4- فنا التشبيه والاستعارة: |
وهما من الفنون التي يقوم جمالها أيضاً على "التوازن" ولكنه "توازن" لطيف دقيق، لا يتضح مباشرة كما في الطباق والمقابلة. وبما أن الاستعارة تعتمد على التشبيه في بنائها لذا فلن أفردها بكلام. |
ويعرف "ابن رشيق" التشبيه بقوله: "صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة"
(1)
. |
فقوله: قاربه وشاكله هما اللتان إلى حكمة الأخذ بمعيار "التوازن" لقياس صحة التشبيه وجماله. |
فكلما كان المشبه به مساوياً أو مناظراً للمشبه من حيث الهيئة أو اللون أو المقدار أو الحركة، كان التشبيه جميلاً مهما تفاوت البعد بين الطرفين وندر الجمع بينهما في الذهن. وكلما اختل "التوازن" بين المشبه والمشبه به في أي جهة من الجهات السابقة ضعف التشبيه وقبح. |
ويؤكد "حازم" هذه الحقيقة فيقول: "ولهذا نجد المحاكاة أبداً يتضح حسنها في الأوصاف الحسنة التناسق المتشاكلة الاقتران"
(2)
. |
فمثلاً إذا أردنا تشبيه هيئة بهيئة -فإني أتصور- أن لمعيار "التوازن" دخلاً كبيراً في تحسين التشبيه أو تقبيحه. وذلك بالقدرة على إيهام التضاد بين المشبه والمشبه به، فإن شدة التفاوت بين ركني التشبيه تجعل التشبيه جميلاً، وهذا التفاوت يحصل من حيث قربه من فكر المتلقي أو بعده، فكلما كان التفاوت كبيراً أعجب به المتلقي وأثر في نفسه وشعر بجماله. |
ويؤيد ذلك "عبد القاهر الجرجاني": "هكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت أن التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها أن يحدث الأريحية أقرب، وذلك أن موضع الاستحسان ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتألف للنافر من المسرة، والمؤلف لأطراف البهجة، أنك ترى بها الشيئين مثلين متباينين ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض، وفي خلقه الإنسان وخلال الروض... إلى أن يقول – وإذا ثبت هذا الأصل وهو أن تصوير الشبه بين المختلفين في الجنس مما يحرك قوى الاستحسان، ويثير الكامن من الاستظراف، فإن التمثيل أخص شيء بهذا الشأن. – ثم يقول: هل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بعد ما بين المشرق والمغرب ويجمع ما بين المشئم والمعرتي"
(3)
. |
والمدقق في النص السابق يجد أن سر جمال ذلك النوع من التشبيه يأتي من إبهامه التضاد "ترى بها الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض"، وبما أن "التوازن" في بعض أوجهه يقوم على الجمع بين المتضادين كان هذا النوع من التشبيه يقوم على "التوازن". |
كما يتضح "معيار التوازن" في التشبيه من جهة أخرى، ألا وهي حسن اختيار اللفظ المناسب الذي يكون بحجم الصورة فيتلائم معها ويقابلها. |
وقد تنبه إلى ذلك "حازم" فقال: "واعلم أن منزلة حسن اللفظ المحاكى به وإحكام تأليفه من القول المحاكى به ومن المحاكاة بمنزلة عتاقة الأصباغ وحسن تأليف بعضها إلى بعض وتناسب أوضاعها من الصور التي يمثلها الصانع. كما أن الصورة إذا كانت أصباغها رديئة وأوضاعها متنافرة وجدنا العين نابية عنها، غير مستلذة لمراعاتها، وإن كان تخطيطاً صحيحاً، فكذلك الألفاظ الرديئة والتأليف المتنافر، وإن وقعت بها المحاكاة الصحيحة فإنا نجد السمع يتأذى بمرور تلك الألفاظ الرديئة القبيحة التأليف عليها ويشغل النفس تأذي السمع عن التأثر لمقتضى المحاكاة والتخييل. فلذلك كانت الحاجة في هذه الصناعة إلى اختيار اللفظ وإحكام التأليف أكيدة جداً"
