شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
3- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلْقه كلهم واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييْأس من الجنة ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن النار (1) .
هذا الحديث يطمئن من هذه حاله، وكأنه يقول له: إن ما يساورك من القلق هو قلق صحي، أو كأنه يقول له: لو لم تكن حالك هكذا بين الخوف والرجاء، فالعيب فيك، فما من مسلم يسير على الصراط المستقيم، إلا وتنتابه هذه الحالة، الخوف من الله، والرجاء فيما عنده.
أما من أخذ به الخوف كل مأخذ وأقعده عن العمل وأوثق جوارحه عن السعي ابتغاء ما عند الله فإذا ما سمع قول الله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (2) وغيرها من آيات العذاب، ارتعدت فرائصه ونسي ما بين دفتي المصحف من آيات الرحمة، فإنه هالك لا محالة وفي المقابل من تهافتت نفسه رجاء فيما عند الله، فأقعده ذلك الرجاء عن العمل من أجل الآخرة، ومحاسبة النفس، واستهان بعذاب الله، فكثر زللـه، فلم يعد ينظر إلى الله إلا بعين واحدة؛ عين الرجاء فإنه هالك أيضاً، لأن هذه الحالة هي سوء أدب مع الله، ولا أجد هذه الحالة إلا مع مقترفي الذنوب، فيكون الواحد منهم تغمره الذنوب من كل جهة فإذا ما ذكر بعذاب الله، قال: إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا (3) ، ونسي أو تناسى: وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ (4) .
فالحديث يدعو المسلم أن "يتوازن" بين الخوف والرجاء، وأن تكون حاله لا أقول في حال بين حالين، بل يحتفظ بالحالين معاً. وهو في سيره على الصراط المستقيم، "فالتوازن" عندي لا يتحقق بالمزج أو بالدمج، ولكن يتحقق بالجمع بين الشيئين مع احتفاظ كل منهما بذاته وقد شبه "ابن القيم الجوزية" هذه الحالة، وهي الجمع بين الخوف والرجاء بجناحي طائر فقال: "القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران ومتى قطع الرأس مات الطائر ومتى فقد الجناحين فهو عرضة لكل صائد" (5) وأزيد: ومتى هيض جناح فقد القدرة على الطيران.
فمضمون الحديث مضمون جميل يعيد إلى نفس الإنسان القلق الطمأنينة والسكون فيصبح الخوف والرجاء في نفسه صفتين حميمتين فيهدئ الرجاء من روعة الخوف، ويكبح الخوف عنان الرجاء كلما جنح، وبذلك تستمر النفس في السعي ابتغاء ما عند الله، وهي في حالة من التوازن.
أما عن الشكل الذي حمل لنا ذلك المضمون، فقد اعتمد على "التوازن" من باب المقابلة: "فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن النار" والمقابلة -كما أشرت في الفصل الثاني- تعتمد في صحتها أو خطئها على "التوازن".
إذاً "فالتوازن" هنا واضح من حيث الشكل، والمقابلة بين الحالتين كانت جميلة لأنها اعتمدت على الموازنة بين الحالتين.
فمضمون الحديث يدعو إلى "التوازن" والشكل الذي صيغ به اعتمد "التوازن" وبهذا تكتمل للحديث مقومات الجمال.
الأحاديث السابقة كانت تقوي عند المسلم مراقبة الله والتوكل عليه والخوف والرجاء منه، هذه الجوانب الثلاثة إذا استحكمت داخل الفرد خلقت عنده قوة وحرية تؤثران على بقية سلوكه.
فإن أي اعتقاد يعتقده الإنسان بغض النظر عن صحته أو خطئه لا بد أن ينعكس عنه أنماط من السلوك، تكون أثراً من آثار ذلك الاعتقاد.
فمثلاً: الذي يخاف الجن أو غيرهم من المعتدين ويحسب لهم حساباً، يظهر على أقواله وتصرفاته ما يعكس ذلك الخوف.
والذي يؤمن بالله حق الإيمان ويتوكل عليه ولا يخاف ولا يرجو إلا الله، لا بد أن يظهر من سلوكه ما يترجم ذلك الإيمان.
اهتمت أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) -فيما اهتمت به- بإبراز الآداب السلوكية التي تنعكس على تصرفات الفرد نتيجة إيمانه بالله.
ففي ميدان الانفعالات مثلاً – كان لا بد من مرجع يفيء إليه المسلم، لأن القوة والضعف والغضب والرضى والسخط والعفو وغيرها من الانفعالات والمشاعر لا يجدي معها النصح بالاعتدال والتوسط على الإطلاق، لأن لهذه الانفعالات والمشاعر وظائف ضرورية، فلا غنى عنها، ولأن انفعالاً ما من ناحية قد يكون نافعاً ضرورة في موقف، بينما يكون مبيراً مهلكاً في موقف آخر.
فلا مناص إذن من مرجع يصنف المواقف، ولا بد من قيم ثابتة يحتكم إليها: فيمَ يكون السخط الشديد نافعاً أو ضاراً، وفيمَ يكون العفو مفيداً وفيمَ يصبح جريمة؟ فيمَ تصبح الرحمة قسوة وداءً وفيمَ تكون دواء؟ كيف يكون التواضع فضيلة ومتى يكون رذيلة؟ (6) .
