أ- "التوازن" في مفهوم الإغريق: |
لحظ فلاسفة الإغريق ظاهرة "التوازن" الموجودة في الكون وفي بناء الإنسان الروحي والمادي. وعبروا عن "التوازن" في كثير من آرائهم الفلسفية، غير أن فهمهم "للتوازن" أجده يقترب حيناً من الفهم الإسلامي ويبتعد أحياناً أخر. |
فأجدهم يقتربون من المفهوم الإسلامي "للتوازن" عندما يتحدثون عن الأضداد، ووجوب الحركة بينهما حتى تستمر الحياة. |
فمن آراء "هرقليطس" (540 –475ق.م.): |
"لولا التغير لم يكن شيء فإن الاستقرار موت وعدم، والتغير صراع بين الأضداد ليحل بعضها محل بعض"
(1)
. |
وفي نفس المعنى يقول "فيثاغورس"(572 –497ق.م.): |
"إن النفس نوع من النغم، ومعنى ذلك أن الحي مركب من كيفيات متضادة (الحار والبارد واليابس والرطب) والنغم توافق الأضداد وتناسبها، بحيث تدوم الحياة ما دام هذا النغم وتنعدم بانعدامه. وبنوا الطب على تناسب الأضداد فقالوا: إن مبدأ الحياة الحار ملطفاً بالبارد أي بالهواء الخارجي يجذب بالشهيق ويدفع بالزفير، فإذا اختلت النسبة بينهما كان المرض، وإذا زاد الاختلال كان الموت، فالحياة والصحة تناسب وتناسق، |
والمرض والموت اختلال التناسب أي إفراط أو تفريط بالإضافة إلى الحد الملائم. والتطبيب حفظ التناسب أو إعادته"
(2)
. |
وقد جعل أفلاطون (427 –347ق.م.): "التوازن" أساساً لعدة قيم منها: |
- الحكمة فهو يقول: "إن الحكيم بالإجمال هو الملتزم جادة القصد والاعتدال والحكيم في السياسة على الخصوص هو الذي يحقق في نفسه هذا الاعتدال"
(3)
. |
- والسعادة وفيها يقول: "لا تقل إن السعادة تقوم في الشهوة الغوية وفي اللذة بالإطلاق، وإنما قل إن الإنسان أسعد حالاً في النظام منه في الإسراف"
(4)
. |
- الفضيلة فهو يقول: "إن كل شيء إنما يقوم بالنظام والتناسب، فإذا اختل النظام فقد الشيء قيمته وفضيلته... كما أن الكيفية التي تحدث في الجسم عن النظام والتناسب تدعى الصحة والقوة، فإن النظام والتناسب في النفس يسميان القانون والفضيلة"
(5)
. |
أما "أرسطو" (384 –322ق.م.) فقد اشتهر بكلامه عن الوسط العدل، أو الوسط الفاضل كما يسميه، وجعله أساس الفضيلة فهو يعرف الفضيلة بقوله: "هو أن تختار الوسط العدل بين إفراط وتفريط كلاهما رذيلة"
(6)
. |
وعند دراستي لرأيه في ذلك "الوسط" تبين عندي أنه يقترب كثيراً مما أدعوه "التوازن" فهو يشرح ذلك "الوسط" مبرئاً إياه من الوسط الرياضي بقوله: "ليس هذا الوسط كالوسط الرياضي الذي نعنيه في المقدار المتصل على مسافة واحدة من طرفين فلا يتغير، وإنما هو وسط بالإضافة إلينا، متغير تبعاً للأفراد والأحوال"
(7)
. |
وهذا القول شبيه للتعريف الإسلامي "للتوازن"، إنما الاختلاف بين الفكرين "الأرسطي" والإسلامي يبدو في أن أرسطو أرجع تعيين ذلك الوسط للحكمة، والفكر الإسلامي أرجعها لكتاب الله وسنة نبيه. لأن "أرسطو" قال في تعيين "الوسط": "على أن الفضيلة، إن كانت من حيث الماهية وسطاً بين طرفين مرذولين، فإنها من حيث الخبر حد أقصى وقمة، إذ أن الوسط هو ما تحكم الحكمة -بعد تقدير جميع الظروف- بأنه ما يجب فعله "هنا والآن "فهو خير بالإطلاق". |
وهكذا جعل "أرسطو" الفرد الحكيم قادراً على تحديد التعامل مع الموقف "بتوازن" من وجهة نظره هو واثقاً بالعقل، وإنما الفرد في المفهوم الإسلامي يحقق "توازنه" بالتعامل مع الموقف بحرية مقتدياً في ذلك بالشرع: "القرآن والسنة النبوية". |
كما يقترب "أبيقورس" (341 –270 ق.م.) من المفهوم الإسلامي "للتوازن" عند حديثه عن السكينة والطمأنينة الناتجين عن "التوازن" فَهو يقول: "إنما تنشأ النزعات من اختلال توازن الجسم، فإذا استعاد الجسم توازنه زال ألمه فاطمأن وسكن، هذه الطمأنينة هي اللذة التي تنتهي ويعود الألم إذا عاد الجسم إلى الاختلال، فالنزوع وسط بين سكونين، وهو حركة يريد بها الكائن الحي أن يدفع الألم عن نفسه، أي أن يستعيد: "توازنه" وسكونه، وليس السكون فراغاً من اللذة، أو حالة شبيهة بالنوم أو الموت، فإن مثل هذه الحالة ليست سعادة، ولكنه هو اللذة بعينها هو الاستمتاع "بالتوازن"،... إذن فغايتنا القصوى يجب أن يكون "التوازن" التام، والطمأنينة التامة، بمأمن من كل اختلال واضطراب... ويجب أن يتوجه جهدنا إلى توفير الطمأنينة للنفس، كما نحاول أن نوفر للجسم توازنه"
(8)
. |
وهكذا نجدهم يقتربون من الفهم الإسلامي "للتوازن" عندما يتحدثون عن ملامح "التوازن" كالحركة، ووجود الأضداد، والسكينة ولكنهم يبتعدون كثيراً عن المسلمين عند حديثهم عن جوهر "التوازن". |
وأول ما لفت نظري في هذا الخلف تقديرهم "للتوازن" على أنه مزج بين طرفين متضادين ينتج عنه طرف ثالث متوسط هو الفضيلة. |
فالعدالة مثلاً عند "أفلاطون" يجب أن تكون الإحسان دائماً، وأن يوجه إلى الأصدقاء والأعداء، "لأن الإساءة إساءة إلى النفس أولاً، فالذي يقابل الشر بالشر يفقد عدالته، ويزيد الشرير شراً، فتنتج هذه العدالة المزعومة ضدها من الناحيتين"
(9)
، وهذا الكلام بالطبع ينافي الحياة الواقعية، التي يقرها الإسلام، فكما أنه يوصي بالإحسان إلى المسيء في مواقف معينة، إلا أنه يأمر بمعاقبته إذا لم يعط الإحسان النتيجة المطلوبة، ولا يسمى العقاب في هذه الحالة إساءة بقدر ما هو إحسان للمسيء، وللمجتمع. |
يقول تبارك وتعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ
(10)
، فمعاقبة المعتدي بمثل ما اعتدى به عدل يُقره الإسلام ويوصي به، والمثلية في الآية إيماء إلى "توازن" آخر، فالصبر على المعتدي ربما يقلبه من موقف العدوان إلى موقف التوبة والاعتذار، فيثمر "التوازن" هنا مودة وحباً بين الطرفين، بينما يثمر "التوازن" من النوع الأول شفاء للمعتدى عليه. |
|