5– فنا التقسيم والتفسير: |
أما التقسيم: فمن أوائل من تعرض لهذا الفن "العسكري" الذي عرفه بقوله: "التقسيم الصحيح أن تقسم الكلام قسمة مستوية تحتوي على جميع أنواعه، ولا يخرج منها جنس من أجناسه"
(1)
. |
وجعله "حازم" مما يكمل به المعنى، فقال: "فأما الكمال في المعنى فباستيفاء أقسامها، واستقصاء متمماتها وانتظام العبارات جميع أركانها حتى لا يخل من أركانها بركن، ولا يغفل من أقسامها قسماً، ولا يتداخل بعض الأقسام على بعض. ومن المعاني التي وقع التقسيم فيها تاماً صحيحاً قول الشماخ: |
متى ما تقع أرساغه مطمئنة |
على حجر يرفضّ أو يتدحرج |
|
لأن الحجر إن كان رخواً ارفضّ، وإن كان صلباً تدحرج. |
ومن أمثلة ذلك في النثر قول بعضهم: فلم تخل فيما بدأتني به من مجد تأثلته أو شكر تعجلته، أو أجر ادخرته، أو متجر اتجرته، أو من أن تكون جمعت ذلك كله"
(2)
. |
وهكذا فإن "التقسيم" يقوم أيضاً على "معيار التوازن" الدقيق بين أقسام الكلام وبين مدى استيفاء الأديب لقسمته. ومما لا شك فيه أن المتلقي إذا شرع في سماع القسمة في الكلام، فإن ذلك سيكون مما يثير الانتباه إلى تتميم تلك القسمة بما يوافيها حقها فإن استوفاها المنشئ، استوفت أيضاً عند المتلقي فسكنت نفسه بذلك الاستيفاء وشعر بجمال الكلام، أما إن أخل المنشئ بأركان قسمته بأي نوع من الخلل، فإن ذلك سيؤثر على نفسية المتلقي بما يشعره بخلل الكلام ونفوره منه. |
ويؤكد ذلك "علي بن خلف" فيقول: "من شأن القسمة المعتدلة أن تحسن الصورة، ولذلك سموا الحسن قساماً، والوجه قسيمة، وقالوا وجه مقسّم أي حسن كأن قسمة تخطيطه متعادلة، ورجل مقسم إذا كان وضيئاً. وكذلك تفعل القسمة المعتدلة أيضاً في المعاني الوهمية، لأنها إذا صحت قسمتها ظهر أمرها وتميز الحسن من القبيح"
(3)
. |
وهكذا وضح أثر معيار "التوازن" في تحسين القسمة. |
وكما كانت دقة "التوازن" معياراً لصحة فن التقسيم وجماله، كان الاختلال في "التوازن" معياراً لفساد التقسيم وقبحه. |
وقد فصّل "علي بن خلف" في ذكر فساد التقسيم وجماله، فقال: "تقسيم الكلام يفسد بأحد ثلاثة أشياء: إما بزيادة، أو نقص، أو بتداخل. أما الزيادة: فهي تكرير ما لا يحتاج إليه. أما النقص: فهو الإخلال ببعض الأقسام. أما التداخل: فهو يتداخل بعض الأقسام في بعض"
(4)
. |
ويشير "حازم" إلى ذلك بقوله: "وينبغي أن يتحرز في القسمة من وقوع النقص فيها أو التداخل، أو وقوع الأمرين فيها معاً. فإن ذلك مما يعيب المعاني ويسلب بهجتها ويزيل طلاوتها. كما أن القسمة إذا تمت وسلمت من الخلل الداخل فيها من حيث ذكر، وطابق حسن تركيب العبارة فيها حسن ترتيب المعاني كان الكلام بذلك أنيق الديباجة قسيم الرواء والهيئة"
(5)
. |
ومثال ما أفسد التقسيم فيه نقص القسمة قول جرير: |
صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهم |
من العبيد وثلث من مواليها |
|
فهذه قسمة ناقصة لأنه أخل بالقسم الثالث. وقيل: إن بعض بني حنيفة سئل: من أي الأثلاث هو من بيت جرير؟ فقال: من الثلث الملغى. |
