلك المنهج القويم الذي تحث عليه مكارم الأخلاق، وتدعونا إليه مبادئنا الإسلامية، ومن الأمثلة التي نشأنا على التمسك بها والسير على هداها والتقُيد بما تضمَّنهُ المثل العامي "إذا كبر ابنك خاويه" أي حينما يبلغ ابنك سن الرجولة فعليك أن تتخذه أخاً تمنحه حق القول، وابداء الرأي وتصغي إليه إذا تكلم، وتقبل نصيحته وتشعره بكيانه المستقل حتى يشب عضوا فعالاً في مجتمع صالح يسعى لتحقيق السعادة والطمأنينة في ظل التمسك بأهداب الدين الحنيف دين الإسلام. |
وفي قراءتنا لهذه الرسالة نجد عبارة "قرأت مقالك عن الأستاذ محمد زكي عبد القادر فأكبرت وفاءك" تنتظر مرورنا بها لنعلن رأينا فيها. لقد أراد الشاعر محمد حسن فقي أن يؤكد أن عبد العزيز الرفاعي رحمه الله ليس وفياً للأحياء فحسب بل هو وفي للآخرين ممن تربطه بهم رابطة أياً كانت هذه الرابطة. والكتابة عن الأديب بعد موته إحياء لذكراه وبالتالي الدعاء له بالرحمة والمغفرة، وقليل من الناس في عصرنا الحديث يهتمون بذلك. إن محمد زكي عبد القادر كاتب مصري يلمس القارئ في كتاباته ما يشده إليه من حيث سلاسة الأسلوب ووضوح المعنى، ورقة الكلمات وما تتحلى به من بريق وشفافية أعجب بها عبد العزيز الرفاعي فأثنى عليه بما هو أهله وقد أيده السيد الفقي على ذلك وليس بمستغرب أن تتلاقى أفكارهما وتتحد رغباتهما وهما من تربة واحدة، ويسيران على نهج واحد وينتسبان إلى أسرة عريقة في الشرف والسؤدد. |
وتعترض طريقنا هذه العبارة "ولعل الزمن وأهله بعد رحيله يوفونه حقه من التكريم" وكأني بشاعرنا الكريم يدعو إلى تكريم الأديب الراحل بعد موته طالما حرم هذا التكريم في حياته، لكني أرى وهو رأي الغالبية أن تكريم الأديب أو الشاعر أو العالم بعد موته لا ينفع أيا منهم فهو تكريم عقيم وإنما الواحد من هؤلاء يرغب أن يلمس هذا التكريم في حياته، فيسمع ما يقال عن آثاره الأدبية أو العلمية وأن يقف على رد فعل القرّاء والمتلقين لما كان يكتب، وأن يعرف منهم محاسنه فيزيد منها ويتلقى منهم نصحهم وتوجيههم وملاحظاتهم فيحاول إصلاحها. ويجدر هنا أن نذكر بالإحترام والتقدير السنة الحسنة الحميدة التي سنها الرجل الفاضل عبد المقصود خوجة في هذه الحقبة من حياتنا التي طغى فيها على النفوس حب المال والسعي إلى جمعه بكل الوسائل. هذه السنة هي تكريم الرجال المخلصين التي تركوا لهم في سجل الحياة بصمات خالدات، وطبعوا صورهم في أذهان القراء لينقلوها إلى أجيالهم ولم يقتصر التكريم على رجالات المملكة بل امتد إلى الرجال المبدعين في العالم العربي والإسلامي. ولست هنا أعترض على هذه العبارة ولكني أردت أن اتخذ منها مدخلاً إلى جانب مهم يجب أن يوليه القادرون اهتماماً كبيراً، وما كان سوق عكاظ في العصر الجاهلي إلا إحدى الوسائل التي كان يتزاحم فيها الشعراء ليلقي كل منه شعره حتى يسمع رأي الآخرين فيه علانية وفي ذلك تكريم له، أما أن يظل الكاتب أو الأديب أو الشاعر أو لنقل صاحب قلم يحرث ويزرع وينحت ويصنع دون أن يقول له قائل ما: أحسنت فذلك حيف وهو من أبناء قومه أشد ظلماً قال الشاعر: |
وظلم ذوي القربى أشد مضاضـة |
على النفس من وقع الحسام المهند |
|
وأخيراً تصادفنا قبل أن نصل إلى خاتمة الرسالة الكريمة التي بعث بها الشاعر العربي الكبير في العصر الرديء السيد محمد حسن فقي إلى تلميذه واقعا وأخيه اعتزازاً تصادفنا العبارة التالية: "إنني من غرة الشهر القادم سأتوقف عن النشر شعراً ونثراً.. فما يحوطني من أحقاد وخصومات ولدد يضيق صدري به وأنا رجل ميال للحب والسلامة ولا أطيق الضغائن ولا اللدد في الخصومة". عجباً أن نقرأ مثل هذه العبارات التي تنضح إحباطاً، وتفوح تضعضعاً وتخاذلاً من شاعر كثيراً ما استقينا منه الحكمة والعظة والعبرة والدعوة إلى الصمود ومجابهة أحداث الزمان وغِيَر الأيام بالصلابة والقوة والعمل الدؤوب الذي تتكسر على أعمدته قرون كل الوعول التي تغريها قرونها بأن تحاول أن تخدش مجرد خدش تلك الأعمدة الإسمنتية، ولطالما وجدناه يقف كالمنار لا بل كالعَلمَ في رأسه نور يرسل أضواءه يهدي بها من يتلمس طريقه إلى الخير. ولو أعلن السيد الفقي رأيه على الملأ لما وجد أحداً يوافقه عليه لأن التوقف عن النشر يعني التوقف عن التحرك بالنسبة له، فالنشر حركة والحركة هي الحياة لأن الحركة هي مصدر العطاء ومصدر النمو ومصدر للزيادة والتكاثر، وهي العامل المهم في تطور الحياة وتقدمها. في حين نجد التوقف عن النشر هو الصمت والصمت سكون والسكون هو الموت هو الجمود هو أن تظل الأشياء معطلة غير منتجة لا تتكاثر لا تنمو معرضة للنفاد، ونحن معشر قراء شعره ونثره لا نرضى إلا أن نرى أستاذنا متدفق العطاء يروي عقولنا، ويطفئ لهفتنا وشوقنا بالممتع من أدبه، وأن يحلق بنا معه في صوره وخيالاته. |
