جـ– عيوب الوزن خلل في "التوازن": |
مما سبق تبين أثر النغمة المتوازنة الصحيحة على نفس السامع، حتى إنه قد يصل تأثيرها مداه فتستخرج من الأعضاء حركات متوازنة معها، فإذا كانت النغمة الموزونة تسرى في البدن كله وتؤثر فيه كل هذا التأثير فماذا لو اختلت النغمة بسبب عيب من عيوب الشعر؟ بالطبع سيصك المستمع هذه النغمة الشاذة، كما يصك الإنسان حجر يشدخ رأسه، وهذا لا يشعر به إلا من أوتي أذناً موسيقية حساسة. كما شعر بذلك "أبو حامد الغزالي" وعبّر عنه بقوله: "إن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيراً في النفس، فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون... ولو زوحف المغني البيت الذي ينشده أو لحن فيه أو مال عن حدِّ تلك الطريقة في اللحن لاضطرب قلب المستمع وبطل وجده وسماعه، ونفر طبعه لعدم المناسبة، وإذا نفر الطبع اضطرب القلب وتشوش، فالوزن إذن مؤثر ولذلك طاب الشعر"
(1)
. |
وعيوب الوزن لا تخرج عن كونها خَلَلاً في "توازن" النغمة. |
هذا الخلل يقع إما في داخل البيت أو قافيته. |
- الخلل الذي يقع داخل البيت: |
"الزحاف": هو تغيير يلحق ثاني السبب الخفيف أو الثقيل ويسمى بذلك لثقله، غير أن الزحاف قد يعترض البيت أو البيتين في القصيدة فلا يؤثر في موسيقاها العامة، وتظل تحتفظ "بتوازن" النغمات. وهذا لا بأس فيه، ولكن أن يفرط فيه الشاعر بحيث يؤدي إلى خلل في "توازن" موسيقى الشعر. فهذا الذي عابه النقاد. |
يقول "قدامة" عن عيوب الوزن: "من عيوبه الخروج عن العروض... وهو أن يكون قبيح الوزن قد أفرط في تزحيفه، وجعل ذلك بنية للشعر كله حتى ميّله إلى الانكسار، وأخرجه من باب الشعر الذي يعرف السامع له صحة وزنه في أول وهلة إلى ما ينكره حتى ينعم ذوقه، أو يعرضه على العروض فيصح فيه، فإن ما جرى هذا المجرى من الشعر: ناقص الطلاوة قليل الحلاوة. وذلك مثل قصيدة "عبيد بن الأبرص" وفيه أبيات قد خرجت عن العروض البتة، وقبح ذلك جودة الشعر حتى أصاره إلى حد الرديء، فمن ذلك قوله: |
والمرء ما عاش في تكذيب |
طول الحياةِ له تعذيب |
|
فهذا معنى جيد ولفظ حسن، إلا أن وزنه قد شانه وقبح حسنه، وأفسد جيده، فما جرى من التزحيف في القصيدة أو الأبيات كلها أو أكثرها كان قبيحاً.. إنما يستحب من التزحيف ما كان غير مفرط، وكان في البيت أو البيتين من القصيدة من غير توال ولا اتساق"
(2)
. |
ويقترب "الخفاجي" من معنى "التوازن" في موسيقى الشعر عندما يتكلم عن الزحاف فيقول: "من المناسبة أيضاً التناسب في المقدار وهذا في الشعر محفوظ بالوزن، فلا يمكن اختلاف الأبيات في الطول والقصر، فإن زاحف بعض الأبيات أو جعل الشعر كله مزاحفاً حتى مال إلى الانكسار وخرج من باب الشعر في الذوق كان قبيحاً ناقص الطلاوة"
(3)
. |
- الخلل الذي يقع في القافية: |
ومنه على سبيل المثال: |
- "الإقواء": وهو من العيوب التي تعترض قافية القصيدة وتؤثر في "توازن" النغمة ويشرح ذلك "الخفاجي" بقوله: "ومن تناسب القوافي تجنب الإقواء فيها، وهو اختلاف إعرابها فيكون بعضها مثلاً مرفوعاً وبعضها مجروراً"
(4)
. |
وقد أشرت فيما مضى إلى أن النغمة "المتوازنة" تسري في جسد المتلقي حتى تدفعه إلى أن يتحرك بحركات تتناسب مع تلك النغمة، فتخيل معي كل هذا الاسترخاء لنغمة معينة تصبح متوقعة، ثم يفاجأ السمع بنغمة أخرى، لا تستمر طويلاً بل سرعان ما تعود النغمة السابقة، إن ذلك بالطبع سيؤدي إلى نفور السمع، والشعور بالنشاز. |
وقد تحرزت بقولي: "لا تستمر طويلاً" من أن بعض النغمات لا تسير على وتيرة واحدة ولكن هناك نظام معين يحكم هذه التغيرات بحيث تعود إلى "التوازن" مرة أخرى كما في "التواشيح" وغيرها من المسمطات والرباعيات والخماسيات. |
