تمهيد |
عرف عن العالم العربي قبل الإسلام وبعده، حبه للكلام الجميل إما إنشاداً أو سماعاً، ووصفت لنا بعض كتب الأدب المحافل الأدبية التي كانت تقام في معظم شهور السنة – أقصد بها الأسواق – والتي كان الشعراء يحتفون بها غاية الاحتفاء فيحضرون إلى مكة وحواليها في مواعيدها، لقول الشعر أو سماعه. |
فالشعراء يختارون أجود قصائدهم التي قد نقحت وهذبت غاية التنقيح والتهذيب، والجمهور يأتي بحس لغوي فصيح، وذوق جمالي عربي نقي، لم يتأثر بعد بأذواق البيئات غير العربية، وهكذا كانت إرهاصات النقد العربي. |
وجاء الإسلام بمفاهيمه الشاملة التي غطت احتياجات العربي الحسية والمعنوية، والروحية والجسدية. |
جاء ليحقق "التوازن" في تلك الشخصية المفرطة في كل ميدان، إفراطاً شديداً في حب الخير، يقابله إفراط أشد في نوازع الشر، ويندرج تحت هذا وذاك قائمتان طويلتان من الصفات الخلقية، كل صفة وما يقابلها تكمن في ذلك الصدر العربي، وتستشرف التوجيه الصحيح لها وجاء الإسلام فارتوت منه تلك النفوس العطشى، جرعة جرعة حتى اكتملت الرسالة وتوفي صاحبها (صلى الله عليه وسلم) وقد ترك وراءه قوماً ارتوت نفوسهم من ذلك النبع الصافي "فتوازنوا" معه أتم ما يكون "التوازن". |
إن الإسلام جاء بمفاهيم شاملة أوجه النشاط الاجتماعي للإنسان ولكن هذه المفاهيم لم تكن جديدة كل الجدة عن العربي، بل كانت لها جذور في الشخصية العربية، ولكنها جذور جافة لم تثمر بعد الثمر المطلوب، فلما ارتوت من ذلك النبع، أخرجت لنا خير أمة عرفها التاريخ وقد قال (صلى الله عليه وسلم): |
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
(1)
التي بدأها الأنبياء السابقون والشاهد في هذا الحديث كلمة "أتمم" التي توحي بـ "التوازن" الذي حققه الإسلام مع الأخلاق العربية. وكأني بذلك "التوازن" يكمل الناقص، وينقص المفرط. |
وعودة إلى العربي المحب للكلام الجميل، أجد أن الإسلام غذى هذا الرافد أيضاً بأرقى ما يكون الغذاء، فقد جاءه الإسلام بمنبعين صافيين: القرآن الكريم والبيان النبوي الشريف. |
لقد جاءه القرآن الكريم على نفس النمط الجميل الذي كان يتطلع إليه في فن القول، فإن لم يكن على نفس ما ألفه لم يكن ليعجبه، وبذا لن يصبح للمعجزة والتحدي أي صدى عندهم. إن اختصاص محمد (صلى الله عليه وسلم) من بين الرسل بمعجزة القرآن الكريم لتزيد الإحساس بشرف جمال القول عند العرب، حتى إن معجزتهم انصبت على هذا الميدان في بداية الأمر. |
فالعربي افتتن بصياغة القرآن وأسلوبه وبيانه، وشرف معانيه في أول الأمر، ثم بعد ذلك أخذ كلما ارتقى به الإسلام، غاص في تدبر القيمة الأخلاقية أو السياسية أو الاقتصادية وأخيراً العلمية التي تدور حولها معاني القرآن العظيم. |
لقد أقبل العربي على ذلك النموذج الراقي يملؤه الإعجاب به والتعجب منه، فهو بلسان عربي مبين ولكنه ما هو بقول شاعر، ولا هو بتراتيل كاهن، ولا طلاسم ساحرٍ. ومع ذلك فهو عربي، عربي في أسلوبه، وفي ذوقه، في استثارة مكامن الجمال في الحس العربي. إنه يخاطبهم وكأنه منهم، يلفت نظرهم في السماء والأرض إلى كل ما يعرفونه، يعرف سرهم وعلانيتهم. ومع ذلك يأتي أبلغهم -الوليد بن المغيرة- فيحكم بأنه أرفع منهم، وأرقى منزلة. |
إن نزول القرآن الكريم بلغة العرب، وبنفس أسلوبهم، ليعزز ويتمم سير الخط الجمالي عند العرب قبل الإسلام وبعده. فكما تمم رسول الله مكارم الأخلاق، تمم القرآن الكريم النظرة الجمالية للأدب العربي، فكان بالنسبة لهم النموذج الراقي، الذي يحتذيه الفنان العربي. |
يأخذ كل أديب من قيمه الفنية – الشكل – على حسب قدرته ومهارته الأسلوبية. ويأخذ كل أديب من قيمه المعنوية – المضمون – على حسب درجته من التقوى والإيمان. |
وكون القرآن بلسان عربي مبين، شرف للعربية، وللذوق الجمالي عند العرب، لأنه حمل ذلك الذوق إلى غير العرب، من المنتمين إلى الإسلام في كل أصقاع الدنيا. |
فالنظرة الجمالية للعربي في الجاهلية بالنسبة لفن القول تكاد تكون هي نفسها عند الفارسي وعند الأندلسي في العصور التالية، بل نجد ظلها عند شعراء التروبادور في الأدب الأوروبي. وفي عصرنا الحاضر تكاد تكون تلك النظرة الجمالية كالنهر الذي تصب فيه روافد شتى تزيد ذلك النهر عذوبة وعمقاً. |
ولكي أتعرف على النظرة الجمالية في النقد العربي، عدت إلى بعض أمهات كتب الأدب، واطلعت على ما جاء فيها من قريب أو بعيد بما يخص أحكامهم الجمالية على بيت شعر، أو فصل نثر. |
وبعد الاطلاع على هذه الأحكام، لحظت أن العربي عندما يحكم على نص أدبي بالجمال فإنه يرتب هذا الحكم على ثلاثة أمور: |
- الأمر الأول: أمور تتعلق بالنص. |
- الأمر الثاني: أمور تتعلق بالمتلقي. |
- الأمر الثالث: أمور تتعلق بالنص والمتلقي. |
|