وحقد الناس أو حسدهم على من آتاه الله مالاً أو جاهاً أو علماً ليس من مبتكرات هذا العصر ولكنه خلق متوارث بين الأجيال منذ أن حقد إبليس لعنه الله على أبينا آدم عليه السلام وسعى في إخراجه وزوجه من الجنة ولحكمة من الله سبحانه وتعالى هو أعلم بها تمكن إبليس من أن يفلح في تحقيق هدفه من إخراج سيدنا آدم عليه السلام وزوجه من الجنة التي حرمها الله على إبليس وذريته ويعتبر حسد إبليس لآدم أول حسد حدث في السماء بل هو أول ذنب عصي الله به في السماء. وأما أول حسد حدث على الأرض فحسد قابيل ابن آدم حيث قتل أخاه حسداً فكان ذلك الحسد أول حسد حدث على الأرض وبالتالي هو أول ذنب عصي به الله على الأرض. ويقول بعض المفسرين في قوله تعالى: ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين. أنه أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الأنس قابيل. |
وسيظل هذا الخلق بين طوائف كثيرة من البشر يتناقلونه سلوكاً وعملاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها. |
والشعراء الأوائل قد تركوا من أشعارهم ما يفيض دروساً وحِكَماً بالغة قال أحدهم: |
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه |
فالقوم أعداء لـه وخصـوم |
|
وقال ابن المبارك: |
كل العداوة قد ترجى إماتتُها |
إلا عداوة من عاداك من حسد |
|
وقال شاعر أندلسي: |
اصبر علـى حسـد الحسـود |
فإن صبرك قاتلُه |
النار تأكلُ بعضَها |
إن لم تجد ما تأكله |
|
وقال آخر: |
إن العرانين تلقاها محسَّدة |
ولن ترى للئام النـاس حُسَّـادّاً |
|
وقال بعض الشعراء: |
إن يحسدوني فإني غـير لائمهـم |
قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا |
|
وما أجمل قول أبي تمام في هذين البيتين: |
وإذا أراد الله نشر فضيلة |
طويت أتاح لها لسـان حسـود |
لولا اشتعال النار فيما جـاورت |
ما كان يعرف طيب عرف العود |
|
وأما هذا البيت والذي ينسب لأبي عاصم النبيل
(1)
. |
فلست بحيٍّ ولا ميت |
إذا لم تعادَ ولم تُحسَدِ |
|
فهو يصور أولئك الأشخاص الذين يبتعدون عن ميادين المنافسة والزحام خوفاً من الوقوع في الأخطاء أو التعرض للأذى من الآخرين ويلزمون دورهم فهم أموات يمشون على الأرض. |
قد يتساءل سائل أن الحسد لم يرد في رسالة السيد محمد حسن فقي وإنما ورد فيها الحقد والحقد غير الحسد وهذا كلام صحيح ولكن الحقد وهو ما يضمره المرء من البغضاء لأخيه متربصاً به للنيل منه وهذه الكلمة ومشتقاتها لم ترد في كتاب الله عز وجل في حين وردت كلمتا العداوة والبغضاء معاً في أربع آيات ووردت كلمة البغضاء منفردة في آية واحدة بينما وردت كلمة العداوة منفردة في آيتين ولذلك تجنبت ذكر كلمة الحقد لأن الله سبحانه وتعالى نزه كتابه عن ذكرها وأولى بنا معشر المسلمين أن ننزه ألسنتنا عنها، ثم أن كلمة الحسد قد تأتي مشتملة على إضمار العداوة قال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب أن يردوكم بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم أي كراهية وعداوة مضمرة. |
وشكوى السيد محمد حسن فقي من الزمان وأهله ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في بني البشر فلقد سبقه كثيرون لن يتمكن أحد من إحصائهم إلا أننا نطمح في أن يظل شاعرنا الكبير نهراً دافقاً بالعطاء شعراً ونثراً مما تحفل به رياضه الأدبية حتى نعيش معه في ظلال تلك الرياض هانئين تطوف بنا أنسامها عابقة بأطيب العطور مبحرة بنا بين مختلف البحور فنقطف من رياضه ما لذ وطاب ونكسب من بحوره اللؤلؤ والمرجان. |
|