ومما نقصت قسمته من المعاني بتداخل قسم على قسم قول أبي تمام: |
قسم الزمان ربوعها بين الصبا |
وقبولها ودبورها أثلاثا |
|
فتداخلت القسمة لأن القبول هي الصبا على ما ذكره جماهير أهل اللغة. |
التفسير: |
يعرفه "قدامة" بقوله: "وهو أن يضع الشاعر معاني يريد أن يذكر أحوالها في شعره الذي يصنعه فإذا ذكرها أتى بها من غير أن يخالف معنى ما أتى به منها، ولا يزيد ولا ينقص مثل قول "الفرزدق": |
لقد جئت قوماً لو لجـأت إليهـم |
طريد دم أو حامـلاً ثقـل مغـرم |
|
فلما كان هذا البيت محتاجاً إلى تفسير قال: |
لألفيت منهم معطياً أو مطاعناً |
وراءك شزراً بالوشيج المقوم |
|
ففسر قوله: "حاملاً ثقل مغرم" بقوله: "تلقى فيهم من يعطيك". |
وقوله: "طريد دم" بـ "تلقى فيهم من يطاعن دونك"
(6)
. |
من النص السابق تبين لي أن هذا الفن أيضاً قائم على معيار "التوازن". |
فإن قوله: "لا يزيد ولا ينقص" يوحي بشدة احتياج ذلك المعيار للمنشىء، أما إن لم يتوخَ الأديب الدقة و "التوازن" فيما ينشئ فإن ذلك سيسبب الخلل في "التفسير" مما يبعد النص عن الجمال ويصمه بالقبح. |
ويؤيد ذلك "علي بن خلف" بقوله: "التفسير يفسد بأن توضع معان تقتضي شرحاً، فإذا شرحت عدل عما يقتضيه بزيادة أو نقصان"
(7)
. |
ويشرح "حازم" كيف يقع الخلل بالزيادة عما هو مطلوب، أو نقص ما هو مطلوب في فن "التفسير" فيقول: "ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسِّر المفسَّر، وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسِّر عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى المفسَّر، أو أن تكون في ذلك زيادة لا تليق بالغرض، أو أن يكون في المفسِّر زيغ عن سنن المعنى المفسَّر، وعدول عن طريقه حتى يكون غير مناسب له، ولو من بعض أنحائه، بل يجهد في أن يكون وفقه في جميع الأنحاء"
(8)
. |
فإذا كان "حازم" يشترط في المفسِّر أن يكون "وفق" المفسَّر، ألا يحق لي أن أقول إنه يشترط "توازن" المفسِّر للمفسَّر؟. |
وإذا كان جمال "التفسير" يقوم على "التوازن" بين المفسِّر والمفسَّر فإن قُبْح "التفسير" يتحقق "باختلال التوازن". |
"ومما جاء من التفسير غير وفق للمعنى المفسِّر قول بعضهم: |
فيا أيها الحيران في ظُلُم الدجى |
ومن خاف أن يلقاه بغي من العدا |
تعال إليه تلق من نور وجهه |
ضياءً ومن كفيه بحراً من الندا |
|
فمقابلة ما في عجز البيت الأول بما في عجز الثاني غير صحيحة. والتسامح في إيراد "التفسير" على مثل هذا مخل بوضع المعاني، ومُذهب لطلاوة الكلام فينبغي أن يتحرز منه وألا يتسامح في مثله"
(9)
. |
فكان يجب أن يأتي بإزاء (بغي العدا): بالنصرة أو بالعصمة أو بالوزر أو ما يجانس ذلك مما يحتمي به الإنسان. |
كما وضع بإزاء ما يتخوف من (بغي العدا، بحراً من الندى) فليس ذلك تفسير لذلك"
(10)
. |
وهكذا يكون المعيار الذي يحكم جمال فنّ "التفسير" هو: معيار "التوازن" وأي خلل في هذا "المعيار" يصحبه قبح التفسير. |
|