ويكفي لمعرفة قبح الإقواء، ما ترويه كتب الأدب من أن "النابغة" كان يقوي حتى دخل المدينة وسمع أهلها يغنون بقوله في قصيدته التي أولها: |
من آل مية رائح أو مغتدي |
عجلان ذا زاد وغير مزودِ |
زعم البوارح أن رحلتنا غداً |
وبذاك خبَّرنا الغرابُ الأسودُ |
|
ففطن للإقواء وتركه. |
- "السِّناد" أيضاً عيب وهو: اختلاف في الحركات قبل حرف الروي
(5)
. |
كقول عمرو بن كلثوم: |
ألا هُبي بصحنك فاصبحينا |
"فالحاء" مكسورة، وقال في آخر: |
تُصَفِقُها الرياحُ إذا جَريْنـا |
"فالراء مفتوحة"
(6)
وهذا خلل ينبو عنه ذوق المتلقي. |
- "الإجازة": اختلفوا في الإجازة. فقال بعضهم هو: أن تكون القوافي مقيدة فتختلف الأرداف كقول امرئ القيس: |
لا يدعي القوم أني أفِـر |
فكسر الردف، وقال في بيت آخر: |
وكندة حولي جميعاً صُبُرْ |
فضم الردف، وقال في بيت آخر: |
ألحقـت شـراً بِشَـر |
ففتح الردف. |
وقال "الخليل بن أحمد": "هو أن تكون قافية ميماً وأخرى نوناً"
(7)
؛ وأياً ما تكون فالردف صوت ناشز يحطم انسجام النغمة و "توازنها". |
مما مرّ تبين لي أن عيوب الشعر كما عدّها النقاد ما هي إلا خلل في "التوازن" العام لموسيقى الشعر، سواء ما وقع منها داخل البيت، أم ما كان منصباً منها على القافية. |
أما إذا خلت القصيدة من هذه العيوب، فإنها تتوازن التوازن الموسيقي المعجب الذي امتدحه النقاد. |
مثل قول الشاعر: |
أستحدث الركب عن أشياعهم خبراً |
أم راجع القلب من أطرابه طربُ |
|
ويعلق على هذه الأبيات "ابن رشيق" مصرحاً بمعيار "التوازن" فيها بقوله: |
"لأن قوله -أستحدث الركب- موازن لقوله: "أم راجع القلب"، وقوله: "عن أشياعهم خبراً" موازن لقوله: "من أطرابه طربُ". وكذلك "الركب" موازن "للقلب" و (عن) موازن (لمن) و "أشياعهم" موازن "لأطرابه" وخبراً موازن "لطرب". |
فكل لفظة من هذا التقسيم الأول موازنة لأختها من القسم الآخر موازنة عدل وتحقيق
(8)
. والنص السابق يبين كيف فطن "ابن رشيق" لمعيار "التوازن" وكيف أشار إليه وحققه عملياً في البيت السابق. |
ويشرح "د. منصور عبد الرحمن" "التوازن" الموسيقي وأثره على جمال موسيقى الشعر مسمياً إياه -كما مرّ- "قانون التناسب والتنافر" بقوله: "وهكذا يتوافر العنصر الموسيقي في الشعر بمراعاة قانون التناسب والتنافر وتتوالى الأبيات في القصيدة على نظام محكم في التفاعيل والحركات والسكنات وفي درجة الصوت فلكل بيت ولكل شطر لحظة من الزمن لا تقل ولا تكثر حتى لا يحدث اختلال في انفعالات السامع نتيجة للنشاز الموسيقي، وكل ما سبب اضطراباً في التوازن الموسيقي إنما هو تهجين للشعر وخروج به عن حد القبول والذوق"
(9)
. |
فالقانون الذي يتحدث عنه المؤلف ما هو إلا قانون "التوازن" وهذا المصطلح أجده قد فرض نفسه على المؤلف في النهاية حيث قال بعد ذلك: "وهكذا يتضح التوازن كعنصر أساسي من عناصر الجمال في العمل الأدبي، وتعد قوانينه من أهم مقومات الحكم الجمالي"
(10)
. |
وبالرغم من أن النص يوحي بأن المؤلف طبق معيار "التوازن" على جميع مقومات العمل الأدبي، إلا أنه لم يطبقه في كتابه "معايير الحكم الجمالي عند العرب" إلا على الجانب الإيقاعي فقط، أي على الناحية الموسيقية فقط. |
وهكذا أصل إلى أن معيار "التوازن" يظهر أثره بكل وضوح وقوة في "الوزن" الذي يجمل النثر الفني – كما مرّ في مبحث البلاغة عند حديثي عن السجع والازدواج والترصيع والتشطير والتوشيح – ويقوم عليه الشعر. |
وأن "التوازن" في الوزن الشعري ليس فقط في النغمة والموسيقى، وإنما هو قائم بين المعاني والأوزان والعواطف والأعاريض. |
|