شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ب- التوازن بين الأعاريض والانفعالات:
مما هو ملاحظ أن انفعالات النفس تتحكم في نبرة الكلام. فإذا كان الإنسان سعيداً فرحاً، كانت نبرته تعبر عن تلك السعادة بحيث إن السامع يستطيع أن يتبين حالة المتكلم فبيل أن يصرح له بسعادته. وكذلك إذا كان حزيناً، أو مريضاً فإن نبرته تضعف وتهن، وتوحي بما يشعر به المتكلم، قس على ذلك جميع الانفعالات من الدهشة، والاستنكار، والاشمئزاز، والزهو والفخر وما إلى ذلك...
فإذا كانت نبرة الكلام "تتوازن" تلقائياً وبدون شعور المتكلم العادي مع انفعالاته، فإن هذه النبرة ستتعمق عند الشاعر وتتبلور في حسه وتخرج لنا على شكل آخر مما عند الإنسان العادي أي على شكل العروض.
وبما أن الانفعالات مختلفة كما مر بنا، لذا اختلفت الأعاريض في الشعر. حتى ليتناسب كل انفعال مع العروض الذي يشاكله.
يقول "حازم": "ولما كانت أغراض الشعر شتى وكان فيها ما يقصد به الجد والرصانة وما يقصد به الهزل والرشاقة، ومنها ما يقصد به البهاء والتفخيم وما يقصد به الصغار والتحقير، وجب أن تحاكى تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس فإذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الضخمة الباهية الرصينة، وإذا قصد في موضوع قصداً هزلياً أو استخفافياً وقصد تحقير شيء أو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة القليلة البهاء، وكذلك في كل مقصد، وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض وزناً يليق به ولا يتعداه فيه إلى غيره" (1) .
من النص السابق توصلت إلى أن "حازماً" طالب الشعراء بـ: "التوازن" بين الأغراض – التي هي تعبير عن عاطفة معينة – وبين أعاريض الشعر لدرجة أنه قد يتهاون في الضعف الذي قد يعتري الشعر نتيجة لرقة الكلام ما دام كان هذا الضعف يتناسب مع الموقف ككل، أي مع العروض والغرض، ويؤكد ذلك قوله: "وللأعاريض اعتبار من جهة ما تليق به من الأغراض.. فمنها أعاريض فخمة رصينة تصلح لمقاصد الجد كالفخر ونحوه نحو عروض الطويل والبسيط...
أما المقاصد التي يقصد فيها إظهار الشجن والاكتئاب، فقد تليق بها الأعاريض التي فيها حنان ورقة، وقلما يخلو الكلام الرقيق من ضعف مع ذلك، لكن ما قصد به من الشعر هذا المقصد، فمن شأنه أن يُصفح فيه عن اعتبار القوة والفخامة، لأن المقصود بحسب هذا الغرض أن تحاكى الحال الشاجية بما يناسبها من لفظ ونمط تأليف ووزن. فكانت الأعاريض التي بهذه الصفة غير منافية لهذا الغرض، وذلك نحو المديد والرمل" (2) .
وأخيراً أقول فأما لو "توازن" العروض مع المتلقي كما "توازن" مع المنشئ فإن ذلك يحدث تأثيراً قوياً في المتلقي، وقد مرّ بنا قول "لابن طباطبا" يصلح لأن يستشهد به هنا يقول فيه: "وللشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه، ويرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه، فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تم قبوله له" (3) . ويقول: "فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم، وكان أنفذ من نفث السحر، وأخف دبيباً من الرقى، وأشد طرباً من الغناء، فسلّ السخائم، وحل العقد، وسخى الشحيح، وشجع الجبان" (4) .
و "لأبي حامد الغزالي" كلام متفرق في "إحيائه" عن الوزن وأثره على النفس جاء منه "إن الوزن إذا انضاف إلى السجع صار الكلام أوقع" (5) . ويقول: "ولله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً. فمن الأصوات ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها ما ينوم، ومنها ما يضحك، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس، ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معنى الشعر، بل جار في الأوتار حتى قيل من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج" (6) .
ويقودني هذا إلى أن "التوازن" بين العاطفة والعروض له أثر كبير على جمال الشعر، بحيث إن الانفعالات تتدرج من القوة إلى الضعف، والأعاريض كذلك، فإذا لابس كل انفعال العروض الذي يناسبه، أحدث ذلك أريحية عند المتلقي ونشوة، وأثر ذلك النغم المتوازن على نفسيته بحيث يحملها على الشعور المشاكل لشعور الأديب، ومن هنا اكتسب الشعر خاصة والأدب عامة سيطرته على المجتمع.
فماذا لو اختل "التوازن" في الوزن؟
هنا أصل إلى الحديث عن عيوب الوزن.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :867  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 58 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.