شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
5- عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، وارحمني إن شئت، وارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، فإنه يفعل ما يشاء لا مُكرِهَ له (1) .
ليعزم مسألته: من عزمت على الشيء إذا صممت على فعله، وقيل عزم المسألة جزم لها من غير ضعف في الطلب، وقيل هو حسن الظن بالله في الإجابة، والحكمة فيه أن التعليق فيه صورة الاستغناء عن المطلوب منه وعن المطلوب (2) .
والرسول (صلى الله عليه وسلم) حريص وهو يربي المسلم ويؤدبه، على جعله يأخذ بجميع مظاهر القوة، لأن القوة جمال، ومن مظاهر القوة في الشخصية الجميلة وجود الإرادة عاملاً أساسياً في تصرفات الإنسان.
فأي عمل مهما كان عظيماً يظهر من إنسان بلا إرادة منه فقيمته تذهب أدراج الرياح.
وأي عمل مهما كان متواضعاً يؤدى بإرادة وتصميم، فهو لا بد أن يحقق قيمة طيبة قد تدفع العامل إلى زيادة في المجهود، وبالتالي إلى إتقان أكثر، كما أن لها شأنها في الاستمرار على العمل للوصول إلى الهدف، وما أكثر الأهداف الجليلة التي يسعى إلى تحصيلها المسلم.
وفي تصوري أن جمال الشخصية وقبحها يرتكز على عدة محاور منها:
الإرادة، فلا يكاد يخطىء اثنان في حكمهما الجمالي على شخصيتين: إحداهما ذات إرادة والأخرى مسلوبة الإرادة.
وإذ نتجاوز ذلك المعنى إلى الصياغة التي صيغ فيها الحديث الشريف يسترعيني وأنا أبحث عن "التوازن" بين اللفظ والمعنى في النص السابق، يسترعيني الشكل الذي قدم فيه ذلك المضمون، فقد جاءت ألفاظ الحديث على بساطتها تحمل المعنى وتجسم الصورة خير تجسيم، فإن تكرار اللفظ "إن شئت" في كل مرة -في تصوري- لم يكن بدون مغزى ولكني أرجح أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كرر اللفظ حتى يجسم لنا صورة إنسان لا إرادة له، فكأنه لا هدف له، وهو بذلك لا تجدد في حياته، حتى ماتت لغته، لأن اللغة تواكب طاقات الإنسان وطموحاته، فمن كبرت آماله اتسعت لغته ومن ضاقت طموحاته وماتت آماله، ضاقت لغته وماتت مفرداته لذا فهو يكرر نفسه في كل الميادين: المعنوية حيث "المغفرة والرحمة" والمادية حيث "الرزق"، وبهذا "التوازن" بين التركيب والمعنى، أصبح للتركيب إشراقه الذاتي المنبعث من ذلك "التوازن" بينه وبين المعنى.
وهذا النص في تصوري نموذج لنصوص أخرى في البيان النبوي، خالية تماماً من الفنون البلاغية، ومع ذلك فلألفاظها وتراكيبها جمال خاص حير النقاد قدامى ومحدثين فانكبوا على دراسته، وحاولوا الوصول إلى مستسر الجمال فيه. إن معيار "التوازن" الجمالي وحده هو الذي فسر لي جمال النص السابق وفسر لي سر تكرار العبارة في ذلك النص بما زادها إشراقاً في نفسي، وبهذا المعيار نفسه أستطيع أن أفسر سر تنوع الأساليب في البيان النبوي من التقرير إلى الإنشاء إلى المباشرة أو استخدام الصورة إلى آخر ما هنالك من استخدامات.
فاللفظ عند الرسول (صلى الله عليه وسلم) له مرام وآماد معينة لا يعيها ولا يطالب بفقهها متلقي الحديث الشريف، إنما يطالب بها دارس الجمال في البيان النبوي وبدون نظرته إلى البيان من خلال معيار التوازن الجمالي -أرجح- أنه قد يشعر بجمال النص ولكنه لن يسبر غور الجمال المستكن في المضمون.
والمسلم وهو ينشد الصراط المستقيم باطراد، يشعر دوماً برعاية الخالق سبحانه وتعالى له، هذه الرعاية يستمدها من الأخلاق الراقية التي ما زال محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم يؤدبه بها، منذ ولادته إلى وفاته، ومن أول ما يفتح عينيه صياحاً إلى أن يغلقها ليلاً مراعياً في ذلك تنقله من خلال دوائر متصلة بعضها ببعض، ولا يستطاع فصل دائرة منها عن الأخرى، دائرة أخلاقه الشخصية، إلى دائرة أسرته المحدودة، إلى دائرة أقاربه وذوي رحمه، إلى دائرة مجتمعه.
هذه الأخلاق والتي يبدو فيها الخلق ونقيضه – الحب والكره، القسوة والرحمة، التواضع، والكبر... الخ – المسلم مطالب بها جميعاً، لذا كان المسلم في أمس الحاجة إلى القوة، القوة التي يستطيع بها إحياء هذه الآداب جميعها في نفسه، حيث لا يطغى عنده خلق على خلق، لا يميت انفعال انفعالاً آخر، بل جميعها في نفسه متيقظة متوثبة وهو مع كل هذه الحياة الداخلية التي يحياها يبدو بقوته متزناً تبدو عليه السكينة.