(4)
. |
ومن هنا كان المعيار الذي يستند إليه صحة التشبيه هو "التوازن" الدقيق بين الصورة واللفظ حتى تظهر الصورة "متوازنة" مع الحالة الشعورية عند الأديب. |
ويتضح معيار "التوازن" في التشبيه أكثر عندما يختل ذلك المعيار من أي جهة من الجهات التي تؤثر في العلاقة بين المشبه والمشبه به وقد حذر "حازم" الأدباء الوقوع في ذلك حيث قال: "واعلم أنه لا تحسن محاكاة ذي مقدار كبير بذي مقدار صغير، ولا محاكاة ذي مقدار صغير بذي مقدار كبير، إذا كان بينهما تفاوت في ذلك، وكذلك لا تحسن محاكاة ذي لون بذي لون مخالف له ما لم تقصد فيما تفاوت من ذلك وما تخالف محاكاة هيئة فعل أو حال في المحاكى به، فإذا قصدت محاكاة هيئة بهيئة لم تلتفت إلى تفاوت ما بين الواحد والآخر في المقدار ولا تباين ما بينهما في اللون. ولذلك استحسن تشبيه "الذباب" بـ "القادح" لأن المقصود محاكاة إحدى الحالتين بالأخرى"
(5)
. |
كما يقبح التشبيه عند "العسكري" إذا أدى إلى "إخراج الظاهر فيه إلى الخافي، أو المكشوف إلى المستور والكبير إلى الصغير"
(6)
. |
إذاً فمعيار "التوازن" هو المحك الذي يعتبر به التشبيه جميلاً أو قبيحاً. |
فكلما كان "التوازن" تاماً بين المشبه والمشبه به في الهيئة أو اللون أو المقدار كان التشبيه جميلاً. |
وكلما اختل "التوازن" بين المشبه والمشبه به في الهيئة أو اللون أو المقدار كان التشبيه قبيحاً. |
وهكذا توصلت إلى أن الفنون البلاغية السابقة – الطباق والمقابلة والتشبيه – تعتمد في جمالها وصحتها على "التوازن" إما بشكل مباشر كما في الطباق والمقابلة وذلك لاعتمادها على اجتماع الضدين، وإما بشكل غير مباشر كما في التشبيه لاعتماده على متماثلين متناظرين وهو ما يوهم بالضد في عملية التخيل. |
وهذه العملية وهي التقاء المتضادات أو المتشابهات تؤثر في النفس وتبعث على الشعور بالجمال، ما دام استعمال الأديب لها دون تكلف وتمحل. |
ويؤكد "حازم" أن جمال هذه الفنون في جمعها للأشياء المتناظرة والمتقابلة فيقول: "واعلم أن النسب الفائقة إذا وقعت بين هذه المعاني المتطالبة بأنفسها على الصور المختارة... من حيث إن المعاني متناظرة كان ذلك من أحسن ما يقع في الشعر. فإن للنفوس في تقارن المتماثلات وتشافعها، والمتشابهات والمتضادات وما جرى مجراها تحريكاً وإيلاعاً بالانفعال إلى مقتضى الكلام، لأن تناصر الحسن في المستحسنين المتماثلين والمتشابهين أمكن من النفس موقعاً من سنوح ذلك لها في شيء واحد. وكذلك أيضاً مثول الحسن إزاء القبيح أو القبيح إزاء الحسن مما يزيد غبطة بالواحد وتخلّياً عن الآخر لتبين حال الضد بالمثول إزاء ضده. فلذلك كان موقع المعاني المتقابلات من النفس عجيباً"
(7)
. |
ويقول في موطن آخر: "فإذا أردت أن تقارن بين المعاني وتجعل بعضها بإزاء بعض، وتناظر بينها فانظر مأخذاً يمكنك معه أن تكوّن المعنى الواحد وتوقعه في حيّزين، فيكون له في كليهما فائدة، فتناظر بين موقع المعنى في هذا الحيز وموقعه في الحيز الآخر فيكون من اقتران التماثل، أو مأخذاً يصلح فيه اقتران المعنى بما يناسبه فيكون من اقتران المناسبة، أو مأخذاً يصلح فيه اقتران المعنى بمضاده فيكون هذا مطابقة أو مقابلة"
(8)
. |
وهكذا جمع لنا "حازم" هذه الفنون السابقة تحت معيار "التوازن" سواء الفنون التي يتضح فيها هذا المعيار مباشرة أو التي يتضح فيها عن طريق غير مباشر. |
|