وهكذا يصبح لكل انفعال درجات ومراتب يجب على المسلم أن يضع نفسه في الدرجة المناسبة بناء على كل موقف ولما كانت هذه الدرجات تنتهي إلى الأذواق، والأذواق يستحيل أو يصعب قياسها قياساً موضوعياً مطرداً في جميع الأزمنة والأمكنة، فلا مناص من تبيان المواقف على ضوء شريعة الخالق وائتماماً بالقدوة الذي كان خلقه القرآن محمد (صلى الله عليه وسلم).
لذا كان لا بد لي أن أتوج تلك الآداب بفضيلة العلم.
4- وعن أبي موسى الأشعري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: مثل ما بعثني اللهُ به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نَقِية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسكُ ماءً ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (7) .
والنص السابق يقدم لنا صورة لمدى استجابة الناس للعلم الذي جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو أول مقتضيات التوازن على الصراط المستقيم، فيه يعرف الإنسان الغاية من وجوده، وبناءً على هذا فهو يتعامل مع الكائنات والطبيعة من حوله تعامل العارف بها، وهذا النوع من المعرفة، يحفظ له وللكون "التوازن" المطلوب الذي يديم صلاحية التعامل إلى أن يشاء الله – وقد تحدثت عن دور العلم لحفظ التوازن سابقاً.
ولو دققنا النظر في الصورة التي قدمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لمدى استفادة الناس من العلم الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لوجدنا أن خير هذه الفئات، الفئة المتوازنة وهي التي تلقت العلم فظهر أثره على سلوكها وتصرفاتها، ومن ثم قدمته لغيرها من الناس، فاتسعت دائرة الخير، لأنه كلما ازداد عدد المتعلمين المتوازنين عم الخير والجمال في المجتمع.
ثم الفئة الثانية وهي التي تلقت العلم ولم تنفع به ولكنها مع ذلك قامت بنشره بين الناس، فانتفع به غيرها، وهذه الفئة لا يمكن أن تكون صحيحة التفكير سليمة الطباع وإلا لانتفعت بالخير الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل تقديمه للناس، لأن الإنسان لحب الخير لشديد. إذاً فهذه الفئة لا يمكن أن تكون "متوازنة" في تصرفاتها وسلوكها.
وأخيراً الفئة الثالثة وهي: التي لم تنتفع بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولم ينتفع غيرها منها، وهذه الفئة مسرفة ظالمة لنفسها.
أما الشكل الذي أدى ذلك المعنى الشريف، فقد استعان الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأسلوب التشبيه لأداء المعنى – وأسلوب التشبيه من الأساليب التي يظهر فيها قيمة معيار التوازن الجمالي.
فالمعنى الذي أراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) إيصاله للناس من المعاني الجليلة التي يتوالد عنها معانٍ كثيرة لا يستطاع حصرها، وهذا النوع من المعاني من الأبلغ فيه استخدام الصورة بدلاً من التعبير المباشر، وذلك للإيجاز ولتعميق الإحساس بالمعنى عن طريق التخيل.
وقد استطاع التشبيه في هذا الحديث توصيل الفكرة بكل دقة وأمانة، فلما كان المشبه وهو العلم من المعاني التي يتوالد عنها معانٍ جمة، كان المشبه به يتوازن مع ذلك المعنى، فالأرض بجميع أنواعها الزراعية، والجدباء والصحاري كل منها في حركة مستمرة بغض النظر عن إثمارها أو غيره.
"فالتوازن" بين المشبه والمشبه به في ذلك الأسلوب التمثيلي كان تاماً ودقيقاً لذا ساغته النفس والذوق وقَرَّا به.
"فالتوازن" باعتباره معياراً جمالياً يبرز في النص السابق من ناحيتين:
الأولى: في اختيار الرسول (صلى الله عليه وسلم) أسلوب التشبيه بالذات للتعبير عن ذلك المعنى.
الثانية: في "توازن" أسلوب التشبيه نفسه حيث تعادلت الكفتان المشبه والمشبه به.
وأهم ما يتأدب به الإنسان بعد تلقيه العلم أن يكون ذا إرادة، هذه الإرادة هي أهم ما يحتاجها الساعي على الصراط المستقيم حيث تمثل له الطاقة الفعالة التي تحضه على عمل ما وتمنعه من عمل آخر -وأرجح- أن الإرادة تقابل في المصطلحات الفقهية النية التي لا يقبل أي عمل إلا بها، كما أن الإرادة ملمح هام من ملامح "التوازن" لذا كره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شخصية المسلم الضعيف الذي لا إرادة له فقال:
 
طباعة

تعليق

 القراءات :671  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 68 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج