شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
9- فنون السجع والازدواج والترصيع والتشطير والتوشيح:
هذه الفنون جميعهاً يتضح فيها "معيار التوازن" كل الوضوح، وكثيراً ما صرح بـ "التوازن" ضمن تعريف هذه الفنون، كشرط لصحة كل منها.
فهذا "علي بن خلف" يعرف "السجع" بقوله: "يقال سجعت الحمامة تسجع سَجْعاً فهي ساجعة، وإنما اشتق هذا النعت لهذا النوع، لأن مقاطع الفصول تأتي على ألفاظ "متوازنة" متعادلة، وكلم متوازية، متماثلة، فيشبه ذلك الترجيع" (1) .
ويفصل "العسكري" الكلام في "السجع" بقوله: " أن يكون الجزآن "متوازيين" متعادلين لا يزيد أحدهما على الآخر مع اتفاق الفواصل على حرف بعينه. وهو كقول الأعرابي: (سنة جردت، وحال جهدت، وأيد جمدت، فرحم الله من رحم، فأقرض من لا يظلم)... فهذه الأجزاء متساوية لا زيادة ولا نقصان، والفواصل على حرف واحد. ومنها أن يكون ألفاظ الجزأين المزدوجين مسجوعة فيكون الكلام سجعاً في سجع وهو مثل قول البصير: "حتى عاد تعريضك تصريحاً، وتحريضك تصحيحاً".. وهذا الجنس إذا سلم من الاستكراه فهو أحسن وجوه السجع. والذي هو دونها: أن تكون الأجزاء متعادلة وتكون الفواصل على أحرف متقاربة المخارج إذا لم يمكن أن تكون من جنس واحد كقول بعض الكتاب: "إذا كنت لا تؤتي من نقص كرم، وكنت لا أوتي من ضعف سبب، فكيف أخاف منك خيبة أمل، أو عدولاً عن اغتفار زلل، أو فتوراً عن لم شعث، أو قصوراً عن إصلاح خلل "فهذا الكلام جيد "التوازن" ولو كان بدل "ضعف سبب" كلمة آخرها "ميم" ليكون مضاهياً لقوله: "نقص كرم" لكان أجود" (2) .
وما يزيد السجع شرفاً ويعزز معيار "التوازن" الجمالي أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "ربما غير الكلمة عن وجهها "للموازنة" بين الألفاظ وإتباع الكلمة أخواتها.. كقوله: "أعيذه من الهامة، والسامة وكل عين لامة". وإنما أراد ملمة" وقوله: "ارجعن مأزورات، غير مأجورات" وإنما أراد: موزورات من الوزر. فقال: "مأزورات" لمكان "مأجورات" قصداً "للتوازن" وصحة التسجيع" (3) .
أما "الازدواج" فيعرفه العسكري بقوله: "أن تكون الفواصل على زنة واحدة، وإن لم يمكن أن تكون على حرف واحد فيقع التعادل والتوازن، كقول بعضهم: "اصبر على حر اللقاء، ومضض النزال، وشدة المصاع، ومداومة المراس" فلو قال على "حر الحرب"، و "مضض المنازلة" لبطل رونق "التوازن" وذهب حسن التعادل" (4) .
أما الترصيع فيعرفه "علي بن خلف" بقوله:
"الترصيع: هو نعت واقع في موقعه، لما بين تقابل الألفاظ المتماثلة في السمع والخط وبين تقابل الجواهر المتماثلة الأجسام في الترصيع من المناسبة في المعنى، وهو أن كل واحد يفعل فيما رصع به من الرتبة والتقسيم مثل فعل الآخر... أما ترصيع "الموازنة": فهو أن يكون البيت أو الفصل مقسوماً كلمتين كلمتين من غير زيادة عليهما، وأن تكون الثانية من كل قسم على وزن الثانية من القسم الذي قبلها والقسم الذي بعدها" (5) .
و"التشطير" هو: "أن يتوازن المصراعان والجزآن، وتتعادل أقسامهما مع قيام كل واحد منهما بنفسه واستغنائه عن صاحبه، مثاله قول بعضهم: "من عتب على الزمان طالت معتبته، ومن رضي عن الزمان طابت معيشته" فالجزءان من هذه الفصول: متوازناً "الألفاظ والأبنية" (6) .
وأخيراً "التوشيح": "وهو أن يكون مبتدأ الكلام ينبئ عن مقطعه، وأوله يخبر بآخره، وصدره يشهد بعجزه، حتى لو سمعت شعراً أو عرفت رواية ثم سمعت صدر بيت منه وقفت على عجزه. قبل بلوغ السماع إليه، وخير الشعر ما تسابق صدره وأعجازه، معانيه وألفاظه، فتراه سلساً في النظام، جارياً على اللسان، لا يتنافى ولا يتنافر، كأنه سبيكة مفرغة، أو وشي منمنم، أو عقد منظم، من جوهر متشاكل متمكن، القوافي غير قلقة، ثابتة غير مرجة. ألفاظه متطابقة، وقوافيه متوافقة، معانيه متعادلة، كل شيء منه موضوع في موضعه، وواقع في موقعه، فإذا نقض بناؤه، حل نظامه، وجعل نثراً، لم يذهب حسنه، ولم تبطل جودته في معناه ولفظه، فيصلح نقده لبناء مستأنف، وجوهره لنظام مستقبل" (7) ومثاله في القرآن الكريم قوله تعالى: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ (8) إذا وقف على – أوهن البيوت – يعرف أن بعده: بيت العنكبوت".
وهكذا وجدت أن هذه الفنون البديعة قائمة على "معيار التوازن" في حد ذاتها من جهة، ومن جهة مقدار استخدامها أيضاً ضمن الكلام فيجب أن يؤتى بالكلام دون تكلف وتمحل المعنى، فإن تطلبها المعنى زاد الحسن حسنين وإن رفضها، كان الإسراف والقبح والتعنت في استخدامها.
"قال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني: إن مستعمل الأسجاع يضطر إلى أن يجعل المعاني تابعة لها، وإن ذلك عكس ما توجبه الحكمة في الدلالة، إذ الغرض الذي هو حكمة الإبانة عن المعاني التي الحاجة إليها ماسة، فإذا كانت المشاكلة على خلاف ذلك فهو عيب، لأنه تكلف من غير الوجه الذي توجبه الحكمة" (9) .
ولذا "قد اعتمد -الرسول (صلى الله عليه وسلم)- في موضع تجنب السجع وهو معرض له وكلامه كان يطلبه، فقال: (وما يدريك أنه شهيد. ولعله كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا ينفعه). ولو قال "بما لا يغنيه" لكان سجعاً. والحكيم العليم بالكلام يتكلم على قدر المقامات، ولعل قوله: "ينفعه" كان أليق بالمقام فعدل إليه" (10) .
وما قيل في "السجع" من ترك التكلف والإسراف فيه يقال في غيره من الفنون البديعة، وهذا "الخفاجي" يحذر من الإسراف في "الترصيع" بقوله: "إنه لا يحسن إذا تكرر وتوالى لأنه يدل على التكلف وشدة التصنع وإنما يحسن إذا وقع قليلاً غير نافرة" (11) .
وبعد هذه السياحة في بعض كتب البلاغة العربية، ومحاولة إيجاد معيار جمالي مشترك تستند عليه القواعد التي تتحكم في فن القول وصلت إلى الآتي:
1– إن معظم علوم البلاغة العربية تقوم على معيار "التوازن" وبقدر إصابتها من هذا المعيار يكون قبولها أو رفضها.
2- إن معيار "التوازن" يتدخل في القدر المناسب الذي يجب أن يستخدم من هذه الفنون وإلا خرج الكلام من حيز القبول إلى الرفض ومن الاستحسان إلى القبح.
3- إن "معيار التوازن" هو المعيار الجمالي المشترك الذي يرجع إليه حسن تلك الفنون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :6824  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 51 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.