من هنا استطعت أن أفهم حقيقة تفضيل الله عز وجل للمؤمن القوي، فجعلت القوة من الغايات الأولية الهامة التي يجب أن يتوخاها المسلم لكي تحفظ له توازنه في بقية الآداب.
6- "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل" (3) .
أول ما استرعى انتباهي في هذا الحديث، اشتراك الفرد القوي والضعيف في صفة ألا وهي: الإيمان، فإذا كان الإيمان وحده قوة روحية عظيمة الشأن وطاقة فعالة في جسد القوي والضعيف، بقي تفسير القوة والضعف اللذين ذكرهما الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتفسير التفضيل الذي اختص به القوي.
هنا أرجح أن المراد بالقوة في هذا الحديث هي القوة البدنية بعد تسليمي بأن الإيمان قوة أخرى تسري في جسد القوي والضعيف على سواء.
فإلى ماذا يمكن تفضيل الله عز وجل للمؤمن القوي إلا إلى قوة الجسد؟
فقد أراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يبرز هذا التفضيل حض المسلمين على الأخذ بمظاهر القوة والعمل على تقوية أجسادهم بشكل "تتوازن" فيه تلك الأجساد مع قوة الإيمان، لأن قوة الإيمان ستدفعهم إلى القيام بأعباء لا تستطيعها الأجساد الضعيفة، وعندها ستصدم تلك القوة الروحية بالضعف الجسدي سيختل "التوازن" بشكل أو بآخر.
ولكن عندما تتقابل قوة الإيمان، وتجد لها سنداً، في الجسد، وتلبية لمتطلباتها، عندها "ستتوازن" الكفتان وسيستمر السعي في طلب الصراط المستقيم، فعندما طلب من المسلمين صدُّ جحافل الكفر في "بدر" وافق ذلك الطلب قوة في إيمانهم، وأخرى في أجسادهم، فتوازنوا أتم ما يكون "التوازن" ونتج عن هاتين القوتين المتعادلتين شجاعة فاقت العدد والعتاد فانتصروا في "بدر" رغم قلة عددهم، وحقت مشيئة الله ووعده بنصرهم.
ودليل آخر على أن القوة المرادة هنا هي: القوة الجسدية قوله: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" فالحرص على كل ما ينفع الإنسان يحتاج لقوة الجسد التي تمكنه من السعي هنا وهناك.
إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يريد أن يعلمنا من خلال هذا الحديث كيف نكون "متوازنين" فالحديث -كما أعتقد- قد جمع ملامح "التوازن" كلها: الإرادة، العمل، اليقظة، التعايش مع الموقف، التوكل على الله وأخيراً السكينة.
فقوله: "احرص على ما ينفعك" أستنبط منها: الإرادة واليقظة.
وقوله: "استعن بالله ولا تعجز" فيها التوكل والعمل.
وقوله: "إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل" أخرج منها بالسكينة والرضى بقدر الله.
وهذه الأمور جميعاً تتطل القوة، القوة الجسدية حيث تمكنه من السعي، والقوة الروحية حيث تشحذ ذلك الجسد بالطاقة التي تمكنه من متابعة الحرص على كل ما ينفعه، ثم هي أي القوة الروحية ترضيه بنتائج السعي مهما كانت إيجابية أو سلبية، حيث إن تلك القوة ممزوجة بالإيمان.
بقي أمر: ماذا لو ابتلى الله العبد بما يضعف جسده؟ بما لا يستطيع دفعه من مرض أو كبر سن، بحيث أصبح غير قادر على القيام بتكاليف الشرع كما يجب؟.
هنا يأتي الملمح الأخير من ملامح "التوازن": وهو التعايش مع الموقف والذي استنبطته من قول الرسول (صلى الله عليه وسلم):وفي كل خير.
هنا تبدو عظمة الإسلام بواقعيته في التلاؤم مع جميع الظروف، وبتحويل الفضيلة من فلسفة نظرية إلى حكمة واقعية رشيدة كما في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم).
فقول الرسول (صلى الله عليه وسلم):وفي كل خير أي: "في كل من القوي والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان، مع ما يأتي به الضعيف من العبادات" (4) ، فتكون تلك العبارة كالبلسم يتداوى به ذلك الضعيف.
بل يأتيه مبشر آخر في حديث آخر يقول له:
 
طباعة

تعليق

 القراءات :559  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 69 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج