6- فنون المساواة والتذييل والإشارة: |
قد يبدو الجمع بين هذه المصطلحات لأول وهلة مستغرباً إذا نظر إليها مجتمعة في ضوء معيار "التوازن". |
فالمساواة: كما يعرفها "قدامة": وهو أن يكون اللفظ مساوياً بمعنى حتى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، وهذه هي البلاغة التي وصف بها بعض الكتاب رجلاً فقال: كانت ألفاظه قوالب لمعانيه؛ أي هي مساوية لها لا يفضل أحدهما على الآخر. وذلك مثل قول "امرىء القيس": |
فإن تكتموا الداء لا نخْفه |
وإن تبعثوا الحرب لا نفقد |
وإن تقتلونا نُقَتِّلْكُمُ |
وإن تقصدوا لدم نقْصِدِ
(1)
|
|
فالمساواة إذاً: تدخل تحت معيار "التوازن" لأنها لا تتحقق إلا "بتوازن" اللفظ مع المعنى. |
أما التذييل: فهو كما يعرفه "العسكري": "إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه"
(2)
، وقد يوهم هذا التعريف بالإسراف والتكلف إلا أن اعتبار المقام يخرج هذا الفن عن الإسراف، ليدخله تحت معيار "التوازن" "فأبو هلال العسكري" يعلل لنا سبب إعادة الألفاظ على نفس المعنى بقوله: "حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكد عند من فهمه. وهو ضد الإشارة والتعريض، وينبغي أن يستعمل في المواطن الجامعة، والمواقف الحافلة، لأن تلك المواطن تجمع البطيء الفهم، والبعيد الذهن، والثّاقب القريحة، والجيد الخاطر، فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد توكد عند الذهن اللقن، وصح عند الكليل البطيء ومثاله في القرآن: ذَلِكَ جَزَيْناَهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجاَزِي إلاَّ الْكَفُورَ"
(3)
. |
لقد ذكرت سابقاً أن من ملامح هذا المعيار مراعاة المقام وملاءمة الموقف. وذكر نقاد العرب أن الكلام يحلو بمطابقته للحال، وأن "مدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقاتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم"
(4)
. |
وإذا اتضح ذلك كان فن "التذييل" قائماً -كما أرجح- على معيار "التوازن" الجمالي. ويحتاج إليه في البلاغة كما يحتاج إلى غيره. |
أما الإشارة: فهي كما عرفها "قدامة" وجعلها من نعوت اشتراك اللفظ والمعنى: "أن يكون اللفظ القليل مشتملاً على معان كثيرة بإيماء إليها أو لمحة تدل عليها كما قال بعضهم -وقد وصف البلاغة- فقال: هي لمحة دالة. ومثل ذلك قول امرىء القيس: |
فإن تهلك شنوءة أو تبدَّل |
فسيرى أنّ في غسَّان خالا |
لعزهم عززتَ وإن يذلُّوا |
فذلهم أنالك ما أنالا |
|
فبينة هذا الشعر على أن ألفاظه مع قصرها قد أشير بها إلى معان طوال. فمن ذلك قوله: (تهلك أو تبدَّل) ومنه قوله: (إنّ في غسَّان خالا) ومنه ما تحته معان كثيرة وشرح وهو قوله: (أنالك ما أنالا)"
(5)
. |
وقد يبدو للوهلة الأولى أن معيار "التوازن" لا يتحقق في فن (الإشارة) لأن الألفاظ هنا أقل من المعاني. |
ولكن إذا نظر للموقف و "التوازن" معه -كما في فن التذييل- تحقق ذلك المعيار. |
فهنالك من المواقف التي يحتاج فيها إلى التعبير عن الكثير من المعاني بالقليل من الألفاظ، والعدول عن ذلك التعبير يعتبر عيباً وقبحاً يبعد الكلام عن البلاغة. ويوصم صاحبه بالعيّ. |
وينقل "علي بن خلف" عن "قدامة بن جعفر" المواطن التي يستحسن فيها استخدام "الإشارة" فيذكر منها: "الحال التي يخاطب أو يكاتب فيها ذوو الشؤون الكبيرة، والهمم المقتسمة، ومن لا يجوز أن يُشغل بمعنى بعينه، وكان الإيجاز عنده أنفق من الإطالة"
(6)
. |
وهكذا يتضح احتياج هذا الفن إلى معيار "التوازن" من جهة مطابقة الكلام لمقتضى الحال. |
ويفضي بي ما سبق إلى أن "فن المساواة والتذييل والإشارة" كلها يحكم لها بالصحة والجمال أو بالخطأ والقبح من خلال معيار "التوازن" بين سياق نوع الفن والموقف. |
وهذا "الخفاجي" يؤيد ما ذهبت إليه فيقول: "حد المساواة المحمودة هو: إيضاح المعنى باللفظ الذي لا يزيد عنه ولا ينقص. وقد احترزت بقولي: (إيضاح) مما احترزت منه في حد الإيجاز، لِما أذهب إليه من قبح العبارة عن المعنى باللفظ الذي لا يوضحه، وفرقت بين المساواة والتذييل بقولي: (لا يزيد عنه) لأن التذييل: لفظ يزيد على المعنى، وفرقت بين المساواة والإيجاز والإخلال بقولي: (ولا ينقص) لأن الإيجاز: إيضاح المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ، والإخلال هو: نقص المعنى باختصار اللفظ، فقد فهم بهذا القول: الإيجاز والإخلال والمساواة والتذييل"
(7)
. |
وهكذا يتضح أن استيفاء اللفظ للمعنى ينظر إليه مقروناً بالموقف بغض النظر عن كثرة اللفظ أو قلته، وهذا ما أتصوره: "توازن الكلام مع الموقف" وأن أي خلل في هذا "التوازن" هو ما سماه السابقون بـ "الإخلال" والذي به يُعاب النص ويوصم بالقبح. |
ويوضح "علي بن خلف" الإخلال بقوله: "أن نخل من اللفظ بما فيه استيفاء المعنى وتمام القصد... وعكس الإخلال: هو أن يؤتى في كلام بزيادة تفسد المعنى"
(8)
. |
|